في تبريره لمنع التظاهرات المتضامنة مع فلسطين، صرَّح وزير الداخليَّة الفرنسي جيرالد دارمنان: "لن أسمح بمسيرة معادية للساميَّة، لن نسمح بتجدد تلك المشاهد الحقيرة شوارع باريس!". هو بكلامه ذاك لا يعيد إلا نقاش "مناهضة الصهيونية" لنقطة الصفر، يوم قال رئيسه الحالي بدوره: "معاداة الصهيونيَّة شكلٌ معاصرٌ من معاداة للساميَّة"؛ في ما يبدوا كونها الاستراتيجية الجديدة/ القديمة لضرب كل صوت مناضل، وهنا يبطل عجب ما كتبت يوميَّة لوفيغارو راشقة التهمة نحو اليسار:" خلف الأصوات اليساريَّة الداعمة لفلسطين تكمن معاداة للسامية".
يستضيف "ألترا صوت" في مقابلة حصرية منظمة "جويش بوند" (الرابطة اليهوديَّة المناهضة للفاشيَّة) بألمانيا
وفي ظلِّ هذا الواقع، حيث عادت قضية فلسطين عامل استقطاب سياسيًا، ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا الغربيَّة جمعاء؛ بين يمين شعبوي كان أو محافظ هو الأقرب للتطرف، وبين جزء يتنامى من يسارٍ يقف مقاومًا لتلك الأطراف محليًّا وعالميًا. ليس لنا من إجابة على تهم "معاداة الساميَّة" إلا تلك الشهاداة التي تأتي من أفواه من كانوا ضحاياها أيام سعار النازيَّة ولا يزالون. وللتعليق على هذا وأكثر، يستضيف "ألترا صوت" في مقابلة حصرية منظمة "جويش بوند" (الرابطة اليهوديَّة المناهضة للفاشيَّة) بألمانيا.
- في الخطاب الصهيوني، يتم تبرير وجود كيان سياسي استعماري يمارس الميز العنصري وجرائم الحرب بذريعة حماية المجتمع اليهودي ومحاربة معاداة السامية. بوصفكم منظمة يهودية مناهضة للفاشية، كيف تجيبون على هذه الادعاءات؟
بطبيعة الحال، نحن ضد الربط بين حماية اليهود وقمع الفلسطينيين، أو أي شعب آخر. المنطق وراء هذا القول واحد، هو الادعاء بأن إسرائيل واليهود هما الشيء نفسه، وهذا عبثي، كما من العبثي التذكير بأن اليهود استمروا في الوجود لقرون طويلة قبل وجود إسرائيل، وأن غالبيَّة اليهود في العالم الآن ليسوا إسرائيليين.
وبالتالي، فبالخلط بين الصهيونية واليهودية، إسرائيل وحلفاؤها يستغلون بحقارة التاريخ اليهودي لخدمة مصالحهم السياسيَّة. بما في ذلك ما تقوم به إسرائيل من احتلال للأراضي الفلسطينيَّة والتنكيل والتهجير الذي يطال الشعب الفلسطيني. فكيف يمكن لتهجير الفلسطينيين من بيوتهم، كما يقع في القدس ويافا، أن تكون له أية علاقة بمحاربة معاداة الساميَّة؟ وكيف لأطفال غزَّة أن يمثِّلوا تهديدًا لسلامة أي أحد؟ فعلى أي حال، إنه لمن العبثي أن تدعي أيديولوجيا عنصرية كونها حلًا لأيديولوجيَّة عنصريَّة أخرى.
- في وقتنا الراهن، هل لا زال يهود أوروبا يعانون من معاداة السامية؟ وكيف يتم التعبير عن معاداة الساميَّة هذه سياسيًا؟
معاداة السامية بطبيعة الحال لازالت منتشرة في أوروبا، وحتى خارج أوروبا. فهي التعبير الكلاسيكي لكراهيَّة اليهود، وشكلها المباشر كذاك الذي شهدناه سنة 2019، عندما هاجم أحد العنصريين البيض وأنصار الاستعلاء العرقي كنيسًا يهوديًا بمدينة هالن الألمانية، قبل أن يطلق الرصاص أيضًا على مطعم تركي. لكنها توجد كذلك بأشكال أخرى، مختلفة تمامًا، وقد لا تقدِّمُ نفسها ككراهية، في ما ندعوه "محبة السامية".
محبة السامية هذه ليست بالأمر الإيجابي، حيث يدَّعي أصحابها حرصهم على سلامة اليهود، لكن بالمقابل يستغل الأوروبيون من خلالها اليهود كأداة ضغط سياسي. مثال على ذلك، في ألمانيا، حيث يتذرَّع هؤلاء بحماية اليهود من أجل الترويج لكراهيَّتهم للمهاجرين واللاجئين. في حين أن الحقيقة هي أنهم هم العنصريون وأن معاداة السامية نتاج للتاريخ الأوروبي وتتغلغل بعمق داخل المجتمعات الأوروبية في وقتنا الراهن.
وهذا ما توضحه الهجمات العنصريَّة كالتي وقعت في هالن، عندما تم الاعتداء على المسلمين واليهود على حد سواء. وتظهر أن العنصرية، الإسلاموفوبيا، معاداة الساميَّة ومعاداة المهاجرين هي مشاكل جديَّة وخطيرة منتشرة وسط المجتمعات الأوروبية وتهدد كلَّ الأقليَّات على حد سواء.
- في ذات السياق الذي أشرتم له، في فرنسا، على سبيل المثال، كتبت جريدة "لوفيغارو" بأن " الهجمات على غزة أحيت الأصوات المعادية للسامية داخل اليسار الفرنسي". ما تعليقكم على استغلال مسألة كمعاداة السامية، والتي في غاية الأهمية بالنسبة للطائفة اليهودية، في تصفية حسابات سياسية على غرار ما قامت به الجريدة الفرنسية؟
مرة أخرى نرى هنا نفس التعليل المشوَّه الذي يستند عليه الخطاب الصهيوني؛ أنه حينما تتم إدانة الهجوم الإسرائيلي على غزة، يشار إلى ذلك بأنه هجوم على اليهود. فإسرائيل تمارس هجومًا دمويًا مسعورًا في غزَّة أودى بحياة أطفال ومسح عائلات بأسرها من الوجود، بالمقابل ما يناقشه السياسيون عندنا في أوروبا هو إذا ما يمكن اعتبار ذلك دفاعًا عن النفس، أو إذا كانت إدانة ذلك تحركها نزعات معادية للساميَّة.
إنها جرائم لا يمكن تبريرها! وبالنسبة لنا كيهود، نحن نقف إلى جانب فلسطين وندعم نضال شعبها من أجل الحريَّة، وندعوا الجميع إلى مساندة ذلك الحق. فانتقاد إسرائيل ليس معاداة للساميّة.
- من هذه الناحية، ما الدور الذي يلعبه اللوبي الاقتصادي الصهيوني في صناعة الرأي العام الأوروبي إزاء القضية الفلسطينيَّة؟
بشكل عام، فإن الدعم السياسي الكبير الذي تحصل عليه إسرائيل من قبل القوى الغربيَّة هو تعبير عن شبكة واسعة من المصالح، التي لا تقتصر فقط على جانبها الاقتصادي والمالي. فمنذ أول المستوطنات اليهوديَّة في فلسطين، وهذا الدعم يجد جذوره عميقًا في المصالح الجيو استراتيجية لأوروبا في الشرق الأوسط، مدفعهم لتفعيل مسار إقامة إسرائيل والحرص على ربط علاقات سياسية وطيدة معها.
- بالنسبة لإسرائيل هذه المرة، في نظركم كيف يمكننا أن نفسر هيمنة اليهود المتشددين واليمين المتطرّف على السياسة هناك؟
بداية نود أن نوضح شيئًا مهمًا، اليمين المتطرِّف الإسرائيلي ليس بالضرورة يهوديًا متشددًا، لكنه عبارة عن أشكال متعدِّدة من التدين الصهيوني اليميني نطلق عليها اسم "غارين تواني" (النواة التوراتية): هي مجموعات دينية صهيونية، تنشط داخل مجتمعات صغيرة ومتديِّنة بالضرورة، بذريعة تقوية علاقة اليهود بدينهم، مشكلين تيارًا متطرِّفًا يعرقل أي تحول اجتماعي.
كما أن التطرُّف اليميني في إسرائيل، يدخل في سياق صعود اليمين المتطرِّف في العالم بأسره، ورأينا ذلك عبر الشعبيَّة التي يحوزها بولسونارو في البرازيل أو مودي في الهند أو ترامب في الولايات المتَّحدة الأمريكية... غير أن حدوث هذا، ولكونه نتاج مسار سياسي معقد، يبقى عصيًا على تحليل واحد بسيط. فهناك من يقول إن كل ما حدث يتحمَّل مسؤوليته نتنياهو، الذي قام بهذه الانعطافة الخطيرة نحو اليمين، لكن دمويَّة إسرائيل لم تبدأ معه، وبطبيعة الحال لم تنته مع رحيله.
لهذه الأسباب، يجب أن نفهمم أنه من جانب الحكومة الإسرائيليَّة، فضمان دعم المجموعات الدينيَّة الصهيونيَّة والمستوطنين يقع في عمق استمرارية مسار الاحتلال، عبر تهجير وقمع الفلسطينيين.
بشكل أعم، وفي سياق هيمنة اليمين المتطرف على السياسة في إسرائيل، ما هي قراءتكم للأحداث الأخيرة؟
نحن نرى بأن العنف الذي تشهده أراضي فلسطين يجب أن يفهم في سياقه التاريخي. الهبة التي عرفها شهر أيار/مايو، بدأت مع محاولات تهجير العائلات الفلسطينيَّة من حي الشيخ جراح في القدس ومن يافا، والتي تمثل نهج التطهير الإثني الذي تقوده إسرائيل ضد الفلسطينيين، أو ما نسميه النكبة؛ لا بوصفها لحظة تاريخية بل باعتبارها حالة مستمرة ترافق المعيش اليومي الفلسطيني، وستستمرُّ طالما لم يوضع حد لذلك التطهير الإثني. بالمقابل، العدد الكبير لتظاهرات التضامن التي جابت العالم تعطي الأمل بأن البشريَّة بدأت ترى الأمور خارج البروباغندا الصهيونية وبدأت تفهم حقيقة ما يقع في فلسطين.
منظمة جويش بوند: بالخلط بين الصهيونية واليهودية، إسرائيل وحلفاؤها يستغلون بحقارة التاريخ اليهودي لخدمة مصالحهم السياسيَّة
في الأخير، أي تصوُّر تطرحونه لسلام دائم وفعال في فلسطين؟
قبل أن نتحدَّث عن السلام، هناك إشكالات عديدة يجب أن نعالجها: يجب أن يرفع الحصار عن غزة، نظام الأبرتهايد والهيمنة العسكرية على فلسطينيي الضفَّة الغربية يجب أن ينتهي، الاعتراف بالنَّكبة وبالتهجير ومصادرة الأراضي الذي مورس على الفلسطينيين، ومنح حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم الأصليَّة. عندما تحل هذه القضايا، حينها، وفقط حينها، يمكننا الحديث عن العدالة والسلام.