من نواحٍ كثيرة، يمكن اعتبار فيلم "حريق في البحر" للمخرج الإيطالي جيانفرانكو روزي مشابهًا لعديد من الأفلام الوثائقية الأخرى التي مرت علينا من قبل، كونه يقدّم بورتريهًا للحياة اليومية في حيز مكاني محدد. ولكن ذلك المكان الذي يختاره المخرج كمسرح يمتلك أمرين يحددان أي تعريف ممكن له.
المكان هو جزيرة لامبيدوزا، تلك الجزيرة الضئيلة في عرض البحر المتوسط. وأما الأمران اللذان يحددانه، فأولهما الصيد الذي يمتهنه أغلب سكان الجزيرة، والآخر هو عمليات إنقاذ المهاجرين الأفارقة الذين تحدوا الظروف اللاإنسانية للهروب من أوطانهم التي مزقتها الصراعات، في محاولة يائسة لإنشاء حياة جديدة في أوروبا، فقط ليجدوا قواربهم تغرق بهم ويكون عليهم إيجاد وسيلة للنجاة تمنحها لهم أقرب مساحة من اليابسة التي تمثلها لامبيدوزا.
يقدّم فيلم "حريق في البحر" بورتريهًا للحياة اليومية بجزيرة لامبيدوزا
فكرة روزي لإنجاز فيلمه، الفائز بجائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي في دورته الأخيرة، تقوم على تقديم حكايتين مختلفتين تمامًا في فيلم واحد لا يسمح بتداخلهما أبدًا. نصف زمن الفيلم يُشهدنا على المشاهد المروّعة لهؤلاء الغرقى والمحتضرين ومن يستقبلهم من أطباء وعمال، الذين غالبًا ما ينصرفون إلى البحر لسحبهم واحدًا تلو الآخر من بيث جثث أصدقائهم وأقاربهم على القوارب الغارقة.
النصف الآخر من الفيلم بسيط، ويقدّم بورتريهًا لإحدى الأُسَر متعددة الأجيال التي تعيش وتعمل على الجزيرة، أسرة مكونة من جدّة عجوز وابنها الصيّاد وحفيدها المراهق صامويل، تتابع الكاميرا روتينهم اليومي ونادرًا ما تأتي على ذكر أي من الويلات التي رأيناها، إلا في ثنايا تقارير إخبارية تأتي عبر أثير محطة الإذاعة المحلية.
اقرأ/ي أيضًا: "ميموزا".. صوفية إسبانية على أرض مغربية
في كلا النصفين، وعبر قفزات المخرج بينهما ذهابًا وإيابًا طيلة الفيلم، يقارب الفيلم موضوعاته من مسافة محسوبة ودقيقة لا يتعدّاها. وسواء كان المشهد الذي نراه للاجئين/مهاجرين يقومون بتنظيف وتجميع البنزين المتسرّب من محركات القوارب، أو لذلك الصبي ابن الجزيرة وهو يعلّم صديقه كيف يصنع نبلة من فرع شجرة؛ فإن هناك شعور مُلِحّ ببروتوكولية وعادية ما نراه على الشاشة.
بطبيعة الحال، يجعل الواقع اليومي لعمليات إنقاذ المهاجرين سكان الجزيرة منفتحين في تعليقاتهم على الأزمة المستمرة. وفي حين لا يوجد خطاب سياسي بشكل مباشر أو علني في الفيلم، فإن القُرب من المأساة يولِّد تعاطفًا بشكل أو بآخر. وأغلب ظني، أن روزي كان واعيًا بذلك التأثير وهو في غرفة المونتاج، والأرجح أنه صنع "حريق في البحر" من أجل المشاهد الأوروبي خصيصًا ولم يرد إدخاله في بكائيات واستجداءات سنتمنتالية رخيصة.
الأمر يتم على النحو التالي: كلما قضى المُشاهد (الأوروبي) وقتًا أطول مع هؤلاء الأشخاص الذين فروا من بيوتهم كلما ازداد فهمًا لمأساتهم وتعاطفًا معها. كذلك يضيف روزي بُعدًا إنسانيًا جماليًا لمنظوره لكل من الهجرة ومرونة المهاجرين حين نرى المهاجرين يرتجلون بطولة مؤقتة لكرة القدم من فرق تمثّل دول الصومال والسودان وليبيا وإريتيريا وغيرها من دول الجنوب.
صُنع فيلم "حريق في البحر" من أجل المشاهد الأوروبي، لذا لم يشأ المخرج إدخاله في بكائيات واستجداءات رخيصة
اقرأ/ي أيضًا: دونالد ترامب.. سيرة موجزة لممثل فاشل
"المود" المُفضَّل لروزي هنا هو الهدوء والسكون والدعة والراحة النفسية، حتى حين يتحوَّل بكاميرته لتصوير الذعر والدمار. ففي وقت نستمع إلى صرخات بنبرات حزينة يتناوب مجيئها من القوارب، لنعرف بعدها أنها لتهدئة عمال الإنقاذ على الجزيرة، وبمرور الوقت ننضم نحن أيضًا كمشاهدين (أوروبيين) إلى المسعفين أنفسهم في عملية لا شعورية تأخذ طريقًا محددًا يحاول تجنب كل الأفكار السيئة، الأفكار التي لا تحتاج لمحفزّات لتنشيطها على ساحل جزيرة لا مبيدوزا.
ويعزز ذلك الشعور بالهدوء أن موسيقى الفيلم الوحيدة تأتي حصرًا من داخل المشهد نفسه (Diegetic)، على الرغم من أن ذلك لن يمنع روزي من أن يُظهر لنا مراسٍ ترقص بنعومة مع قواربها في تموجات رقيقة.
إجمالًا، وبالرغم من المآخذ التي يمكن لنا كمشاهدين عرب الإشارة إليها في "حريق في البحر"، فإن الهدوء الفاتر الذي يسيِّر به المخرج الإيطالي فيلمه يجعله أكثر متانة وتأثيرًا. ومثلما نرى في الفيلم، سواء كان الأطفال أصدقاء صامويل يصرفون الوقت والضجر بمحاكاتهم للعبة الحرب المدمرة برشاشات مزيّفة، أو هؤلاء الذين تركوا وراءهم كل شيء وخاطروا بحياتهم من أجل الهروب ليصيروا في نهاية الأمر خسائر جانبية لصراعات مسلّحة نهشت بلدانهم؛ فإن روزي يعطينا صورة جميلة ومخادعة في الوقت ذاته لعالم لا تتوقف فيه الحرب.
اقرأ/ي أيضًا: