صراخ أطفال، انفجارات شديدة، طلقات مبعثرة هنا وهناك، وكأن قريتنا على موعد مع تاريخ جديد وحياة أخرى غدًا. مسعود الفتى الحزين ينقل الأخبار الحزينة بين الحارات: إنهم يعتقلون الشبان ويسوقونهم إلى الخدمة في الجيش، القرية محاصرة من كل الجهات.
اجتمع شبان الحارة والحيرة لا تفارق ملامحهم. أحمد الشاب القوي البنية أخبر الجميع بأنه يعرف طريق الخلاص، وأخذ يشرح: مزرعة فلان.. بستان علان، نزحف من هنا، نركض من هنا. بدا وكأنه مخطط عسكري: "مسافة الطريق ثمانية كيلو متر من الاحتمالات، ربما مستقبل جديد، ربما طلقة قناص، وربما هرب من الموت إلى موت".
أقنع أحمد الجميع ثم نهض وقال: "الاجتماع بعد نصف ساعة، شمال القرية، ويفضل أن ترتدوا ملابس خضراء.
ودعتُ أمي، واشتريت علبة تبغ إضافية وانطلقت بين المنازل، فالهرب إلى ما تستطيع التحكم به حتى لو كان مجهولًا أفضل من المجهول الذي يحكمه غيرك.
وصل أحمد قائد الهروب، ونظر إلى قميصي وضحك قائلًا: "أين تظن نفسك ذاهب؟ لن نذهب إلى الجامعة، ستزحف الآن كدودة تبحث عن رطوبة كي لا يقتلها الجفاف، مسافة ثمانية كيلو مترات". ثم ضحك. قلت له: "حين نصل سأقطع لسانك، وإن لم نصل وبقينا أحياء سأقطع دودتك"، وقف مسعود بيننا وقال: "عيب.. عيب يا شباب أنتم أبناء حارة واحدة".
استطلع أحمد الطريق ثم عاد وقال: "هناك كمين، سننتظر غروب الشمس، إن لم يصل الجيش سننطلق وإن وصل قبل الغياب أيضًا سننطلق".
جلسنا تحت ظل زيتونة، وما إن كسرت التلال البعيدة غرور الشمس حتى بدأ العد العكسي لليلةٍ قد لا تمر في حياة المرء إلا مرة واحدة، لا وقت للندم على ما فات، ولا وقت لبناء المستقبل، لحظاتنا القادمة حياة بين زمنين، زمن قهوة الصباح من يد الوالدة، وزمن انتزاع الحياة من فم الزمن المر.
أعلنت الشمس أخيرًا بدء الفصل الجديد من رواية الحصار، تسللنا من بين الزيتون مثل قطيع ذئاب جريحة، ننبطح تارة، نركض تارة، نزحف تارة. دخلنا مزرعة عنب. وتابعنا التسلل نحو حقول الطماطم زاحفين في الفراغ بين النباتات مثل أفاع ترقص في حفلة تزاوج. وصلنا كوخًا من قصب وخشب دخلناه بسرعة، قام أحمد بتفقدنا وقال: "شباب لديكم مئة متر مكشوفة، لا نباتات ولا أشجار، عليكم تجاوزها بسرعة البرق، وإلا سيفتحون عليكم جهنم، مدافع 23 ومدافع 14ونصف. نحن الآن على جانب القرية، وما إن نتجاوز المئة متر حتى ندخل في منحدر بلدة صمخ، ثم يكون تواجد الجيش حسب الحظ". قلت له: "لا بأس إن زحفنا كي لا نثير الانتباه"، فقال: " لديهم قناصات حرارية تكشف الذبابة في مؤخرة بغل"، ثم أضاف: "سننطلق بخط مسقيم من هذه الزاوية، ومن يصل ينتظر البقية، المهم انطلقوا كالسهام".
ركض أحمد مع ثلاثة آخرين، وانطلقت بصحبة مسعود ورأفت، وما إن وصلنا منتصف المسافة صرخ رأفت وقعت يا شباب، وكأن الانسان يملك قوى خارقة في لحظات مواجهة الحقيقة الثابتة على مر الزمان؛ الموت، فحملته وركضت إلى أن وصلت المنحدر لاكتشف رائحة الدم، لم نستطع إشعال أي ضوء، تحسست جسده وضعت يدي على الجرح، ثم وضعت قميص الداخلي على الجرح، وأخذت غطاء الرأس "الشماخ" من أحمد وربطته بإحكام، وانتظرنا البقية الذين تتابع وصولهم.
بقيت دفعة ما إن انطلقت حتى فتحوا عليهم المدافع الرشاشة من أجمل الالوان الطلقات المضيئة، ثم أطلقوا قنبلة مضيئة بدت كابتسامة الحبيبة. حين تشتم الدم قاتلًا أو مقتولًا تصبح الأشياء الشريرة جميلة.
صرخ أحمد: "هيا تعالوا قبل أن يمطرونا بالقذائف"، انطفأت القنبلة المضيئة، ثم بدأ الركض.. وصلوا بخير وتابعنا حتى التلة التي لم تكن إلا مكب نفايات القرية وسلة مهملاتها.
حين تشتم رائحة الدم، لن تثيرك أي رائحة أخرى حتى لو كانت جيف الأبقار المرمية.
جلسنا بين القمامة وبيننا وبينهم تلة، وفتى جريح وحياة جديدة ملؤها الانتقام أو النسيان، تناوبنا على إسناد رأفت الذي بدأ يهلوس، وتقدمنا في الحقول نمشي بانكسار المنتصر، إلى أن قال أحمد: "نحن في أمان الآن بإمكانكم التدخين.. أو الغناء إن شئتم".
تجاوزنا الطريق الترابي وسرنا نشاهد ظهور القمر، بعد لحظات سمعنا أحدهم يصرخ "عساكر.. عساكر".. انبطحنا أرضًا وزحفنا بين النباتات على جانب الطريق، رصدتنا أضواء دراجات نارية وبعض البنادق. قام أحمد وقال: "خير يا شباب من أنتم؟"، أجابه شاب: "أين هوياتكم؟". في حرب مثل هذه اختلط الحابل بالنابل، وهناك لحظات لا تستطيع التمييز بين العدو والصديق، وقفت وقلت لهم: "نحن فارين من الجيش ومعنا جريح". فقال: "منشق أو مدني"، قلت له: "مدني".
جاءت سيارة نقلونا بها إلى قريتهم. اسعفوا رأفت وجلسنا معهم شارحين قصتنا، ثم استضافونا في أحد المنازل، استيقظت في مساء اليوم التالي، أخبرونا أن رأفت بخير، وعلمنا أن الجيش وضع حواجز ومتاريس في قريتنا.
في القرية الجديدة كانت هناك بحيرة نجتمع كل يوم لنفكر في كيفية تحرير قريتنا. بقيت هناك وحيدًا فبعض الرفاق تابع طريقه وهاجر، والبعض انزوى مكتئبًا، ولم يمرّ إلا وقت قصير حتى بتّ أحكي للبحيرة الصامتة الحكاية نفسها كل يوم، كما لو أنها حكاية ما قبل النوم، لكنّ البحيرة لا تنام.
اقرأ/ي أيضًا: