يوم 6 حزيران/ يونيو الماضي، استيقظت أوكرانيا والعالم على كارثة بيئية، لم تشهد البلاد مثلها منذ انفجار مفاعل تشيرنوبل النووي عام 1986، ذلك بعد انهيار جدار السد أمام خزان المياه الضخم في كاخوفكا (إقليم خيرسون)، لتغمر سيوله مناطق واسعة من موقع السد حتى سواحل البحر الأسود، وتجرف معها بلدات بأكملها وحقولًا وغابات كانت تحوي حياة برية متنوعة.
وبين حالة الهلع التي أصابت الشعب الأوكراني جراء ذلك، وجهود سلطات البلاد لنجدة المناطق المنكوبة، توجهت أصابع الاتهام لروسيا في الكارثة، رغم نفي موسكو مسؤوليتها عنها.
بوهدان كوتشينكو: هناك التلوث الكبير الذي طال التربة والمياه جراء استخدام ملايين القذائف المدفعية والذخائر الأخرى في القتال، وهو ما يخلف مجموعة من المواد الكيميائية المسؤولة عن تلويث التربة والمياه
وشكل انهيار سد كاخوفكا حدثًا دوليًا، تداولته منصات الإعلام العالمية بشكل واسع، ولكن من الجهة الأخرى، تبقى الأضرار البيئية للغزو الروسي لأوكرانيا والجرائم البيئية الروسية هناك، جانبًا من الحرب قلما تم التطرق إليه، وبالتالي لا ينشر عنه الكثير، عليه إلا ما ندر في أخبار متفرقة. ولتسليط الضوء على هذا الواقع وتوضيحه أكثر، ولأخذ نظرة أقرب على عمل المنظمات البيئية الأوكرانية في وقت الحرب، نستضيف الخبير البيئي الأوكراني وعضو منظمة "إيكوديا"، بوهدان كوتشينكو، الذي يحضر في مقابلة حصرية مع "ألترا صوت". وذلك ضمن ملف مفتوح بعنوان "الخميس الأخضر"، سنتابع من خلاله التأثيرات الجيوسياسية للأزمات المناخية التي يشهدها العالم.
- سؤالنا الأول سيكون حول الحادث المأساوي الذي شهدته أوكرانيا، ألا وهو تفجير سد كاخكوفكا. هل يمكن توضيح مدى أضرار هذه الكارثة البيئية وتأثيرها على التوازنات الإيكولوجية في المناطق المتضررة؟
في البداية، من الجدير بالذكر أن تدمير القوات الروسية لسد كاخكوفكا هو أكبر جريمة بيئية تتعرض إليها أوكرانيا منذ بداية الغزو الروسي. وبالرغم من وجود عدد من الجرائم البيئية الأخرى واعتداءات جسيمة على بيئتنا، تبقى هذه الجريمة هي الأكبر بحيث يمكننا تصنيفها على أنها "إبادة بيئية" (Ecocide)، نظرًا للدمار الكبير الذي أحدثته في الأوساط البيئية وعلى مستويات عدة.
هذه الأضرار التي يمكن أن نذكر منها: أولًا، وبطبيعة الحال، السيول التي اجتاحت مناطق واسعة حول حوض نهر دنيبرو، جارفة معها كل الأوساط الحية التي تزخر بها تلك المناطق، علمًا أنها لم تشهد سيولًا منذ قرون، بالتالي سمح ذلك بنشوء أوساط بيئية، دمرت مع ارتفاع منسوب المياه. وهو ما تسبب بنفوق عدد كبير من الحيوانات والقضاء على نباتات عديدة، كانت أنواعًا متوطنة في هذه المناطق حصرًا، ما وضعها تحت تهديد كبير بالانقراض.
إضافة إلى هذا، وبما أن السيول امتدت إلى مناطق القتال، والتي كانت ملوثة بمواد كيماوية، وحتى إلى بلدات ومناطق سكنية، وبالتالي حملت معها الكثير من الملوثات؛ كالمواد النفطية من بنزين ومازوت، والمبيدات الحشرية والزراعية، ومياه المجاري الملوثة، وهذه المواد السامة والقاتلة يمكن أن نجدها الآن [تطفو على السطح] في السواحل الشمالية للبحر الأسود، وهو ما وثقه عدد من النشطاء في أوديسا، أي على بعد 200 كيلومتر أو أكثر من موقع انهيار السد.
وكذلك هناك أخبار عن أن درجة ضحالة مياه الساحل الشمالي للبحر الأسود، ما بين أوديسا وميكولايف، تضاعفت بأكثر من مرتين، وهو أمر ضار لتنوع الأحياء البحرية بحيث أن عددًا من الأنواع ليست لها قدرة العيش في هذه البيئة، خصوصًا وأن هذا الارتفاع وقع بشكل سريع وفجائي. ومن ناحية أخرى، هناك فراغ خزان السد من المياه، الذي تسبب في نفوق الكثير من الأسماك، وربما تقدر بـ 100 طن من الأسماك، كما شاهدنا في عدد من مقاطع الفيديو وهي تتكوم في قعره.
- في هذا الصدد، هل يمكن إيضاح دوركم، كخبراء بيئة أوكران ونشطاء في منظمات بيئية، في التخفيف من تبعات هذه الكارثة؟
مع الأسف ليس لدينا حاليًا سوى القدر القليل من المعلومات حول حجم الأضرار التي تسبب فيها تدمير السد، بسبب استمرار تدفق المياه وأن العديد من المناطق المنكوبة هي مناطق حرب، كما أن العديد من المواد الكيماوية التي تجرفها المياه لا تزال مجهولةً لدينا ولا نعرف مدى خطورتها. وبالتالي، دورنا محدود في الوقت الراهن، ويتلخص في جمع المعلومات وتحليلها، وتوعية الرأي العام المحلي والدولي بتبعات هذه الكارثة.
حتى الآن لم تتضح لنا الصورة بشكل كامل، وبالتالي من الصعب القول كيف يمكننا التدخل للتخفيف من تبعاتها. لكنّ في أغلب الأحوال لن يتوجب علينا سوى الانتظار ومراقبة الطبيعة وهي تصلح أضرارها. وبطبيعة الحال، في بعض الحالات يمكن أن تكون هناك عمليات تنظيف تقوم بها السلطات الأوكرانية في مياه البحر، لكن لا يمكن القيام بهذا سوى في الأماكن ذات تركيز مرتفع للملوثات.
أيضًا هناك خطر الألغام، البرية والبحرية، التي كانت تستخدمها روسيا لتعزيز دفاعاتها على الضفة الشرقية من نهر دنيبر في إقليم خيرسون، والتي جرفتها المياه إلى مناطق أخرى، وصلت إلى حدود أوديسا حيث عثروا على خمسة منها أو أكثر. وبالتالي لا يمكننا التدخل ميدانيًا حتى نتأكد من خلو تلك المناطق من مخاطر الألغام.
- لقد تحدثتم عن عمليات التنظيف التي يمكن أن تقوم بها السلطات الأوكرانية، لكن مع الحرب والوضع الاقتصادي والإنساني الصعب الذي تعيشه البلاد، هل لهذه السلطات القدرة والوسائل الكافية للقيام بمثل هذه العمليات؟
حقيقة هو سؤال كبير ومن الصعب الإجابة عنه، لأن مثل هذه العمليات ليس أكثر أولويات بلادنا إلحاحًا في هذه الأثناء، فقبل كل شيء تركيز حكومتنا منصب بشكل كامل على الحرب ومشكلتها، لحسم نصرنا وتحرير أراضينا وإنقاذ شعبنا، بمن فيهم سكان المناطق المتضررة بالسيول جراء تدمير السد. وبالتالي، أعتقد أننا في حاجة لبعض المساعدة في هذا الصدد، لكن لست متأكدًا من وجود أي طلب للمساعدة ولا من حجم هذه المساعدات التي يمكن أن تطلب. وكما أشرت سابقًا، بأنه حتى هذه اللحظة ليس لدينا الشيء الكبير كي نعمله من أجل البيئة في المناطق المتضررة، إلا من جمع المعلومات التي ربما قد تحتاجها وزارة البيئة الأوكرانية لاحقًا من أجل خططها للتعافي من تبعات الكارثة.
- عدا كارثة كاخوفكا، ولما يقارب من العام ونصف تشهد أوكرانيا غزوًا روسيًا، من جانبكم ما هي التهديدات البيئية التي يطرحها هذا الغزو؟ وما حجم الأضرار التي تسبب بها للحياة البرية الأوكرانية؟
للأسف لقد شهدنا الكثير من الأضرار التي طالت البيئية الأوكرانية منذ بداية الغزو الروسي، وعلى سبيل المثال حوالي 300 ألف هكتار من الغطاء الغابوي تأثرت بفعل نيران القتال خلال العام الماضي فقط، منها غابات احترقت بالكامل ومنها ما تدمر جزئيًا، وهذه مساحات شاسعة تمثل أكثر من 3% من الغطاء الغابوي الأوكراني. أيضًا هناك قطع لكميات كبيرة من أشجار الغابات من أجل بناء التحصينات العسكرية على الجبهات.
وهناك التلوث الكبير الذي طال التربة والمياه جراء استخدام ملايين القذائف المدفعية والذخائر الأخرى في القتال، وهو ما يخلف مجموعة من المواد الكيميائية المسؤولة عن تلويث التربة والمياه؛ كالمعادن الثقيلة والمواد النفطية ووقود الصواريخ، لأن عددًا من الصواريخ الروسية التي استخدمت ضد أوكرانيا كانت قديمة ومتهالكة وتحمل داخلها ما قد يصل إلى طن من الوقود، وبالتالي حين تنفجر أو يتم التعرض لها في السماء، لا يحترق كل ذلك الوقود، ليبقى بعدها في التربة ويتسرب إلى الموارد المائية.
وفي مناطق القتال، التربة ملوثة بمواد متفجرة، وهي عالية السمية، وبالتالي لا يمكن استخدام تلك الأراضي للفلاحة لعشرات السنوات من الآن. لكنّ، أخطر المناطق هي تلك التي تم تفخيخها بالألغام، فكما تعلمون تم استخدام الألغام بشكل واسع خلال هذه الحرب، وهو ما سيأخذ منا عقدًا من السنوات لنزعها وتنظيف تلك المناطق. ولا أعتقد أن عمليات نزع الألغام ستطال كل متر مربع، وبالتالي ستبقى هناك مناطق غير آمنة حتى بعد ذلك الوقت. لكنّ، أتوقع أن يتم تنظيف معظم تلك المناطق مع الوقت، ونتمنى من حلفاء أوكرانيا تقديم يد المساعدة في هذا المجال، بمعدات متطورة وخبراتهم سواء في نزع الألغام أو الملوثات الأخرى.
- في ذات السياق، كيف انعكست الحرب على عملكم كنشطاء بيئة ومنظمات بيئية أوكرانية؟
قبل بداية الغزو، كنت أعمل في منظمة بيئية، وكان مجال اشتغالنا متخصص في حماية الغابة، وطورنا عددًا من التوصيات من أجل استخدام مستدام لغاباتنا والحفاظ عليها. وتقريبًا كل المنظمات البيئية الكبرى في أوكرانيا طورت توصيات مماثلة، من أجل تحسين قوانيننا المتعلقة بحماية البيئة والحفاظ عليها، ولتنمية أكثر استدامة لاقتصادنا وتحويله إلى اقتصاد أخضر.
لكنّ مع بداية الغزو كل هذا تغير، مع أنه من الواجب علينا الاستمرار في هذا النهج والعمل على تحقيق تلك التوصيات على أرض الواقع، لأنه لا زال لدينا مشاكل كبيرة في سياساتنا البيئية، ولأن الأضرار التي تلحق ببيئتنا ليست فقط بفعل الغزو، بل هناك عدة فاعلين اقتصاديين محليين يستغلون هذه الموارد بشكل سيء وغير مستدام، وأغلبهم لا يزال يستعمل طرقًا قديمة لاستغلال تلك الموارد وهي مضرة جدًا بالأوساط الطبيعية.
الآن نحن، كما معظم المنظمات البيئية في أوكرانيا، منهمكون أكثر في متابعة وتوثيق الجرائم البيئية التي ترتكب خلال هذه الحرب، وجمع قاعدة معلومات حول الآثار المحتملة لها على بيئتنا، كي تتمكن وزارة البيئة ومكتب التحقيق في القضايا البيئية عندنا من محاسبة روسيا على هذه الجرائم، والحصول على تعويضات عن كل ما ارتكبته من دمار لطبيعة بلادنا. بالرغم من، أن الكثير من ذلك الدمار لا يمكن تعويضه بالمال، لكن نحتاج لتلك الأموال مثلًا لتنظيف المياه من التلوث والذي يحتاج إلى تكنولوجيات حديثة وتمويلات كبيرة.
- كسؤال أخير، في نظركم كيف يمكن محاسبة روسيا على الجرائم البيئية التي ارتكبتها في أوكرانيا؟
حقيقة هذه أحد أكبر المشاكل التي تواجهنا اليوم، حتى بالنظر إلى ما شهده العالم من قبل في أحداث مثيلة للتي تقع عندنا، لم يتم التعويض عن الجرائم البيئة خلال الحرب إلا في حالة واحدة، وهي عندما غزت العراق الكويت ودمرت حقول النفط، وتسربت كميات من النفط إلى الطبيعة، فتم فرض بعض التعويضات على العراق جراء ذلك، لكنني لست متأكدًا إذا ما تم تعويض تلك الخسائر بالكامل.
بالنسبة لأوكرانيا، فصحيح أن الحروب التي شهدها العالم مكنت من صياغة ترسانة قانونية لمحاسبة مرتكبي الجرائم البيئية خلال الحرب، ومن خلال هذا علينا السعي للحصول على تعويضات عن الدمار البيئي الذي تسبب فيه الغزو الروسي. لكن، بالمقابل ليست هناك إلى الآن تجارب دولية ناجحة في هذا الشأن يمكننا الاعتماد عليها، ولهذا علينا تطوير ميكانيزمات جديدة وهي فرصة كبيرة لأوكرانيا كي تكون مثالًا على محاسبة مرتكبي جرائم البيئة خلال الحروب.
بوهدان كوتشينكو: لقد شهدنا الكثير من الأضرار التي طالت البيئية الأوكرانية منذ بداية الغزو الروسي، وعلى سبيل المثال حوالي 300 ألف هكتار من الغطاء الغابوي تأثرت بفعل نيران القتال
وهذه قضية كبرى تعتمد على التعاون القوي بين الدولة الأوكرانية ممثلة بوزارة البيئة، وبين منظمات المجتمع المدني والنشطاء البيئيين ومكتب الادعاء، من أجل الدفاع على المصالح البيئية لأوكرانيا في محكمة العدل الدولية، ورفع قضية على روسيا بخصوص جرائمها ضد البيئة. ويمكن لهذا المسار أن يأخذ سنوات عدة، ولا أعتقد أنه سيتم التعويض عن كل تلك الجرائم، نظرًا لوجود لائحة كبيرة منها.
في المقابل، أتوقع أن نحصل على تعويضات على الأحداث الكبرى، كتدمير سد كاخوفكا على سبيل المثال، أو استهداف خزانات النفط، وهي أحداث يمكن لسلطاتنا إثبات المسؤولية الروسية فيها، وبالتالي سيكون لدينا حظ أكبر في الحصول على تعويضات بخصوصها ومحاسبة الأشخاص المسؤولين عنها في الكرملين.