"حكاية الليالي السود" فيلم من خمس وتسعين دقيقة للجزائري سالم الإبراهيمي، يعتبر أول فيلم روائي طويل له، بعد أن سبق له إنتاج فيلمين تسجيليين هما: "إفريقيا تعود" و"عبد القادر"، وتم إنتاج هذا الفيلم بشراكة مع المنتج الفرنسي كوستا غافراس أحد رواد السينما السياسية في العالم. سيناريو الفيلم مقتبس من رواية "دعهم يعودون" للكاتب الجزائري أرزقي ملال، وقد أسند الدور الرئيسي للفنان الجزائري كاتب أمازيغ، بالتشارك مع الممثلة الكوميدية الفرنسية ذات الأصول الجزائرية رشيدة براكني، ومشاركة الفنانة فريدة صابونجي.
يسرد الفيلم الجزائري "حكاية الليالي السود" كيف تؤثر الفوضى السياسية على كل مناحي الحياة
الفيلم دراما واقعية بسيطة، عودة إلى تلك العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر، وكيف تؤثر الفوضى السياسية على كل مناحي الحياة، حيث يحلل مخرج الفيلم ظاهرة الإرهاب المرتبطة بالتطرف الديني، عائدًا بنا إلى نهاية الثمانينيات، والأزمة الاقتصادية التي عصفت بالمعسكر الاشتراكي في كل أنحاء العالم، ثم يعرج إلى ما حدث بعد إيقاف المسار الانتخابي عام 1992، ونزول مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الشارع، مطالبين بحقهم الشرعي بعد فوز الحزب في الانتخابات، وتحولهم إلى قوى جهادية تخوض حربًا دموية ضد الجيش. غياب التعقل آنذاك في كلا الصفين أودى بالبلاد إلى موجة عنف حمراء دامت لأكثر من عشر سنوات، وكانت ضريبتها مائتي ألف شهيد.
يقدم لنا سالم الإبراهيمي كل هذا في قصة "ياسمين ونور الدين"،وهما شابان أتما زواجهما قبل أسبوع من بداية أعمال العنف، كان نور الدين موظفًا عموميًا، مثقفًا وصاحب أفكار يسارية، تهجره حبيبته في بداية الفيلم إلى فرنسا هربًا من طوفان الإرهاب القادم، فيستجيب لاختيار أمه في الزواج من إحدى القريبات. كان التعايش بينهما صعبًا في البداية، لكن سرعان ما تحسنت الأمور وأنجبا طفلًا، لكن موجة الإرهاب حولت حياتهما إلى جحيم، خاصة أن الإرهابيين كانوا يهددون نور الدين يوميًا، فهو كافر في نظرهم. كما كان من الصعب على ياسمين العيش في ذلك الحي القريب من الجبل، فهربت بابنها خوفًا، إلا أن نور الدين عثر عليها بعد بحث طويل، وأقنعها بالانتقال إلى مكان آمن خارج المدينة، يعودان لبعضهما وينجبان طفلة.
وظف المخرج صورًا تعبيرية لوصف الحالة المتردية للبلد في خضم تلك الأزمة، أبرزها حين يخرج نور الدين بسيارته مع ابنه المريض، فيجد كل الطرق مغلقة أثناء صلاة الجمعة، وصورة تلك المرأة المنتقبة التي تجوب العمارات والشقق، لتدعو البنات لارتداء الحجاب، وذلك الإمام الذي يصرخ "مكان المرأة من دار بيتها لدار زوجها ثم القبر"، وصورة أخرى للسياسي الذي يخاطب شباب الحي "الانتخابات القادمة، طريقنا لإرساء دولة إسلامية وبعدها لن نشهد أي انتخابات".
الأعمال الفنية التي تتناول العشرية السوداء هي رسائل سياسية للجيل القادم من أجل أن يتفادى هذا السيناريو
تمضي حياة العائلة وسط أخبار الموت التي تتناقلها الصحف والمحطات على قلتها آنذاك، إلى أن يصل الفيلم إلى ذروته، حين تتعطل سيارة نور الدين ليلًا وهو مع ابنته، ليبحث عن أقرب محل كي يتصل بالهاتف، وهناك يجد جثثًا مرمية على الأرض، يخفي ابنته بين ذراعيه كي لا تصدم من هول المشهد، تقف أمامه جماعة من الظلاميين، وهو يحضن ابنته المريضة حتى تختنق، فيقول أمير تلك الجماعة "لا تقتلوه، دعوه يروي للجميع ما شاهده ليعلموا ثمن نصرة الباطل".
"رسالة الفيلم تتجاوز سرد الأحداث التي رافقت تلك المرحلة الصعبة التي عاشتها الجزائر، الهدف من الفيلم هو أن يفهم الناس كيف ينشأ التطرف الفكري الذي يصبح إرهابًا بعد ذلك، وكيف يؤثر ذلك على مشاعر الناس، وكيف تتشتت الأسر وتتحول حياة الناس إلى جحيم في رمشة عين"، هذا ما صرح به المخرج سالم الإبراهيمي على هامش عرض الفيلم في "مهرجان تورونتو السينمائي"، والذي كان "حكاية الليالي السود" أحد مفاجآته السارة.
تعتبر حقبة العشرية السوداء موضوعًا حساسًا توضع تحته علامة الصمت، ولا يرغب الكثيرون في إثارته في أعمال سينمائية أو روائية، رغم أن الواقع يثبت أن الجزائريين لم ينسوا سقوط آلاف الضحايا، ففي السنوات الأخيرة أنتجت الكثير من الأعمال التي تتناول هذا الموضوع، نذكر من بينها "التائب" و"عطور الجزائر" و"رشيدة" و"بركات".. هذه الأعمال ليست دعوة لفتح الجراح، وإنما رؤية فنية لما حدث، ورسائل سياسية للجيل القادم من أجل أن يتفادى نفس السيناريو، خاصة مع عودة ظاهرة الإرهاب بصبغتها العالمية.
اقرأ/ي أيضًا: