يصعب تصور تجربة درامية متماهية مع مواقف صاحبها وأفكاره قدر تجربة المخرج السوري حاتم علي (1962 – 2020). وفاته يوم أمس، الثلاثاء 29 كانون الأول/ديسمبر الجاري، وما تلاها من أحاديث تُشيد وتذكّر بمنجزه وأثره الهائل على الدراما السورية والعربية معًا، تُعزز من هذه الانطباعات لاعتباراتٍ عديدة، ذاتية حينًا، وموضوعية في أحايين أخرى، مما يجعل من تجربة الراحل انعكاسًا لمواقفه، وتجسيدًا لأفكاره، وإن بشكلٍ غير مباشر، ودون قصدٍ أو نية.
قدم حاتم علي في "التغريبة الفلسطينية" عملًا دراميًا ينافس ويقاوم، في مضمونه وشكله، التاريخ الملفق الذي تسعى الحركة الصهيونية إلى ترسيخه
وإذا كانت هذه الانطباعات غير قابلة للتطبيق على تجربة حاتم علي بمجملها، بسبب اختلاف وثراء وتنوع مواضيعها، فإنها تنطبق بشكلٍ لافت على "التغريبة الفلسطينية"، عمله الأيقوني الشهير الذي أعاد كتابة المأساة الفلسطينية، وتأريخ الوجع الفلسطيني، ورسم خارطة شتات الفلسطينيين أيضًا، مما منحه مكانة متقدمة في عداد الأعمال الدرامية الخالدة والفارقة في تاريخ الدراما العربية. الأحرى أن "التغريبة الفلسطينية" حاز مكانته هذه لا للأسباب السابقة فقط، وإنما لكونه عمل درامي يصون، بجملٍ بصرية دقيقة، ذاكرة يُراد لها أن تُمحى.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل حاتم علي.. أندلس الدراما التلفزيونية بات مفقودًا
ولعل هذه الجزئية أعلاه تشكّل مدخلًا لا بد من التوقف عنده مطولًا عند استعادة أو قراءة تجربة صاحب "الفصول الأربعة"، خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، في ضوء إعادة قراءة هذه التجربة أو سردها، حركة التطبيع العربية المتسارعة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما سبقها ورافقها وتبعها من هجماتٍ استهدفت الشعب الفلسطيني، وزعمت أن قضيته غير عادلة أو محقة، بالإضافة إلى اتهامه ببيع أرضه للصهاينة، عبر خطاب يمكن وصفه بـ"المريض"، يفصل الحدث عن سياقه وتاريخه، ويحمّل الضحية مسؤولية أفعال الجلاد، في مسعىً واضح لطمس حقيقة هذه القضية، وتحريف الذاكرة الجمعية بما يتناسب مع التوجهات الجديدة والمشينة لبعض الدول العربية اللاهثة خلف قطار التطبيع.
مهدت الدول العربية المطبعة مؤخرًا، الإمارات والبحرين تحديدًا، طريقها نحو التطبيع عبر تبني السردية الصهيونية لما حدث في فلسطين، وإنكار السردية الفلسطينية. هنا، يحضر عمل حاتم علي، "التغريبة الفلسطينية"، بصفته عملًا دراميًا ينافس ويقاوم، في مضمونه وشكله، التاريخ الملفق الذي تسعى الحركة الصهيونية إلى ترسيخه. والحال أن هذه الدول أخذت على عاتقها المهمة ذاتها: ترسيخ تاريخٍ ملفق وإنكار آخر مُثبت بما لا يدع مجالًا للشك، وإلا كيف يُفسّر حذف منصة إعلامية سعودية، خلال الأشهر القليلة الماضية، للعمل نفسه؟ التغريبة الفلسطينية؟
لا تفسّر هذه الخطوة إلا بصفتها انخراطًا رسميًا في مشروع طمس الذاكرة الفلسطينية. من هنا يأخذ المسلسل أهميته: من كونه ذاكرة منافسة لما يُلفّق ويُحرّف، عدا عن أنه عمل عابر للأزمة، يصلح لكل وقت، وإن مضى عليه أكثر من عقدٍ من الزمن، إلا أنه لا يموت، لكونه، وكما هو حال الموضوع الذي يتناوله، ماضٍ يُلاحق الحاضر، ويشكّل برفقة عوامل وعناصر أخرى، حجر عثرة في وجه هذه الطموحات التي تُغذي سردية ملفقة وغير صحيحة البتة، تتضافر الجهود الصهيونية، وبعض الجهود العربية مؤخرًا، لترسيخها وفرضها أمرًا واقعًا، وبالتالي طي صفحة هذه القضية برمتها، وهو ما لا يسمح به مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، ولا نبالغ إن قلنا بأن حاتم علي أنجزه انطلاقًا من هذه النقطة: أن يذكّرنا دائمًا بما جرى، بما لحق بالشعب الفلسطيني، وبمن هو الجلاد ومن هو الضحية، وما هو موقعنا بينهما، وموقفنا منهما.
ومن بين مشاهد المسلسل، يمكن الاستعانة هنا بمشهد لا يتجاوز ثلاث دقائق لتدعيم الانطباع أعلاه: مشهد يظهر فيه رشدي، وهي شخصية جسدها للمصادفة حاتم علي نفسه، يسير هائمًا على وجه داخل المخيم، تُحرّكه ذاكرته التي تستعيد لقطاتٍ تبدأ بمشهد قصف قريته من قبل العصابات الصهيونية، على وقع صراخ الأطفال والنساء. يواصل سيره فيتوقف عند جدار كُتب عليه "عاشت فلسطين"، ليستعيد عنده مشهد نزوحهم الجماعي نحو المجهول. يواصل سيره، يجري، فيستعيد مشهد مزاحمته، طفلًا، لأطفالٍ آخرين للحصول على الطعام. يتابع جريه حتى يصل إلى مغارة يخرج منها ببندقية تختزل المشهد بأكمله، وتبدو فيه أقرب إلى: البوصلة.
اقرأ/ي أيضًا: أقوال عن حاتم علي
تدخل السردية الصهيونية التي تروجها وسائل إعلام ومنصات تابعة للدول المطبعة، ضمن إطار "النسيان"، بما هو نعمة يسعى الكيان الصهيوني عبرها إلى تغييب الكثير من الحقائق والوثائق التاريخية، لأجل أهدافٍ عديدة يمكن اختزالها بمحو تاريخ حافل بالعنف والدماء، عبر طمس ما يدل عليه: السردية الفلسطينية والذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، وهي الذاكرة التي تشير وتؤكد بأن هذه التاريخ وما يحفل به أيضًا، هو أساس دولة الاحتلال، نهضت عليه وبفضله، بصفتها دولة ذات نظام استعماري واستيطاني، قامت هيكلته على أساس القتل والتهجير والتطهير العرقي، وهو ما نراه واضحًا ومباشرًا وجليًا ودقيقًا وصادقًا في "التغريبة الفلسطينية"، التي تُعد اليوم أحد الجدران المتينة للخطاب الفلسطيني المضاد للخطاب الصهيوني.
اكتسب "التغريبة الفلسطينية" أهميته من كونه يوفر خط دفاع متقدم عن الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وسرديتها التاريخية، باعتبارها سردية مضادة
ومن هنا أيضًا يأخذ حاتم علي أهميته ومكانته: من كونه قدّم في "التغريبة الفلسطينية" عملًا يكتسب أهمية مضاعفة كلما مضى عليه الزمن. عمل لا يمكن وضعه في خانة الماضي، لأنه يطارد الحاضر دون توقف، ويسعى إلى تشكيله وإعادة صياغته بهدف توفير خط دفاع متقدم عن الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وسرديتها التاريخية، باعتبارها سردية/ خطابًا مضادًا. ويدين المسلسل إلى حاتم علي الذي منحه، عبر معالجته الدرامية وصياغته لجمله البصرية الملفتة، بالإضافة إلى التخلص من الوصف الفائض في الرواية لمصلحة الصورة المشبعة من الداخل؛ حيوية تفرد بها، كانت خلاصتها أن علقت مشاهده في ذاكرة المشاهد، وراكمت عنده، في الحاضر والمستقبل، أن فلسطين للفلسطينيين.
اقرأ/ي أيضًا:
خبر وفاة حاتم علي يتصدر "السوشال ميديا".. رثاء متعدد الجبهات