تستهويني دائمًا مطالعة الصور القديمة للمدن، والتمحيص في خباياها، والتدقيق في تفاصيلها، ثم تخيل حالها التي كانت عليه وحال سكانها، وأعيد مقارنة شكل الشوارع القديمة بالشوارع الحديثة، ويسعدني الحظ حينما أجد مكانًا أعرفه وزرته، فتتحول عندها المقارنة لمحاولة بعث للروح في تلك المنطقة، ويلهمني خيالي بكثير من المواقف التي ربما حدثت في ذلك المقهى، أو تلك الزاوية، أو أمام محطة قطار مجددة.
توحي صور العتيقة للمدن القديمة بأن البشر كانوا يعتقدون بأنَّ شكل المدينة يجب ألا يتغير، وأن هويتها وصورتها كهوية الإنسان وصورته، تولد معها، وستفشل لاحقًا أي جراحة تجميلية لتحسين مظهرها الأصلي، ربما يكون الفرق الأساسي بينها وبين الإنسان أن جمال الشباب لدى الإنسان يتبخر مع تقدمه في العمر، في حين أن جمال المدن يزداد ويتكثف كلما كبرت وهرمت وازدادت تجاعيدها.
جمال الشباب يتبخر لدى الإنسان مع تقدمه في العمر، في حين أن جمال المدن يزداد ويتكثف كلما كبرت وهرمت وازدادت تجاعيدها
أما في زمننا الحالي، فقدت بدأت المدن بالسير سير الإنسان، وبمجاراته في سرعته، فما أن ينتصب تمثال في ساحة حتى يزال ويقام مقامها حديقة، ثم ملعب، ثم أبنية شاهقة الارتفاع، أو محلات تجارية مستحدثة الطراز المعماري، كأن حال المدن يقول: أنا من جيل يختلف عن جيل المدن العتيقة التقليدية.
قد تكون هذه الفكرة مجرد هاجس ليس له أساس ومرده أنني أعيش هذا الدهر لا غيره، ولعل أحدًا عاش في روما القديمة خطر بباله نفس الخاطر منذ ألفي عام مضى، غير أنني أعيد التفكير لأجد بأنَّ كل شيء في هذا الزمن يمتلك هوية مائعة تسعى للتلاشي والتفتت، وجوهر الأشياء يكاد لا يستقر في قالب حتى يتركه لاهثًا وراء آخر. إنها لعنة حقيقة بالنسبة لي شخصيًّا، فأنا إنسان أنتمي لذلك الطراز القديم الذي يفضل أن يشمَّ رائحة الثرى على شمّ العطور صباحًا، والذي يستمتع بملمس حبوب الذرة الجافة الباردة حين يغرس يده في جوالات القنب.
أنا ذلك الشخص الذي يسترد طفولته بمجرد أن يلصق خده على جدار قديم، أو أن يلامس جبينه عمودًا أثريًّا رطبًا. الذي يغرق في تفاصيل الرسومات التي تزين الطوابع القديمة، الذي يسافر فوق خطوط السجادات المتقنة الحياكة ويتنقل عبر التواءات أصباغها الباهتة متخيلًا أنه نقطة تتحرك، الإنسان العالق في ألعاب الطفولة القديمة التي ارتبطت بالطيور والشوك وتوت العليق والسرطانات المائية المنفرة والجراد والعناكب.. وخلافه.
تذكرني مدن الزمن الحالي بأنني أكبر فاقدًا شركاء الحياة، والأصدقاء، والحارات، والمخابئ، والكهوف المحفورة في التلال التي أزيلت. أكبر وتصغر المدن التي أزورها، فأفتقد للعلاقة الحميمية معها.
مدن هذا الزمن لا تحب سوى الفتيان، ولا تقبل سوى الموضة، إنها مدن الزمن الصعب لأمثالي، ولذلك أعيد التأمل مجددًا في كل صورة قديمة تقع عليها أنظاري لأي مدينة كانت حتى لو لم أعرفها مسبقًا، لأن المدن حكايا، والحكايا تتشارك في ما بينها بالجمال، فهي تحتاج أذنًا مصغية ونفْسًا محبة هادئة. وما أن تشوقك حكاية حتى تشوقك كل الأخريات.
قبل سنوات طويلة، خطرت لي فكرة حولتها لفيلم قصير، أن شخصًا مثلي يصور بكاميراته كل ما يراه في مدينة هادئة. لكن صوره التي يظهرها تظهر كل شيء مخالفًا للحقيقة. ينتابه القلق فيخطر له أن يصور نفسه بنفس الكاميرا، يجهزها، يبتعد، ويتركها لتلتقط الصورة، ثم لا يجد نفسه في ذلك الكادر أبدًا حينما يطبع الصورة. الآن أتذكر ذلك وأحدّث نفسي: لا يوجد أحد في تلك الصورة، ربما يكون هذا السبب وراء تعلقي بصور المدن القديمة ذات الطرق الخالية.. لقد كانت تلك الكوادر مليئة يومًا ما، لكن الكاميرا لم تظهر أحدًا.