بسام أبو دياب راقص وممثل لبناني، بدأ بدراسة التمثيل في معهد الفنون الجميلة ودخل عالم الرقص الفولكلوري، ثم أصبح توجهه أكثر نحو المسرح الحركي الذي يستخدم الجسد والرقص المعاصر. في السنوات الأربع الأخيرة بدأ العمل على عروض راقصة يكون فيها المخرج ومصمم الرقص والمؤدي، وأغلبها يتم عرضها خارج لبنان.
وكان لنا معه هذا الحوار حول الرقص المعاصر وعلاقة الرقص بالطقوس الدينية.
- ما الذي يميز الرقص المعاصر عن غيره؟
قوة الرقص المعاصر بدأت بعد الحرب العالمية الأولى ومع الثورة الصناعية حيث جعلت الإنسان يفكر بمنطلقات جديدة في وجوده وفي عالمه. تم كسر النظرة الرومانسية في المسرح التي تقدس الجمالية وظهرت مدارس جديدة تحمل رؤى مختلفة منها العبثية والعدمية والوجودية وغيرها من الفلسفات التي انعكست على مجمل الحياة الثقافية والاجتماعية والتي تبنت في بعض الأحيان دروب البشاعة كأدوات تعبيرية.
بسام أبو دياب: ما يميز الرقص المعاصر هو الكيفية التي يمكن من خلالها خلق عمل فني معاصر للقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية
ومع هذا التموضع الجديد للإنسان في العالم تم كسر الرقص الكلاسيكي مثل الباليه والفلكلور ذات القواعد والتقنيات المحددة، من أجل إيجاد صيغ جديدة تكسر النظام السائد وتعمل على تبديل أو تعديل أو تغيير نظام الممنوعات والمسموحات في الفن وغيره من الميادين.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يُعدُّ الجسد الراقص "حركة" سياسية؟
بدأنا نرى أشكالًا جسدية وحركات تعبيرية لم نكن نراها سابقًا، وصار الجسم يبحث عن مفردات حركية أكثر قسوة وأكثر إنسانية في نفس الوقت. إنها نوع من البحث عن الجمال عبر الرداءة، وتجلي الإنسانية من خلال البشاعة. وذهب الرقص المعاصر ليكون أكثر درامية وأكثر طبيعية بأسلوب جديد.
- ما هي عناصر الرقص المعاصر؟
ما يميز الرقص المعاصر هو الكيفية التي يمكن من خلالها خلق عمل فني معاصر للقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، وتكون العروض على صلة وثيقة بالحالة والزمان والمكان التي يتأثر بها الراقص ويود طرحها في عمله، خاصة وأن مجالات التعبير غير محدودة في هذا الشكل من الرقص حيث يمكن استخدام عناصر كالفيديو والصوت والتراتيل والصور الفوتوغرافية والموسيقى والأغاني والأزياء وغيرها من التقنيات.
وحيث يمكن استخدام أي نوع من الفنون لخدمة العرض لأن أسلوب الرقص المعاصر حر إلى أبعد الحدود. فلا يقتصر العرض حينها على الخطوات والموسيقى كما في الباليه على سبيل المثال بل يتعداها، وأما النصوص فتستخدم من دون الالتزام بسياق حواري معين باعتبار أن النص أصبح نوعًا من الموسيقى والإشارة والرمز.
والأهم أن الرقص المعاصر لا يكون معاصرًا إن لم يحمل طرحًا معاصرًا، إذ لا تكفي الحركة والتشكلات الجسدية الغريبة أو المبتكرة لجعل الرقص معاصرًا إن لم تكن هذه التشكلات تحمل لدى المصمم والمؤدي فكرة ما يراد قولها. لذلك هناك الكثير من أساليب الرقص المعاصر التي لا يمكن وضعها في قالب واحد أو ضمن معايير واحدة، إذ كل مصمم يختار أسلوبه الخاص من أجل إيصال رسالته. هذه الحرية في الرقص تكسر التقليد وتواجه السيستم الذي يحاول وضع الإنسان في قوقعة والذوبان في الجماعة.
- متى بدأت حركة الرقص المعاصر في لبنان؟
عام 2005 بدأت حركة منظمة مع الراقص عمر راجح في "مقامات" وما زالت مستمرة حتى اليوم حيث في كل سنة هناك مهرجان للرقص المعاصر في بيروت ويتضمن عروض وورش عمل من كافة أنحاء العالم. حاولت هذه الحركة الانتشار في لبنان ككل وعدم الاقتصار على العروض في مدينة بيروت، لكن هناك أسباب منعت هذا التعميم بذات الزخم، وتجدر الإشارة إلى حضور اكثر من 1500 شخص للمهرجان سنويًا.
- هل يمكنك تحديد المقصود برقص الطقوس الدينية؟
عملت على فكرة الطقوس الدينية وبنيت العرض على فكرة التقمص، وبما أن التقمص يعني انتقال الروح من جسد إلى آخر فكانت الفكرة لها علاقة بإشكالية "هل الحركة روحية أم أنها عبارة عن حركة جسد فقط؟"، وعندما تنتقل الروح من جسد إلى آخر كم تحمل معها من الذاكرة، وهذه الذاكرة كم تؤثر على حركتنا؟ وللقول إن الراقص يرقص بناءً على ذكريات جسده ربما.
بسام أبو دياب: الحرية في الرقص تكسر التقليد وتواجه السيستم الذي يحاول وضع الإنسان في قوقعة والذوبان في الجماعة
استعملت الطقوس التي يستعملونها في العزاء عند الدروز، فنجد أنه عند هذه الطائفة أثناء المآتم يقولون الشعر والزجل ويؤدون حركات جماعية موروثة اجتماعيًا، وصارت طقوس تتكرر باستمرار منها الصلاة على جسد الميت والنواح والبكاء والطواف بالنعش وترديد المفردات المتناسقة.
اقرأ/ي أيضًا: عرض "البرزخ".. رحلة في عوالم الذهن البشري
كان طرحي يفترض السؤال عن مدى تأثير هذه الطقوس على جسد الميت ومدى لزومها، خاصة أن المشاهد لهذه الطقوس من البعيد ربما تثير لديه الضحك، ولا أقصد السخرية منها بقدر ما أقصد فهم الغاية منها. فمثلًا نجد أنه في منطقة باليرمو في إيطاليا هناك ما يسمى "الندابون" يتم استئجارهم ليبكوا أثناء الدفن.
حاولت إيجاد ترابط بين ما يحصل في العزاء بين الجسد الذي يعتبر نقطة الارتكاز وكل ما يحصل حوله، وكم يتأثر هذا الجسد بما يحصل حوله من طقوس، علمًا أنه غير قادر على الحركة أو ربما كونه غير واعي. إنه ميت.
في المستقبل لدي مشروع للعمل على طقوس المسلمين الشيعة كما في عاشوراء، وطقوس السنة والمسيحيين واليهود، فكل طقوس هذه الطوائف الدينية ترفد أعمالي بتشكلات جسدية جديدة ومبتكرة لأن طقوسها في حد ذاتها صالحة للإستخدام التعبيري الجسدي. يمكن القول إنني أعيد هذه الطقوس إلى مكانها الصحيح، أي إلى المسرح، حيث وجدت في البدايات قبل أن تتخذ صفة المقدس.
- ما الهدف من وضع الطقوس على خشبة المسرح؟
فكرتي أن أضع هذه الطقوس على المسرح وأعرضها فنيًا لتكون مجدية أكثر وذات جمالية أكبر. من خلال بحثي عن الطقوس وجدت أنها متناقلة ومنها ما هو مشترك وموجود عند ديانات قديمة وثنية. هذا يعني أن الطقوس حركة عفوية نشربها بدون وعي ونرثها. استعمالي لها ليس توصيفًا للطقوس بحد ذاتها لكن استعمال لدلالات وعناصر جسدية قادرة على خلق صور يمكن للمشاهد أن يستمتع بها. إضافة إلى كون هذه الطقوس قادرة على حمل أفكاري لأنها تشكلات راسخة في العقل الجمعي في المجتمع العربي ومتناقلة عبر الأجيال. إنها صندوق أو مخزن من الرموز والحركات والإشارات ولها دلالات واضحة.
بسام أبو دياب: حاولت إيجاد ترابط بين ما يحصل في العزاء بين الجسد الذي يعتبر نقطة الارتكاز وكل ما يحصل حوله
هناك أيضًا الأهمية الجمالية لتحويل هذه الطقوس إلى فن تعبيري وتخطي الحدود وكل المسموحات والممنوعات في عملية التجريب لخلق جمالية جديدة في كل مرة ويكون جذرها الأصلي هو الطقوس الدينية. ومن الإيجابيات المهمة جدًا أن هذا النوع من المسرح الراقص يكسر فكرة الإستنساخ المستمرة للمسرح الغربي وتقديمها للجمهور العربي. أحاول أن أفعل العكس.
اقرأ/ي أيضًا: الرقص.. شغف اليمنيين في السلم والحرب
ومن ثم عرض نتاج العمل الفني لجمهور آخر لا يعرف هذه الطقوس في أوروبا وأمريكا وهذا ما يجعل الجمهور يتلقف العروض لأنها متميزة ومثيرة للدهشة من وجهة نظره لأنها تحمل رموز وتعابير غير مألوفة بالنسبة إليه. يمكن القول أن عرضي يشبه صندوق الفرجة. هناك حالة من المثاقفة والمشاركة الغنية وجمهور الخارج يعطي قيمة وجمالية مختلفة كليًا لعروضي عما يمكن أن أراه في لبنان.
- كيف تقيّم تلقي الجمهور للرقص المعاصر؟
تجربة مهرجان بيروت للرقص المعاصر أثبتت أن الجمهور يأخذ ما يعطيه اياه الفنان حتى لو كان جديدًا شرط أن يستمر العطاء لفترات طويلة، كي يعتاد الجمهور على هذا النوع الجديد من الرقص أو المسرح أو الفن بشكل عام، لأن كل حركة ثقافية جديدة تواجه بالرفض أو عدم القبول ثم بعد مدة تصنع جمهورها لكن ذلك يتطلب جهود مضنية من قبل الفنانين.
يصعب على الجمهور أن ينتقد الفنان وجهًا لوجه، وهذه عادة يجب تخطيها. الأفضل أن يعبر الجمهور عن رأيه في العروض وعلى الفنان أن يتقبل النقد. شخصيًا، قدمت العديد من العروض في لبنان ونالت إعجاب الجمهور بالرغم من أن البعض عبر عن عدم فهمه لما نريد قوله وعن غرابة مما شاهدوه. فالجمهور في لبنان ليس لديه الشغف لمشاهدة أنواع جديدة من العروض المسرحية. إنه جمهور تقليدي إلى حد ما.
لا أخفي حذري عندما أعرض في لبنان لذلك أقوم بتحوير العرض وجعله ألطف لأنني أعلم أننا شعوب نقوم بثورة من أجل شتيمة موجهة لمقدس أو زعيم أو شيخ أو فكرة ما. لكن يبقى أن هناك فئة ضيقة من الجمهور في لبنان تتقبل العروض بهامش كبير جدًا، وأعتقد أنه يجب العمل على جعل هذه الفئة أكبر.
- لماذا توجه نشاطك إلى الغرب أكثر من لبنان؟
في مكان ما لا يمكن المس بالطقوس الدينية لذلك أحيانًا يكون الطرح أكثر قدرة على التعبير، ويعطي للراقص هامشًا أكبر حين يكون العرض خارج لبنان لأن أنظمتنا الاجتماعية والثقافية متعلقة بالأديان وتشكل نوع من المحرمات.
بسام أبو دياب: أحاول أن أرى كيف يمكن للبشر أن يكون لديهم انتماء أو فهم لرموز حركية معينة بشكل طبيعي وعفوي وتؤمن نوعًا من التطهير باعتبارها مقدسًا
كراقص أرى هذه الطقوس بمنظور جمالي ونقدي مختلف وأضعها على المشرحة. أحاول أن أرى كيف يمكن للبشر أن يكون لديهم انتماء أو فهم لرموز حركية معينة بشكل طبيعي وعفوي وتؤمن نوعًا من التطهير باعتبارها مقدسًا.
اقرأ/ي أيضًا: إسماعيل فريحي.. الرقص أفقدني كثيرًا من "الريش" في الجزائر
في العمق أعرف أن هناك طروحات بإمكاني طرحها خارج لبنان ولا يمكنني طرحها في لبنان لأنه ربما يتم فهم العرض بكونه محاولة لإلغاء الأديان وتدخل سافر في خصوصيات الجماعة ومحرماتها مما يثير ردات فعل هجومية. ما يجعلني أقدم عروضي في الخارج ليس بسبب الحذر فقط، وإنما لأحمل هوية ثقافية وأنقلها إلى الغرب وأمريكا، وهذه الهوية تشمل مفردات ومعاني وحركات تؤدى في الطقوس الشعبية عند الجماعات الدينية المختلفة في لبنان وهذا ما يميز عملي في الخارج لأن له خلفية. ولكن عندما أصل لطرح عميق من الناحية الفنية وأشعر أن البحث الخاص بي اكتمل لناحية تأليف عروض جديدة، فإنني سأواجه لأنني متمرد بطبعي على كل السيستم السياسي والثقافي والاجتماعي، وبطبيعة الحال تبقى بيروت حاضنة ثقافية منفتحة للرقص والفنون.
لبنان بلد صغير والسياسة الثقافية شبه معدومة ونوعية الطروحات التي أقوم بطرحها ليست جماهيرية وشعبية، ولا أريد الخوض في تجربة عروض "ما يريده المشاهدون" وأفضل الاستمرار في البحث والتنقيب في ميادين أكثر عمقًا. ففي الغرب هناك تبنٍّ وشراء للعروض التي أقدمها من قبل العديد من المهرجانات لأنها عروض متميزة وجديدة، ولأن هناك سياسات ثقافية على مستوى عالٍ جدًا تهدف إلى تعرفة الجماهير على نوع الرقص الذي أقدمه.
أحزن لأنني لم أتلق الدعم في لبنان من أي جهة فيما عدا "مقامات" للرقص المعاصر، والسبب في قلة الدعم أن الثقافة متداخلة مع السياسة وهناك كانتونات ثقافية وكل كانتون يدعم الفنان الذي يوالي توجهه السياسي أو من هم محسوبون عليهم، ولا يتم الدعم للفنانين المستقلين، وأنا لست محسوبًا على أحد ولا أريد أن أصنف ضمن أي إطار لأنه تقويض لحريتي ومناف لحركة الرقص المعاصر.
اقرأ/ي أيضًا: