"فلسطين الممكنة"، الفكرة والأرض التي أعادت تشكيل اللغة والأدب والشعر مرات عديدة، من أقصى الكرة لأرضية إلى أقصاها، بشكل جعل الفكرة أصيلة وجذرية. بل وتتجاوز أفخاخ الحنين الهادىء إلى التوثيق والتتبع، وتضطلع بالحكاية الشفوية لتحويلها إلى قصة محكية ومكتوبة في الزمن. لا يمكن تجاوزها وإن تجاوز الزمن شخوصها الفانين بطبيعة الحال.
لينا مِرواني: لا يمكن أن يكون هناك أي تحرك سياسي دون أن يكون له علاقة ما بالمشاعر: بالحزن والسخط، كما بالمودة والعاطفة
إحدى بطلات العودة إلى "فلسطين الممكنة" هي لينا مِرواني، الكاتبة التشيلية الفلسطينية التي ولدت عام 1970، وتقيم في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية منذ 20 عامًا. وهي حاليًا أستاذة في اللغة والأدب والثقافة اللاتينية بجامعة نيويورك.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | لورنسو فرتشيني: قانون القومية مؤشر على أزمة إسرائيل الاستعمارية
ومن بين كتبها الأهم، كتاب "دم بالعينين" الذي صدر عام 2012، وحصلت به على جائزة "سور خوانا إينيس دي لا كروث"، وهي جائزة لكتابات النساء الأدبية باللغة الإسبانية. وقد ترجمت معظم أعمال مرواني لعدة لغات منها الإنجليزية والإيطالية والبرتغالية والألمانية والفرنسية.
أما كتابها عن رحلة عودتها إلى فلسطين المحتلة "أن تصبح فلسطين"، الذي نشرته عام 2013، فتبرز أهميته ليس فقط كسيرة ذاتية أو توثيق لرحلة، وإنما باعتباره أيضًا سلسلة مقالات نقدية حول استخدامات اللغة خاصة في قضية الأرض المحتلة.
وتحكي مرواني أحداثه بضمير المتكلم، لتضفي مصداقيًا وقربًا من مجتمعات الشباب، لصالح مشروع مشترك ضد النسيان. وعنوان الكتاب "أن تصبح فلسطين"، يوحي باتحاد كامل بين الأرض والذات عند مرواني.
التقى "ألترا صوت" بلينا مرواني، وأجرى معها هذا الحوار حول تجربتها كأحد أبناء الشتات الفلسطيني. وحول كتابها "أن تصبح فلسطين".
- تصفين نفسك بأنك نصف فلسطينية. لكن بالعودة للحديث عن كتابك "أن تصبح فلسطين"، ما هي الكلمة الأكثر اتحادًا مع هويتك المركبة: "الحنين" أم "العودة لأرض الأجداد"؟
حقاً لا أجد أن أيًا منهما يعبر عني، ليس لأنني لست في حنين للأرض، ولكن لأنني لم أولد في فلسطين وليس لدي هذا الشعورالمباشر بالاقتلاع من الجذور، أو بالحنين الجارف الذي شعر به جدي وحتى أبي.
بصفتي من الجيل الأول الذي وُلد في تشيلي، فإن تجربة الاقتلاع المباشر لم تكن بين تجاربي الأساسية. لذا، وبنفس المعنى، فإن فكرة العودة إشكالية في كتابي: كيف يمكنك العودة إذا لم تذهب إلى هناك أبدًا؟ وباسم مَن ستعود إذا كان بإمكانك؟
لقد كنت مهتمةً بهذا السؤال لأن فكرة العودة قد استخدُمت ليس فقط من الناحية الرمزية، ولكن أيضًا في الواقع، وحتى من قبل المجتمعات اليهودية التي لم تكن من الأصل هناك.
لقد اخترعوا العودة، ولا أريد أن أخترع عودة أخرى، ولكن أريد خلق تلك الإشكالية التي تقول إن من كانوا هناك وتمت مصادرة أملاكهم، هم من لهم حق العودة. هم وحدهم من تعني العودة شيئًا لهم.
أما مفهومي عن الهوية، فهو يتجاوز العديد من القنوات المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا وعلم الوراثة والثقافة، ولكنه ينطلق من الوعي السياسي. هذه هي علاقتي الحقيقية مع القضية الفلسطينية. وهذا ما يجعل مني فلسطينية بالنسبة لي.
- كيف تصفين تأثير رحلتك إلى الأراضي المحتلة في وعيك؟
هناك فارق بين أن تعرف ما حدث وأن يؤثر فيك ما يحدث و يحركك، وأن يلمس شيئًا بداخلك. وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك أي تحرك سياسي دون أن يكون له علاقة ما بالمشاعر: بالحزن والسخط، وبالمودة والعاطفة.
- في القسم الثاني من كتابك "أن تصبح فلسطين" تركزين بشكل خاص على اللغة التي تبدو وكأنها محور فهمك للعديد من الوقائع في كتابك. كيف يمكن للغة أن تعبث بالوعي؟
الجزء الثاني من الكتاب الذي كان عبارة عن مقال مطول، كتبته بعد كتاباتي للقسم الأول من الكتاب بعام، لأنه كان لدي الوعي بأن التجربة المجردة لمسافرٍ ليست كافية، ولأنني في المقام الأول كاتبة توجهت إلى المكتبة لأطلع على الطريقة التي كُتب بها الصراع، وكيف استُخدمت اللغة للكتابة عنه.
في الماضي كانن لدي تلك الفكرة الرومانسية حول أن الكتابة دائمًا ما تنحو منحى سياسي يشكك في المنطق السائد، أو الخطاب الرسمي، لكنني اكتشفت أن اللغة يمكنها أن تعبث وأن تكون في خدمة المصالح السياسية، أو أن تكون في خدمة الاحتلال وإبادة الفلسطينيين في الحالة الفلسطينية. وهكذا ركزتُ على هذا الجانب، ليس في المعركة على الأرض، ولكن في معركة التمثيل والتوثيق.
أما فيما يتعلق بما تقولين، وبمراجعة ما كتبه مفكرون يهود؛ رأيت كيف يمكن للغة أن تحول الآخر إلى عدو غير مرغوب فيه، وكيف تعمل على تجريده من إنسانيته لإضفاء شرعية على تدميره. هذا هو الحال بشكل مأساوي في الحالة الفلسطينية.
- بصفتك فلسطينية تشيلية، فإن لديك هوية مزدوجة من بلدين. ما هو القاسم المشترك بينهما؟ وكيف تتفاعلين مع هذا الواقع؟
أن أكون تشيلية، وأن أكبر وأترعرع في ظل دكتاتورية، هي مفارقة سمحت لي أن أرى أوجه التشابه بين الطريقة التي عوملت بها المقاومة السياسية للدكتاتورية، والطريقة التي يتم بها التعامل مع المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي.
الأساليب ليست هي نفسها تمامًا، فهناك اختلافات في كيفية التخلص من المقاومين، ففي تشيلي كان العنف مكثفًا وسريعًا، وفي فلسطين كان العنف ولا يزال ذو استمرارية، من نوعية العنف التدريجي من الأبطأ للأسرع فالأكثر وحشية، ما لا يجعل العالم ينتبه إليه كثيرًا، وذلك لأنه في عالمنا دائمًا ما يكون هناك إبادة جماعية أو حرب تستهلك كل الانتباه والاهتمام الآني.
إن المقاومة المشروعة تُحرَم من حججها، وتُسمى إرهابًا. وتُسجَن، وتعذَّب، وتعاقب أسر بأكملها كلما سُجن أحد أفرادها، أو تُسُحب منازلهم، أو يحدث ما هو أسوأ. العقوبة دائمًا مفرطة وغير متناسبة. هذه المجتمعات تغرق في هذا التعب والاستهلاك وتُترك للنسيان. لكن هناك أجيالٌ ترفض القبول بذلك، لأن المجتمعات التي تم انتهاكها ترفض أن تنسى.
- تحملتِ كثيرًا من الانتقادات لتعبيرك عن أفكارك ومشاعرك في كتاباتك تجاه إسرائيل كدولة احتلال، وتجاه الصهيونية كأيديولوجية. هل يمكن أن تخبرينا عن هذه التجربة؟
إذا رفع أحدهم صوته فإن عليه أن يعرف أن أحد ما في المقابل سيرفع صوته ليهتف في وجهه. نحن نعيش واقعًا لايزال متحيزًا للصهيونية، ويجعل منها قوية ومؤثرة في أحيان كثيرة. فالمرء يدرك جيدًا أنه في كل مرة يقوم بمقابلة مكتوبة سيكون هناك من سيتلاعب بها ويهاجمها ويتهمها بأنها معادية للسامية!
إن الأمر أشبه بـ"كتالوج" واحد يقرأ منه الكثيرون. ويجب على المرء أن يعد نفسه لهذا، وألا يشكتي أو يعيش بعقلية الضحية، فأولئك الذين يعانون حقًا ليسوا مثلي من الذين يعيشون في الخارج، ولديهم مطلق الحرية بالتحدث كما يحلو لهم.
هناك آخرون إذا تحدثوا قد يتم تهديدهم أو يفقدون وظائفهم أو قد تُغلق الأبواب حرفيًا في وجوههم. لكنني واعيةٌ بما لدي من امتيازات، فأنا لدي ميكروفون، وأتحمل مسؤولية الظهور، لأنني أستطيع ذلك. كما أن كتابي "أن تصبح فلسطين" وما مررت به لأكتبه، قد أعادني للدفاع عن حججي، وآمل أن تكون مساهمتي في هذا الحوار أيضًا مساعدة للآخرين على التفكير واتخاذ موقف.
هناك الكثير مما تحدثت عنه لينا مرواني في كتابها من منطلقات تختلف جذريًا عن الحنين والعودة، وتتقاطع بشكل كامل مع الحق في الوجود، ومع "فلسطين الممكنة".
لينا مِرواني: نحن نعيش في واقعٍ لا يزال متحيزًا للصهيونية، ويجعل منها قوية وذات تأثير كبير في أحيانٍ كثيرة
عمقت تجربتها كتشيلية هذه الرؤية، وخلقت وجودًا أصيلًا لطالما كان ذا صوتِ. تقول مرواني في كتابها: "هناك في فلسطين كانت ثمة مدرسة تسمى تشيلي، وميدان يسمى ميدان تشيلي، وأطفال فلسطينيون حقيقيون. إذن كان كل ما هو فلسطيني مازال قائمًا".
اقرأ/ي أيضًا:
حوار | القائد الأدنى ماركوس.. أنا الهندي الأحمر
حوار | عبدالله علي إبراهيم: لم يغادرني التفاؤل بالوطن ومستقبل كادحيه