يُشبه حمزة عراب (1986) وهو يتسلّل إلى قبو في إحدى عمارات مدينة الأغواط، 400 كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة، واحدًا من صعاليك الليل يتسلّل إلى سيجارته المهرّبة، أو إلى كأسه الممزوجة بأوجاع المرحلة، لكنّه ما إن يُضيء عتمة القبو ويلمس عناصره، حتى يتحوّل إلى راهب يلقّن الحديد الصّلب آيات ليّنةً من كتاب الحياة.
أن تنحت وجهًا واحدًا عليك أن تعتزل كلَّ الوجوه، وأن تكون دقيقًا في رصد ملامحه
فتح عينيه داخل أسرة يُمارس فيها العمّ علّال النحت من كلّ المواد، ما عدا الحديد، ويُمارس فيها الوالد العيد عراب التصميم والحدادة الفنية، منذ أربعين عامًا، فهو من السبّاقين إلى اختراع آلات وسيّارات ومروحيات وألعاب في الفضاء الجزائري. غير أنّ الشّغف الأوّل لحمزة كان العزفَ في فرقة موسيقية متخصّصة في الروك، ثم الانخراط في دراسة المحاماة التي حصل فيها على شهادة الكفاءة المهنية عام 2013، وشهادة الماجستير عام 2016.
اقرأ/ي أيضًا: فريد عمارة.. سحر البساطة
أن تنحت وجهًا واحدًا عليك أن تعتزل كلَّ الوجوه، وأن تكون دقيقًا في رصد ملامحه، عليك أن تلامس روحه أكثر من النظر إلى صورته المعلّقة أمامك، وأن تتمكّن من تطويع الحديد، عليك أن تنسى آلة القطع التي يسمّيها النحاتون "الزّبرة" وتتذكر حرير أصابعك. بهذه الفلسفة، يتماهى النحت مع الشّعر، فلا تدري هل تسمّي ما ترى منحوتةً أم قصيدة.
لا يشترط حمزة أن يكون الوجه الذي ينحته معروفًا عنده، فقد نحت تماثيلَ نصفيةً لشخصيات يعرفها عن قرب، كان آخرها المسرحي هارون الكيلاني، بل يشترط أن يكون وجهًا يُثير الأسئلة في رأس مشاهده، لأنّه حين يوضع أمام المتلقي، ينزاح من كونه فلانًا، إلى كونه موضوعًا له عتبات نصيّة وفلسفية وإنسانية، يستمدّ هويته منها لا من بطاقة تعريفه الوطنية أو من سيرته الفنية.
هذه الرّسائل التي تبثّها المنحوتة هي ما يدفع حمزة أحيانًا إلى أن يستغني عن وجوه يعرفها، حتى وإن كان هذا الاستغناء يحرمه من المال الذي يستعدّ أصحابُها لأن يدفعوه، وينحت وجوهًا ليس لها وجود أصلًا. هكذا تكون بنتَ الخيال لا الواقع، لكن يستحيل على من يشاهدها أن ينفي كونها واقعيةً، لأنها تمثّل وجعًا أو حلمًا أو شغفًا إنسانيًا، وهي حالات تملك سلطة أن تفرض نفسها علينا، فنقف أمامها مصدّقين وميّالين لأن نكون أكثرَ صدقًا.
هنا يطرح هذا السّؤال نفسه: بأيّ حقّ نتحدّث عن الصّدق والمشاعر، ونحن نتحدّث عن الحديد، الذي يُشكّل المادة الخام لحمزة عراب؟ يقول إنّ المشاعر ليست حكرًا على الإنسان، فهو نفسه خلق من تراب، بل هي ملك لكلّ عنصر/ شيء/ كائن/ فن/ موقف/ يتمّ إنتاجه بإحساس عال، فللجماد طاقة فيزيائية فعّالة أيضًا، وهي ترجمة أخرى للعاطفة عند الكائنات الحيّة. إنها سلطة الفنون التي "تُبعث فيها الرّوح الخفية"، كما ورد في كتاب "التحوّلات" لأفيد.
يُحدث حمزة عرّاب ثقوبًا في منحوتاته البشرية، تعبيرًا عن خواء الإنسان المعاصر
اقرأ/ي أيضًا: فاس.. سيكولوجيا المعمار وطبائع التطرف
يميل حمزة إلى أن يُحدث ثقوبًا وفراغات في منحوتاته البشرية، ويُبقي منحوتاته الحيوانية كاملة الملامح والأعضاء، تعبيرًا عن الخواء الذي يعيشه الإنسان المعاصر، بينه وبين نفسه بالدّرجة الأولى، بينما يوجد الخواء الذي يعانيه الحيوان في محيطه، بسبب الإنسان نفسه، فنقص الإنسان في ذاته، رغم فتوحاته العلمية والتقنية، ونقص شريكه الحيوان في ما هو خارج عنه. من هنا، تظهر المنحوتات البشرية عنده خاليةً من الأفعال التي تحيل على الحركة، في مقابل ظهور منحوتاته الحيوانية في حالة توثّب أو طيران.
يظهر هذا التوجّه أكثر، في منحوتته "شجن"، حيث يتملكك انطباع بأنه نحت العواطف والأحاسيس، وخصّص من الوقت والانتباه في ذلك، أكثر من تخصيصه وقتًا وانتباهًا لنحت الملامح، فتقف أمام ربوة هائلة من الأوجاع الأفريقية المسكوت عنها، لتتبنّاها في النّهاية، وتتخذ موقفًا لصالحها، وهو ما دفع باللجنة المشرفة على مسابقة أحمد ورابح عسلة اللذين تحمل مدرسة الفنون الجميلة في الجزائر العاصمة اسميهما، إلى أن تمنح جائزة دورة 2017 لها.
يحرص حمزة عراب على أن يبقي كائناته في قبوه الذي يعتبره معبده الخاص، أكثر من حرصه على أن يعرضها خارجه، فهو يعتبر كل ما نحته لحدّ السّاعة، مجرد تمارينَ تسخينية، لمرحلة ستشهد انطلاقاته الحقيقية، في تجسيد فلسفته الفنية القائمة على إنقاذ الحياة، ببثّ نبضها في أوصال الحديد.
اقرأ/ي أيضًا: