تتشكل على هيئة باحة متوسطة الحجم، فيها كراسٍ وشموع ومسابح، وكل ما يلزم للصلاة والتأمل والابتهال. هي امتداد لكنيسة المهد على الأرض التي يأتيها الحجاج المسيحيون كل عام من جميع أنحاء العالم، تسمّى مغارة الحليب. أثريّة المكان وضخامته تزيدان من الطمأنينة المحيطة به، ويسهم البخور الذي أُحرق في أرجاء المكان، وصوت الأجراس والتراتيل، في جعله أكثر قدسية. يبدو كل شيء كأنه صنع من ذهب أو حجر كريم. البلاط بدا جميلًا ناصعًا يكشف تلوّن الأحجار داخله، كأن الآلاف لا يطأونه.
تزدان أركان المكان بصور ورسومات وتماثيل لابنة عمران. امرأة جميلة جدًّا، وتزيد من جاذبيتها قداسة وجهها المنحوت، وعينان واسعتان وفم صغير ووجنتان متوردتان برحمة غير مشوبة بضعف. على رأسها حجاب يغطي شعرها، وروب أزرق فوق طبقات من الأقمشة البيضاء، تغطي كل ما فيها من جسد، إلا امتداد رقبتها حتى ثدييها. تضم إلى صدرها وليدها، ولا يرتسم استحياء في ملامحها العطوفة التي يحتضنها بعينيه ويديه. لا ينظر لشيء غيرها، كأنها أصل الوجود، يثبت فمه على ثديها بعناد من أمسك كل مفاتيح الكون، فيعطي كل زواره ظهره، غير مكترث إلا بخيط سائل مقدس ربط بينه وبينها. تظهر من ورائهما شمس بأشعة مثلثة ذهبية تبدو كأنها قد أخرجت العذراء ووليدها منها.
في الجهة المقابلة لمغارة الحليب، تتكاتف منازل المدينة التي امتدت على طول الطريق، يزاحم بعضها بعضًا، كأنها تتكاثر بسرعة عجيبة، لتملأ البيوت بالسكان بأسرع ما يكون. يجلس بيت صغير في أحد المباني، بيت صغير ووديع، عادي، لا يقوى على فضح ما يدور بداخله من وشوشات غلّفت بالتراتيل والصلوات. فيه صالة بنت العناكب بيوتها في زواياها، وصور على الحائط خطّت بألواح وعبارات دينية. المكان ضيق جدًّا، كأنه لا يتسع لأحد رغم الفراغات، والهواء نادر، ولا يسمح للكثير من الاستفسار أو السؤال. دُفعت كل الأرائك والكراسي فيها لتلامس الحيطان، وتفسح مكانًا في المنتصف لسرير يأوي ما تبقى من إنسانة.
في مغارة الحليب، يتضرع الزوار إلى البتول بالصلوات والتهاليل وآيات من الإنجيل والقرآن وصلوات أخرى بلغات كثيرة يصعب فك رموزها لمعرفة انتمائها. نساء يرجونها أن تُذهب ما بهن من داء وتشفع لهن، عسى أن يزرع في أرحامهن معجزة كما زرع لها. تمسك إحدى الزائرات بطرف الحجاب، الذي وضعته على عجل ليغطي أجزاء من شعرها، لتخفي دمعة مألوفة لها وليس لغيرها، ويجثو آخرون على ركابهم ضامين أيديهم إلى صدورهم بخشوع متمتمين بسرعة فائقة، ويكتب آخر رسالة امتنان بلغة أجنبية، يطويها جيدًا لتتسع في أحد الثقوب الصغيرة بين الجدران. في وجوه الزائرات يأس يجعد الوجوه، حتى بَدَوْنَ أكبر من أعمارهن الحقيقية بسنوات. حتى الرجال كانوا يبكون، كأن البكاء قد حطّ في موطنه الأصلي، فمنع أي عار مصحوب به خارج المكان. الرجاء يشبع أنفاس المكان، فيختلط بالبخور، ليصبحا واحدًا يصعب التمييز بينهما. الأمنية واحدة، لا يردنه إلهًا أو نبيًّا أو مخلصًا أو منقذًا أو شافيًا، لا يردنه إلا نطفة.
في الجهة المقابلة لمغارة الحليب يوجد البيت الذي تتضرع فيه جثة فتاة متمددة. يكسو جسدها النحيل قميص أبيض يغطي نصف ذراعيها وبنطلون جينز وحذاء أسود تلوث من الجانبين. يهدل شعرها البني فوق وجهها وصدرها الممتلئ. ملامحها شديدة القلق، تظهر صغر حجم أنفها وفمها وطغيان حاجبين كثيفين ينحفان في اتجاههما للالتقاء ببعضهما على ملامح عينيها. تنتفض بقوة لتسلم آخر ما في جسدها من روح، تتشنج وتصعد وتهبط وتتحرك أطرافها بشكل عشوائي وعنيف يكاد يشق الثياب التي لفت جسدها ويكسر السرير تحتها. تتقلص أصابع يديها، كأن روحها تخرج من كل الأماكن في جسدها، ويهتز جذعها كأن أرواحًا شريرة تتشاجر فيما بينها، فيما يهتز رأسها كأنه قد شارف على الانفصال عن رقبتها التي بدت أكثر هشاشة من أن تتحمل عبء هذا التخبط. يتحلّق أهل الفتاة حولها بانتظار انتهائها من عملية لا بد منها. لا تظهر على وجوههم أي علامات، كأن الله أفرغها من أي نوع من أنواع العواطف، حتى بدوا جميعًا بنفس الهيئة والشكل، لا تميز منهم الرجل عن المرأة. ينظرون إليها كأنهم لا يرونها، لا يصلون ولا يتمنون ولا يبكون، هم تحلقوا حولها للاستعداد لدفنها فقط، كأنهم لا يعرفونها ولم يروها من قبل ولم تعش أكثر من عشرين ربيعًا بينهم وبينهن.
التابوت بني مرصع بذهب لامع وزخرف على قوائمه، فبدا كتحفة فنية نادرة. ضخم ومبهرج ولا يظهر جمال خارجه حقيقة ما في باطنه، كل ما فيه يليق باسم العائلة. تبدأ الجنازة المرتلة الحزينة التي يدعى إليها كل أهل البلدة الذين حضروا لتأدية الواجب، فانتشروا في الحيز الذي يفصل بيت الفتاة عن أقدس كنائس العالم التي ستؤبن فيها.
في مغارة الحليب، يعلق المؤمنون النقود، بمختلف عملاتها، والأمنيات المكتوبة التي لفت أو طويت أو جمعت والقلائد الذهبية، كأنه لم يعد هناك متسع لأي أموال أو عطايا أخرى، لتشكل ما يمكن أن يجمع ثروة من أموال قد تجد، إذا وظفت، حلًّا لجميع مشاكل العقم والإنجاب في العالم. الحقيقة هي أن طلاب العذراء يرون عندها ما لا يرونه في أي عقار أو تجربة أو مبضع أو مجهر أو أنبوب أو عشبة أو تعويذة. إنها الأم الأعجوبة.
تدق الأجراس معلنة وقت صلاة الرهبان والأخوات للصلاة. برفق صارم، يطلب الراهب المسؤول من الزوار الرحيل، فيجرون أنفسهم بصعوبة وهم يجففون آثار دموع الرجاء عن وجوههم. تتغير ديناميكية الحركة، ولا تتغير الروحانية التي فرضت نفسها على المغارة ومن فيها. يساهم في ذلك اتساع العينين المرحبتين بمزيد من المحتاجين بعد انتهاء الصلوات.
مجددًا، تدق الأجراس مرة أخرى من كنيسة المهد، ويؤذن مؤذن مسجد عمر بجانبها، معلنًا وقت صلاة الظهر، لتبدأ جميع أنواع الصلوات في البلدة. تختلط التراتيل ببعضها كأنها عجينة تجانست، فلا يخرج أي لحن أو كلام وبقايا صوت عن أذن موسيقية موزونة.
تسقط قطرة الحليب من ثدي مريم في لحظة نادرة لوليدها وهو يقطع الوصل الأول بينهما، لتحدث معجزة تغير حياة العالمين. في موضع سقوطها، تتكور على أرض بيت لحم، لتكبر تدريجيًّا وتصنع مغارة تحتضن القطرة والأم والوليد، وتصير مزارًا للمؤمنات والمؤمنين من كل الأديان والأجناس والألوان.
بعد أن تهدأ وتيرة تصارع الجثة، تتجمد كأنها لم تكن تصعد وتهوي منذ لحظات مضت، تغرق بسكون أبدي، كأنها اتحدت أخيرًا مع السرير، فيبدأ أهلها أخيرًا بتغسيلها جيدًا، ثم تمشيط شعرها ورشها بالمسك، ووضع كفيها بعضهما فوق بعض، كأنها تحتضن صدرها بقوة، وإغلاق عينيها، ومسح نقطة دم حمراء على شكل إنسان مصغر سقطت من فرجها، فمسحوها بقطعة قماش مهترئة عثة قذرة.
يصطف جميع المعزين حول جثة الفتاة، يرتلون بصوت واحد قد أثقله البخور الذي سيطر على رائحة المكان، يرددون بخشوع: "السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا مَرْيَمُ، يَا مُمْتَلِئَة نِعْمَة، الرَّبُّ مَعَكِ، مُبَارَكَةٌ أنتِ فِي النِّسَاءِ، وَمُبَارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنك يَسُوع، يَا قديسة، مَرْيَم، يَا وَالِدة الله، صلّي لأجلنا نَحْن الخطاة الآنَ وَفِي سَاعَة موتنا"، يكرر جميع الحاضرين بصوت واحد: آمين.
اقرأ/ي أيضًا: