حين يكون الرسّام التجريديّ قارئا شغوفا لكلّ أشكال الأدب وكاتبًا متمرّسًا ومترجمًا بارعًا لفلسفة نيتشه كالرسّام والكاتب المغربي حسّان بورقيّة، فنحن بالضرورة سنكون مجبرين على إعادة قراءتنا لفنّه مرارًا وتكرارًا ومحاولة الدخول في أعماق الفنّان علّنا نخرج بالقليل من مقاصده الفلسفيّة والرؤيويّة، وفي تعامله التقشّفي مع المواد والأشياء واستعادته لطبيعة إدراكه للواقع بأساليب تستأصله من واقعيّته، تمامًا كرغبة شاعره المفضّل الذي أثّر فيه وفي فنّه أيّما تأثير شاعر الشذرات البرتغاليّ فيرناندو بيسوا الذي يقول "أرغب أن أصبح مبدع أساطير، إنّه السرّ الأسمى المسموح به للمهمّة الإنسانيّة".
لا يقبل حسان بورقية بصورة الأشياء كما هي، إنّما يراعي جوانبها غير المرئيّة ويحاول الكتابة فيها بالرسم والشعر، لذلك يفضّل غالبا عدم عنونة لوحاته
ونحن نتساءل اليوم عما يرسمه الفنان حسّان بورقيّة: عما هو كائن؟ عما نراه؟ وماذا نرى؟ وما يمكن أن نراه فعليّا؟ نحن في الواقع نختلف ونتعدد في تفسير ما نراه وحتى تسميته لأنّه يتشابك بين أطروحات مثل أطروحة "الاستعادة المباشرة لأشياء واقعيّة" وأطروحة "تجريد المرئيّ والزهد في صورته ومعناه"، لنصبح أمام ما أسماه نيتشه بـ"الشذرات المعرفيّة".
اقرأ/ي أيضًا: شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني
تحتشد آثار بورقيّة بالهمّ الأسلوبي والرؤية الموضوعية أو المضمونية، فهو يظلّ يحاول الانتماء إلى النزعة الصوفيّة التقشفيّة، حيث يضفي سمات التأمل والعمق الدلالي بوجود الرموز والإشارات والعلامات على السطح التصويري. يستدعينا للدخول إلى مناطق مظلمة ومجهولة، إلى فراغات عقولنا أين تسكن أشباح الأرواح وتدفن جثث المنبوذين والتعساء. يوغل في الترميز إلى حدّ انتزاع الدلالات السوداء وطاقات الإيحاء من داخل الأشياء المرئيّة والوصول بها إلى التأملات الفلسفيّة تلك التي حاول نيتشه استنطاقها إلى حدّ الجنون.
يستعيد بورقيّة "شذرات" واقعيّة مثل فردة نعل مغربيّ مجهول النسب أو قطع من الٌقماش القديم المرقّط، يراوح في أشيائه الملتقطة بين نزعة تشخيصية وحنين تجريدي نافذ، وبين العودة لمنابع الطفولة وموضوعاتها، واستلهام الموروث الشعبي والجانب الرمزي الأسطوري في الفكر عامة. يطبع أسلوبيته بالتردد بين احتواء الموضوع فنيًا وصهره بعناصر اللوحة لا سيما الخطوط والألوان القليلة والممحوّة، وبين عرضه كموتيف فكري أو ذهني يسجل موقفاً من قضايا الوجود والحياة ببعدها الواقعي وتواجدها التجريديّ الصارخ وإدراكها المفاهيمي المقصود.
لا يخفى على حسّان بورقية –وهو المولع بكلّ ما كتبه بيسوا- أن يتعامل مع فنّه بنفس درجة الجديّة القلقة، فهو لا يقبل بصورة الأشياء كما هي، إنّما يراعي جوانبها غير المرئيّة ويحاول الكتابة فيها بالرسم والشعر، لذلك يفضّل غالبا عدم عنونة لوحاته، ويشير دائما إلى أن وضع العناوين هو تحريف لرؤية المتلقي، ويؤكّد أن فنّه هو نصوص ملغّزة ستدفع المشاهد، على الدوام، إلى تأمل العلاقة ما بين التشكيل وأصل فكر هذا الزمان، كما كان يؤمن بأنّ ما يقع في فخّ الكلام الكثير سيفقد بالتأكيد كلّ المعاني التي يمكن لخطّ بسيط التدليل عليه مستقبلًا، يقول فيرناندو بيسوا "في لحظات أشعر أنّي أفقد وعي العلاقات الحقيقيّة بين الأشياء، بأني لم أعد أفهم شيئا، بأني أقع في هاوية من الفراغ الذهني. إنّه شعور رهيب، يصدمنا بخوف لا قياس له. تصبح هذه الظواهر متواترة، تتراءى وكأنّها تخطّ طريقي صوب حياة ذهنيّة جديدة، هي الجنون بالتأكيد".
الأثر الفنيّ هو فضاء الاستعادة
تحتوي "الشذرات" على كل المعاني وكلّ الأشياء وربما كلّ العالم، لنرى مثلا أحد أعماله النادرة في العنونة "خطوط سوداء وخطوة" أين يختزل في المواد لصالح المعنى فيعطينا خطوة وعلينا أن نختار كيفيّة المواجهة، إمّا التقدّم أو التراجع، إما الصعود أو السقوط. يتركنا حائرين إزاء لغم التحرّك مع أنّه يفضّل إدراج اللاّتوازن البصري في تركيب لوحاته، ثم يدعونا إلى البحث عن منفذ للخروج من ضوضاء الفراغ نحو صخب وجنون الأفكار التي لا ندركها، "أعتقد أن بورقية يبحث عن نوع من المتلقي يكون شريكاً له في تفكيك أسرار اللغز -يقول العراقي فاروق يوسف-. لغز الرسم الذي يحلق فوق متاهة لامتناهية من المشاهد المصيرية".
يتقصّى بورقيّة عن مفهوم "الغريب" عن طريق الاشتغال على المهمّش والهامشيّ، إذ تشتبك علامات متباينة كعلاقات اعتباطية بين الشيء وما تحيل إليه، وتحتشد رموز الشذرات التشييئيّة كبطاقات دلاليّة لكلّ الأشياء المتروكة والمنبوذة وربما المنسيّة في الخزائن والرفوف كالذاكرة المتلفة والمتعبة، فما معنى أن يدمج خيط حذاء متلف ومتّسخ بالماضي داخل فضاء اللّوحة البيضاء الممحوّة باللون الرماديّ الفاتح والملطّخ. يخاطب بورقيّة فينا كلّ الأجزاء الفارغة من أنفسنا، تلك الشروخ التي خلّفها الزمن فينا، فهو يثقب بسكين حاد مساحات فارغة وهادئة في الظاهر ولكنها متشنّجة في باطنها، تجعلنا أعماله نستحضر مرّة أخرى مقولة للشاعر بيسوا والتي ألهمت فناننا، حيث يقول "رغبت في أن أتقيّأ ما رأيته، أن أتقيّأ بسبب ما رأيته فقط. معدة الروح تضطرب بكوني أنا".
يحمل هذا المغربيّ وسواس الفن وقلق الفلسفة، ويؤمن أن الحريّة هي أسلوبه الوحيد في مخاطبة العالم، يعيد تمثيل الوقائع بوعيه الفضوليّ، ويطرح مسائل مصيريّة ومخيفة مثل الموت والعدم والفراغ كمسائل فلسفيّة ولكن في أشكال بسيطة وزاهدة، إلى الحدّ الذي يصبح العمل موازيا للرعب والضياع والجنون. تسبح بنا آثاره "بدون العنوان" ضمن علاقات ذهنية، وبين الشيء ومرجعه، كما تقترح علينا إشارات بصريّة قليلة هي في الواقع أضلاع المثلث المرجعي الذي يصنع الوعي المفاهميّ باللوحة، ويسمح بتأويلها والالتقاء بأفقها الجمالي، كما تقترحه خطة الفنان واستراتيجيات العمل ذاته.
يعتمد العمل لدى حسان بورقية على استعادة المواضيع والأشياء المقصاة والمرميّة، فليس ثمة مركز بؤري للعمل، إذ ينتشر الهامش نفسه ليغذي مركز اللّوحة مطالبًا المشاهد بالتخلص من مركزية وعيه
بورقيّة هو ذلك "القَلِقَ" الذي تحدّث عنه إميل سيوران، ذلك الشخص "غير راضٍ عن عذاباته الواقعيّة، يفرض على نفسه عذابات مُتَخيَّلة. هو كائن يعتبر اللاّوقع موجودًا، بل يجب أن يوجد، وإلاّ فمن أين يحصل على وجبة العذاب الذي تتطلّبه طبيعته؟". لذلك يعتمد العمل لديه على استعادة المواضيع والأشياء المقصاة والمرميّة، فليس ثمة مركز بؤري للعمل، إذ ينتشر الهامش نفسه ليغذي مركز اللّوحة مطالبا المشاهد بالتخلص من مركزية وعيه. ذلك أن جزءاً مهماً من حداثة الرسم اليوم يقوم على إلغاء تلك المراكز أو المسلّمات لصالح جماليات الهامش والحاشية وغير المتوقّع.
اقرأ/ي أيضًا: إسماعيل شموط.. يده هي التي ترى وقلبه هو الذي يرسم
يختار في إحدى لوحاته أن يتكل على تلصيق "قطع كرتونية ممكن أن تذبل وتقع، وقطع خشب وأسلاك وصحف، أشياء صادفتها في الطريق والتقيت بها صدفة، تشبه أفراد شعب لا هوية لهم ولا لغة ولا تاريخ، جُمعت بحسب منطق سري، اسمه منطق اللوحة، ووضعت في هذا النهر، فصار لها شبه هوية معينة، تتحدث فيما بينها، نوع من الرغبة في التفكير في مقاومة الزمن"، يذكّرنا ذلك بــ"دونكيشوت" لميغيل دي سرفانتس التي لم تكن مجرّد رواية فحسب، بل هي ميراثا إنسانيّا ثقافيّا أثّر في كلّ الفنون الأخرى. إذ يشتغل حسّان بورقيّة على مؤشّرات الواقع المرير في عالمنا العربي، على الدونكيشوتيّة التشييئيّة للفرد التي نراها في كلّ مواطن الحياة ومع كلّ فرد يطلب المصلحة والظهور المجانيّ، "نتكلم عن الأثر والأشياء العابرة -يقول بورقيّة- ، نوع من الكتابة الشعرية التي تشبه الرقص المرح أو الخفيف، الذي يثبت شيئا ما يعجز الإبداع عن تثبيته، وهذا هو الأمر الذي يسعى له الفن، محاولة تخليد شيء ما يصعب تخليده واسترجاع شيء يصعب استرجاعه". يقدّم فنّاننا لوحات تؤبّد أزمنة ضائعة وآثار لأقدام تائهة أو مشردة وأخرى ثابتة وربما خطّاءة.
نبوءة العودة والخلود
بالنسبة لبورقيّة وحده اللاّ يقين المعرفي الذي يجبرنا على الاستمرار في البحث، ومقابل عدم عنونة لوحاته فُرادا فهو يطلق تسميات على معارضه من قبيل "حدائق معلّقة"، و"ألوان من كلمات" مشيرًا دائمًا إلى ارتباط الأدب بالشعر والشعر بالرسم وهذا الأخير بالمعرفة والرغبة اللاّمشروطة في التعلّم والامتلاء، ومن ثمّة ارتباط الإبداع إلزاما بمعاني الحياة وأرق الأحياء "المجانين"، لذلك يقرّ بورقيّة بأنّه يستلهم من كلّ ما يقرأه لخورخي لويس بورخيس وفيرناندو بيسوا وفريديريك نيتشه وبول ريكور وغيرهم، كما يؤكّد بأنّ "الفنان الذي لا يقرأ ولا يطالع ولا يستلهم أفكاره من الفلسفة والشعر وثقافة بلده والثقافة الكونية والتجارب الإنسانية لا يستطيع أن يقدم فنا راقيا، لا بد أن ينطلق في عمله من رؤية معينة. الفيلسوف الألماني نيتشه كان يعطي للفنان أسبقية أكثر من الكاتب والفيلسوف، لأنه خالق حقائق جديدة، ويزرع الريبة والشك في الحقائق التي نعيشها".
ينتقي بورقيّة بعناية فائقة الأجزاء المهمّشة التي يضيفها على سطوحه، ينقل إلينا رسائل مشفّرة للخذلان والفشل المحذوف، هو يكتب بالصبغ الرعب من الفشل ذاته مع الاعتراف الضمنيّ بالحالة الدائمة للمبدع الشغوف بالمعرفة. يستميت في تحويل ما هو هشّ في الروح إلى نقاط قوّة، في إيقاظ الجنون من جهة والتشبّث بالعقل من جهة أخرى، تماما مثل بطل رواية "الفراغ الذي رأى التفاصيل الذي "دائما يحاول تخطي اللّغة لما وراءها.. البحث عن لغة أخرى".. إنّنا إزاء لغة حسّان بورقيّة الجماليّة التأمليّة التي تملأ فراغات التفكير وتُنبئ بعودة الملفوظ إنشائيّا.
لقد اختار حسّان بورقيّة المشي على حافة الخطر، حافة الهاوية والسراب والعمق والفراغ "حيث تمتزج الظلال بالخطى"، وحيث يرتقي المعنى إلى طبقات عالية من الذاتية والتخييل. تمكن من إنشاء فلسفة إنسانية تؤكد مركزية الفرد والرغبة في تجاوز الذات ضمن مشروع حياتي يقوم على تربية النفس وتعليمها قيم النظر العقلي ومحبة ابتداع الأفكار، وتأملها بالحوار والتلقي العقلي. لقد اختفى فنان مثل حسّان بورقيّة في ثنايا جملة جيمس جويس شأنه شأن كاتب رواية "الفراغ الذي رأى التفاصيل"، وفي تلك الجملة الشهيرة التي تقول "لن أخدم بعد الآن شيئا لم أعد أؤمن به، سواء أسمّى نفسه الوطن أم البيت أم الكنيسة، سأحاول التعبير عن نفسي بأسلوب ما من أساليب الحياة او الفنّ، بمقدار ما يمكنني من الحريّة، وبمقدار ما يمكنني من التمام، وسأستخدم للدفاع عن نفسي الأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها: الصمت، المنفى والمكر".
وفي اعتقادنا، فجماليّة رؤية الفنّان تعود إلى نمط من النظر العقلي المُخالف لما هو سائد، وإلى "الكفّ عن الخوف من الغد، حين تعلّم كيف نغترف من الفراغ ملء اليدين. الملل يصنع المعجزات: إنّه يحوّل الفراغ إلى مادّة. هو نفسه فراغ مُغذّ"، ذلك الامتياز الخطر بأن يعيش على سبيل التجربة، على المخاطرة والمغامرة داخل التجريب بالتجريد. هو يحمل رؤى تتأسس بمنظور الشك والجرأة لرفض قيم الخضوع والكسل. هو يقترب أكثر من الحياة عبر التوغّل عميقا في كلّ المعاني التي يمكن أن تناقضها كالموت والعمى والصمت والروح، وربما أيضا نحو البهجة القصوى والمتعة غير المسبوقة نحو "جنّة عدن" الموعودة حيث "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت".
اقرأ/ي أيضًا: