"سيدتي الوزيرة، اسمحي لي أن أصحح لك بعضَ ما ورد في كلمتك. فعندما أسمعك تتحدَّثين عن تصاعد أعمال العنف، يجب عليك استعمال الكلمات الصحيحة: هذا استعمار دموي وإسرائيل دولة إحتلال! (..) فحسب ما أفهم منكم أن الأغلبية الحكومية لن تتخذ إجراءات عقابية اتجاه ما تقوم به إسرائيل، وهنا المشكل؛ المشكل هو الكيل بمكيالين الذي تنتهجونه، فعندما يتعلَّق الأمر بمعاقبة الصين أو روسيا أو أي خصم استراتيجي آخر، الكل يهرول إلى اتخاذ الإجراءات، بينما لا تحاسبون إسرائيل على انتهاكها القانون الدولي كما تقر بذلك عشرات تقارير الأمم المتحدة. سيدتي الوزيرة، أنتم الذين تتشدقون دائمًا بحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، ما أراه الآن منكم هو توظيف هذه المواثيق من أجل خدمة مصالحكم الضيقة، وإنه لنفاق مرفوض ومدعاة للخجل!".
يحاور "الترا صوت" نبيل بوكيلي، النائب البرلماني عن حزب العمل البلجيكي؛ الذي يصطف دائمًا في نضاله بجانب القضيَّة الفلسطينية، والذي يعدُّ صوتًا فريدًا في الساحة السياسية الأوروبية
هكذا أعلنها نبيل بوكيلي مدويَة تحت قبَّة البرلمان الفيديرالي البلجيكي، مخاطبًا وزيرة خارجيَّة البلاد. النائب البرلماني عن حزب العمل البلجيكي؛ الحزب اليساري الذي يصطف دائمًا في نضاله بجانب القضيَّة الفلسطينية، والذي يعدُّ صوتًا فريدًا في الساحة السياسية الأوروبية، التي فضَّلت والطائرات الإسرائيلية تقصف أطفال غزَّة، أن يصطف موقفها إلى جانب وحشيَّة الجلاد ضدَ الدم المغدور الأعزل. هو الموقف الذي لتمحيصه نطرحُ السؤال بعين النَّقد، فيما ينتصب الجواب على لسان السيد النائب نبيل بوكيلي، الذي يحلُّ ضيفًا في حوار حصري وخاص بـ"الترا صوت".
- سيد بوكيلي، كنائب برلماني عن حزب العمل البلجيكي، ماذا تعني القضيَّة الفلسطينية بالنسبة لحزبكم؟ وكيف تقرأون التصعيد الذي يشنه الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني الأعزل؟
ما يحدث مؤخرًا ليس وليد اللحظة، بل كان آخذًا في التشكل على طول السنين الأربع والسبعين التي مضت، منذ النَّكبة، وهو ليس إلا تعبيرًا آخر للوجه البشع والقمعي لهذا الاحتلال. ونحن داخل حزب العمل البلجيكي، مرتبطون جدًا بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وهذا راجع لأسباب عديدة هي الإجابة عما تمثله لنا هذه القضيَّة:
أولًا، باعتبارها قضيَّة احتلال، وما يحمله هذا المصطلح من حمولة تاريخية، وما يحيلنا عليه من نهب وسلب المقدَّرات الاقتصادية للأرض، والإبادة الثقافية والحضاريَّة والاستغلال المجحف لشعوبها. وقد رأينا هذا مع الاستعمار الأوروبي، سواء لأفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو أي أرض أخرى، ونراه الآن مع إسرائيل، التي تعد آخر دولة احتلال توجد الآن على الكرة الأرضية، كما امتدادًا لهذا الاستعمار بما هو توظيف للقوة العسكريَّة والاقتصاديَّة في استغلال ونهب خيرات الشعوب، والذي ضحيَّته في هذه الحالة الشعب الفلسطيني المحروم من حريَّته. وهذا يحيلنا إلى القمع والاضطهاد والميز العنصري الذي يكابده الشعب الفلسطيني، كون كل مستعمر يحسب نفسه دائمًا أسمى عرقيًا من شعوب الأرض التي يستعمرها، وهذا ما تكرسه سياسات الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي على شعب فلسطين.
ثانيًا، هو أن الاحتلال الإسرائيلي لا يعدو أن يكون الوجه الفجَّ للسياسيت الإمبريالية التي ينهجها الغرب تجاه دول العالم الثالث. وإن كنت قد تحدثت عن الاستعمار الذي حصل في الماضي، لكن هذا الاستعمار يستمر الآن عبر أشكال عدة، على رأسها الهيمنة الاقتصادية والسياسية، التي من خلالها يتدخل هذا الغرب في القرارات المصيرية للشعوب وفي اختياراتها لحكامها وحكومتها، بل ويتدخل عسكريًا إذا ما تعارضت تلك الإرادات الشعبية ومصالحه الاستراتيجية. وهذا ما يتجسَّد بوضوح في المسألة الفلسطينية، حيث تبرز الهيمنة الإمبريالية الاقتصادية والسياسية بشكل واضح.
وأخيرًا، يندرج دفاعنا عن الحق الفلسطيني في صلب مواجهتنا للنظام الرأسمالي الذي نعيش تحت ضغطه، هذا النظام التي يؤدي بشكل مباشر وحتمي إلى ما نعيشه الآن من سياسات ليس لها أي هم سوى المصالح الاقتصادية الضيِّقة والأرباح التي تجنيها الشركات متعددة الجنسية والطبقات الغنية في الدول المتقدمة. وهم بذلك يحورون حتى مفاهيم حقوق الإنسان والقوانين الدولية لخدمة هذه المصالح، وهذا ما ينعكس اجتماعيًا، حتى داخل المجتمعات الأوروبيَّة حيث توجد تناقضات وخلافات بين العمال وملاك رؤوس الأموال، وحيث كلُّ شيء معدٌ قبليًا لخدمة الأقليَّة التي تمتلك الثروات على حساب معاناة الأغلبيَّة التي تنتج من كدحها وجهدها تلك الثَّروات. وهذا ينعكس كذلك في السياسات الدوليَّة عبر السياسات الاستعمارية العنيفة والتدخلات الإمبريالية، التي نناضل ضدها في حزب العمل البلجيكي. في هذا الإطار، يقع موقفنا إلى جانب القضيَّة الفلسطينيَّة وضد السياسات الاستعمارية لإسرائيل، انطلاقًا من هذه العناصر الثلاثة التي تشكل الهويَّة السياسية لحزبنا.
تحدثتم عن مناهضتكم للنظام الرأسمالي، وكما نعلم أن اليمين المتطرف هو أحد التمثلاث السياسية لنمط الإنتاج ذاك. وكما لاحظنا كذلك، مع ما استجدَّ من أحداث، أصبحت القضيَّة الفلسطينية في قلب هذا التناقض السياسي، بين اليسار واليمين الشعبوي الأوروبيين. ما أشكال الصراع الحاصل في هذه النقطة، وكيف تواجهون من جانبكم ذلك؟
قبل هذا يجب أن أوضح أمرًا مهمًا، هو أن الدعم اللامشروط لإسرائيل في جرائمها لا يقتصر فقط على اليمين المتطرف، بل هناك كذلك أحزاب اليمين التقليدي وجزء من أحزاب اليسار التي تتشدق بالدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، لكن عندما يتعلَّق الأمر بإسرائيل تجدها تتحرَّك بخجل أو تلتزم صمتًا جبانًا إزاء ما يقوم به الاحتلال. وبالتالي، فأنا أرى الأمر بالأحرى كصراع بين من يرفض نمط الإنتاج القائم ومن يقبله بكل كوارثه وبكل تناقضاته؛ سواء داخليًا بين عمال وملاك رؤوس الأموال، أو خارجيًا بين القوى الاقتصادية والعسكرية وبين دول العام الثالث المستغَلة.
وهنا نجد أن حتى القوى السياسية المحسوبة على اليسار، من اللَّحظة التي تتمسك فيها ببقاء النظام الرأسمالي ومحاولة إصلاحه من الداخل، تسقط في مواجهة تناقضاتها، لدرجة عدم تحريك ساكن إزاء السياسات الاستعماريَّة لدولة تنتهك القانون الدولي في وضح النهار. ومنه فإن معارضتنا اللامشروطة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي تنبع من قاناعتنا بأنه لم يعد هنالك ما يقبل الإصلاح داخل النظام الرأسمالي، وقد حان الوقت للمضي قدما إلى ما بعده، وبناء مجتمع جديد قائم على قيم الصالح المشترك والتضامن والاقتسام العادل للثَّروات، وليس السباق حول تحصيل المكاسب الفرديّة الذي لا يخدم سوى أقليَّة صغيرة.
إذًا فالتناقض بالنسبة لنا يقوم على هذا الشكل؛ إما أن نقبل باستمرار النظام الرأسمالي، أو نعمل على تغييره. وعليه ينبني الموقف ضد إسرائيل، ولأجله نجد الأحزاب اليسارية تتردد في اتخاذ هكذا موقف؛ لأنهم متشبثون بالمنطق الرأسمالي، وإسرائيل في الأخير ليست إلا ثمرة للرأسمالية.
سيد نبيل، أنتم حملتم القضيَّة الفلسطينية إلى داخل البرلمان البلجيكي، كيف تعلقون على رد الحكومة على سؤالكم؟
لقد كان جوابًا محبطًا ومنافقًا. وهنا إذا ألقينا نظرة على التشكيلة الحكومية البلجيكية، نجدها مكوَّنه من أحزاب يمينية ويساريَّة في ذات الآن، وهذا يؤكد ما أشرت له قبلًا، وبالتالي فجوابها كان منافقًا؛ بالمعنى الذي تنصب فيه نفسها المدافع الأكبر عن حقوق الإنسان إذا ما تعلَّق الأمر بأحد خصومها الاستراتيجيين، في أفق ضربهم من أجل تحصيل مكاسب اقتصادية، لكن عندما يتعلَّق الأمر بحلفائها تركن إلى التردد والنفاق. فعن نفسي لم أر من قبل بلدًا يمارس انتهاكات جسيمة للقانون الدولي كما تقوم بذلك إسرائيل، ومع ذلك لم يحرك أي إجراء عقابي إزاءها، فيما بلدان أخرى ومن أجل عشر ربع تلك الانتهاكات تجد نفسها أمام عقوبات دولية رادعة.
إذًا، هو هذا النفاق الذي حاولت إدانته عبر مداخلتي بالبرلمان، ولكي أضع أحزاب الأغلبية أمام تناقضاتهم؛ بأنهم إذا كانوا هنا للدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، فالقضية الأولى التي وجب أن يدافعوا عنها هي القضية الفلسطينية، لأنها تحوي كلَّ هذه الانتهاكات بشكل فج وصريح. والجواب كما قلت لم يرق نهائيًا لتطلعاتنا، أو حتى لما تدعيه الحكومة عن نفسها من ديموقراطية ودفاع عن حقوق الإنسان، والذي كان من المفترض أن يكون شن عقوبات على إسرائيل إزاء ما ترتكبه من انتهاكات.
ماذا كان رد فعل الرأي العام البلجيكي على مداخلتكم تلك؟ وهل رصدتم أي ازدياد في التعاطف الشعبي، البلجيكي أو الأوروبي، مع القضيَّة الفلسطينيَّة؟
بالتأكيد هناك تغير في موقف الرأي العام البلجيكي تجاه القضيَّة الفلسطينية، هذا ما لاحظناه طوال السنوات الأخيرة. ولو عدنا بالتاريخ منذ الستينات وصولًا إلى الآن، نرى أن هذا الرأي العام يعرف تدافعًا وتحشيدًا لجانب الحق الفلسطيني، لأننا تابعنا الصور على الإعلام وبتنا نعرف حقيقة ما يقع، كون إسرائيل لا تخفي جرائمها تلك ولا تسعى لإخفائها، فنحن نعرف بأن هناك احتلال وأن هناك شعوب تعاني تحت وطأته. وأظن أنه داخل الرأي العام، وبالرغم من أن القضية تعرف استقطابًا سياسيًا كبيرًا وتخلق نقاشًا حادًا، إلى أنه أصبح أكثر يميل لدعم القضية كون الظلم المرتكب واضح فيها، والشعوب بطبعها لا تقبل الظلم.
وبالحديث عن مقطع الفيديو لمداخلتي في البرلمان، والتي تعدت المليون مشاهدة (فقط على قناة الحزب باليوتوب)، فهذا يؤكد ما تحدث عنه، كما يؤكد أن هناك حس واسع بما يحدث في فلسطين ومعاناة الشعب الفلسطيني. وهذا الأمر يحرج المؤسسة السياسية الرسمية، التي لم يعد لها من ذرائع لإخفاء وقوفها مع الآلة القمعية الإسرائيلية، وأن تزيف خطاباتها في الشأن، لأن المواطنين يعون الآن الحقيقة وينتظرون منها موقفًا في مستوى ما يحصل. خصوصًا في مناخ دولي تتصاعد في التوترات، وتظهر التناقضات بشكل جلي، ونرى أن القوى العالمية التقليدية تضعف يومًا بعد يوم؛ أفول نجم الولايات المتحدة دليل على ذلك. وأن الغرب أصبح أكثر عدائية إزاء خصومه، وبالتالي هم في حاجة إلى رأي عام يقف إلى جانبهم لمنح الشرعية لهذه العدوانية، بالمقابل نراهم يتحاشون إبداء نفس الموقف عندما يتعلَّق الأمر بحلفائهم.
وهنا لا يفهم الناس ازدواجيَّة المعايير هذه؛ لما لسنا متطلبين أكثر في ما يخص احترام القوانين الدولية وحقوق الإنسان عندما يتعلَّق الأمر بإسرائيل، أو المذابح التي قامت بها السعودية في اليمن على سبيل المثال، ولأن المملكة أحد الحلفاء الاستراتيجيين والاقتصاديين المهمين للغرب، لم يتم التحرك ضدها مع أن ما يقع في اليمن هو أسوأ أزمة إنسانية في وقتنا الحالي.
إذًا هذا النفاق الغربي ومنطق الكيل بمكيالين أصبح أكثر فأكثر واضحًا للناس، وأصبحوا يرفضونه أكثر فأكثر. وبالتالي المؤسسة السياسية الرسمية أمام مأزق الآن وهي تواجه تناقضاتها. تناقض عليها حله كونه يمس بشكل كبير مصداقيتها، وهذه المصداقية التي هي محط تساؤل الآن خلال التصعيد الأخير الذي تعرفه القضيَّة الفلسطينيَّة.
في سؤال أخير، وربما كنتم قد أجبتم عليه ضمنيًا، لكن لماذا ترفض بروكسل ومعها الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على إسرائيل جراء انتهاكاتها بحق الشعب الفلسطيني؟
صحيح لقد أجبت على جزء من هذا السؤال فيما سبق، لكن هناك سبب آخر هو كون إسرائيل الحليف السياسي والاقتصادي المهم بالنسبة للاتحاد الأوروبي. فمن الناحية الاقتصادية، أذكِّر أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك الاقتصادي الأكبر على الإطلاق لإسرائيل، إذًا الأمر يتعلَّق بـ "بيزنيس"، وعندما يكون هنالك "بيزنيس" دائمًا ما لا نعير اهتمامًا لحقوق الإنسان، وهذا أول وجه للنفاق الأوروبي. بينما نحن نعتبر بأن حقوق الإنسان دائمًا هي المحدد للعلاقات الاقتصادية، وهي نقطة الانطلاق ومن بعدها تأتي المصالح والأرباح، لهذا نحن هنا في بلجيكا نناضل من أجل العيش الكريم، ونعتبر أنه لكل إنسان الحق في حياة كريمة. ومن الناحية السياسية، فإسرائيل أهم حليف سياسي للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط، ضد الأنظمة السياسية هناك، سواء كانت ديموقراطية أم لا، وأنا عن نفسي لا أتعاطف مع بعضها، لكن ما نراه هو أن القوى الغربية تستعمل إسرائيل كأداة لإضعاف الأنظمة التي لا تدخل ضمن المنطق الاقتصادي التبعي لها.
بوكيلي: الدعم اللامشروط لإسرائيل في جرائمها لا يقتصر فقط على اليمين المتطرف، بل هناك كذلك أحزاب اليمين التقليدي وجزء من أحزاب اليسار
وأظن أنه لهذه الأسباب يقف الاتحاد الأوروبي موقفًا معارضًا لحق الشعوب في تملك إرادتها وسيادتها على أراضيها التاريخيَّة، لا لشيء فقط لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية. وفي نظري، هذه هي النقطة الجوهرية في تفسير الموقف الأوروبي والسياسات الجبانة للحكومة البلجيكية، أي أنهم يوظفون حقوق الإنسان والقانون الدولي لخدمة مصالحهم: إذا ما كانت الأنظمة المعارضة لهم يهاجمونها لأنها لا تحترم هذه الحقوق، فيما يحمون إسرائيل حليفتهم مع أنها الأكثر شراسة في انتهاكاتها.