رغم المشهد السياسي القاتم، المتمثل في تقدم القوى السياسية اليمينية المتطرفة والشعبوية على المستوى الانتخابي في مجمل القارة الأوروبية، نتيجة عدم قدرة القوى السياسية التقليدية على إيجاد آليات جديدة للعمل السياسي، يستطيع المراقب أن يرصد تصاعد مجموعة من القوى المجتمعية لمحاولة ملء هذا الفراغ الذي تركته القوى التقليدية. تأتي حركة السردين في إيطاليا في هذا السياق.
على الرغم من أن موجة صعود الشعبوية لا زالت تشكل خطرًا رئيسيًا على ديمقراطيات القارة العجوز، ولكن نهوض حركات من هذا النوع تؤكد على ضرورة مراجعة الخارطة السياسية
بدايات الحركة
يأتي اعتماد هذه التسمية انطلاقًا من أن السردين هو من الأسماك الصغيرة التي تتجمع في مجموعات كبيرة لمواجهة العواصف والأعاصير البحرية، وهو مجاز لمواجهتها عواصف اليمين الشعبوي التي تضرب إيطاليا اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: الفاشية الإيطالية المتجددة.. باقية وتتمدد!
ولدت الحركة في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وتم إنشاؤها عن طريق أربعة نشطاء إيطاليين، بالتزامن مع بداية الحملة الانتخابية للانتخابات الإقليمية في إميليا رومانيا في 14 من الشهر نفسه، حيث نظمت الرابطة تجمعًا في بولونيا، في الوقت الذي كان ماتيو سالفيني ينوي إطلاق ترشيح لوسيا بورغونزوني. كان الهدف المعلن عن هذا الحدث، أنهم لا يريدون ترك المجال مفتوحًا لزعيم اليمين المتطرف، ماتيو سالفيني وحلفائه "جورجيا ميلوني زعيمة حزب أخوة إيطاليا، وآخرين".
اعتمدت هذه الحركة بداية أسلوب التحشيد البسيط عن طريق الوقفات الصامتة "إلا عند إنشاد النشيد الوطني أو بيلا تشاو الشهيرة" التي يتم تنظيمها في المدن التي يحشد بها أنصار الرابطة لتجمعاتهم الجماهيرية، ويتم تنظيم هذه الوقفات عن طريق صفحات فيسبوك. ثم تكرر نجاح تجمع "السردين" في 18 تشرين الثاني/نوفمبر في ساحة غراندي في مودينا، بينما تم في 21 من الشهر نفسه نشر أول بيان للحركة، بعنوان "مرحبًا بكم في البحر المفتوح"، حيث تم الإعلان عن الكفاح ضد الشعبويين.
في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، انتشرت الحركة أيضًا خارج حدود إميليا رومانيا، مع تنظيم العديد من الوقفات الاحتجاجية في 113 نقطة في إيطاليا. ولكن الحدث الرئيسي كان في 30 من الشهر عينه مع ما يقرب من 30000 شخص تجمعوا في بيازا ديلا ريببليكا في فلورنسا، وفي 1 كانون الأول/ديسمبر حضر أكثر من 25000 شخص الاجتماع في بيازا دومو في ميلانو، بينما في العاشر من الشهر، استطاعت الحركة أن تحشد حوالي 40000، حيث شغل الذين استجابوا للدعوات ساحة كاستيلو في تورينو.
نظمت أحداث أخرى في نابولي وباليرمو وفي بعض الحالات أيضًا في الخارج، وبالتالي اكتسبت رؤية دولية، ففي 14 كانون الثاني/ديسمبر أطلقت الحركة "اليوم العالمي لساردينا"، ونظموا مظاهرة في روما في ساحة سان جيوفاني حضرها حسب المنظمين، ما يقرب من 100000 شخص بينما قدرت السلطات الأعداد بـ35000. خلال هذه المظاهرة، قدم الزعيم الفعلي للحركة ماتيا سانتوري النقاط البرنامجية الرئيسية للحركة، والتي شملت طلب الشفافية السياسية، وإدانة خطاب الكراهية، ومشروع قانون ضد العنف اللفظي (مساوية للعنف البدني) وسياسة جديدة لإدارة الهجرة في إيطاليا.
وعلى وجه الخصوص طُلب إلغاء ما يسمى "المرسوم الأمني" الذي روج له ماتيو سالفيني خلال حكومة كونتي السابقة، والذي قدم "خطاً متشدداً" مع سلسلة من التدابير ضد استقبال المهاجرين والتي سهلت طردهم. في نفس اليوم، وقعت أحداث أصغر أيضًا في 9 نقاط احتجاج في إيطاليا و14 نقطة حول العالم، بما في ذلك بروكسل وباريس وبرلين.
استطاعت الحركة منذ تأسيسها أن تحقق اختراقًا مهمًا في مواجهة خطاب وزير الداخلية السابق الفاشي ماتيو سالفيني وحظيت بتأييد شعبي كان يتزايد مع كل دعوة للساحات. فالحركة التي تجمع حولها ستة آلاف متظاهر في مدينة فلورنسا بعد أقل من أسبوعين من تأسيسها، بات لها اليوم مناصرون يقدرون بأضعاف مضاعفة لذلك الرقم، في مدينة بولونيا الإيطالية وروما وميلانو وبادوفا وفانيساـ إلخ.
ورغم أن حركة السردين لا تعتبر نفسها قريبةً من أي من الأحزاب السياسية، حتى ولو حاول اليسار التقرب منها، ولكن يبقى العامل الأساسي وراء ولادة هذه الحركة هو أن هناك الآلاف من المواطنين الإيطالين المرهقون من خطاب الكراهية والحقد، كما أنها تأتي انعكاسًا وتعبيرًا عن الاحتجاج على عدم الاستقرار السياسي. وعلى الرغم من أن الحركة تلتقي موضوعيًا مع عدة أحزاب وحركات إيطالية مناهضة للعنصرية والفاشية، وعلى رأسها "الحزب الديمقراطي" الشريك في الحكومة. وهي، وإن كانت لا تعرف نفسها بــ "الحركة السياسية" أقله حتى هذه اللحظة، فإن لها هدفًا سياسيًا واضحًا هو محاربة التطرف والعنصرية والحركات الفاشية الإيطالية مثل "حزب الرابطة"، إلى جانب أنها ترفع أيضًا شعارات تتعلق بالبيئة والمناخ وغير ذلك.
انتخابات امليا رومانيا
وضع سالفيني كل ثقله للفوز في الانتخابات الفرعية في إقليم أمليا رومانيا، لأن فوزه في هذا الإقليم كان يعني شبه سيطرته على إيطاليا كلها، بعد أن فاز في الانتخابات الفرعية في ثمانية أقاليم. وتأتي أهمية هذه الانتخابات، انطلاقًا من أن أمليا رومانيا هو معقل اليسار الإيطالي تاريخيًا، ومهد انطلاق المقاومة الإيطالية ضد فاشية موسوليني خلال الحرب العالمية الثانية، وكان الإقليم مهد الأفكار التي أسست لما سمي بــ "الأوروشيوعية" أو الشيوعية الأوروبية في عهد برلنغوير المتمايزة عن النموذج السوفيتي. ويعتبر الإقليم اقتصاديًا واحدًا من أغنى الأقاليم في إيطاليا.
وبنتيجة الانتخابات التي جرت يوم الأحد 26 كانون الثاني/يناير 2020، مني حزب الرابطة بهزيمة قاسية، حيث كانت النتيجة حصول الرئيس السابق للإقليم وزعيم الحزب الديموقراطي (يسار الوسط) ستيفانو بوناتشيني على 51,36 بالمئة من الأصوات، متقدمًا بفارق واضح على مرشحة اليمين لوتشيا بورغونزوني التي حصلت على 43,68 بالمئة. وقد وجه ستيفانو بوناتشيني الشكر لحركة السردين نظرًا لأن هذه الانتخابات قد تميزت بمشاركة كبيرة بلغت 67,67 بالمئة، مقابل 37 بالمئة في 2014. في الوقت الذي لم يهاجمهم سالفيني بل اكتفى بنشر صورة لقطط تتناول السردين على تويتر.
اقرأ/ي أيضًا: ماتيو سالفيني.. شعبوية مناهضة للحياة البشرية
وترى إيميليانا دي بلاسيو أستاذة العلوم السياسية في جامعة لويس في روما لفرانس برس "أن الحزب الديموقراطي استفاد خصوصًا من صعود حركة السردين قبل شهرين في بولونيا، والتي نجحت في تعبئة ناخبي اليسار".
الحزب الديموقراطي استفاد خصوصًا من صعود حركة السردين قبل شهرين في بولونيا، والتي نجحت في تعبئة ناخبي اليسار
على الرغم من أن موجة صعود الأحزاب الشعبوية لا زالت تشكل خطرًا رئيسيًا على ديمقراطيات القارة العجوز، ولكن نهوض حركات من هذا النوع تؤكد على ضرورة مراجعة الآليات التي تتم من خلالها قراءة الخارطة السياسية والفعالية السياسة أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا:
الصفحة الأخيرة لماتيو رينزي.. تمزيق التحالف مع اليمين الشعبوي