أن تتحول مغنية إلى أيقونة لشعب كامل، والأرجح لشعوب كاملة، لهو أمر باهظ. فيروز نجمتنا التي لا تطال. كل هذه الحماسة لوجودها تخفي في طياتها عجزنا عن الاستقرار. كما لو أن الحياة لن تنجب مثيلًا لها، لا اليوم ولا بعد حين. يحضن اللبنانيون بيأس يندر مثيله فكرتهم عنها ويقررون أن بقاءها بيننا، هو في حد ذاته، شيء أكبر من الأمل. أكبر من الأمل؟ إنه حبل النجاة الذي بات واهيًا ومهترئًا إلى الحد الذي لم يعد قادرًا على احتمال ثقل جثة أو نقل حقيبة مسافر.
فيروز بيننا؟ لندقق قليلًا. هل سمحنا لها بحماستنا أن تكون بيننا؟ نجمتنا التي نتعبد لها، هي كائن بشري أصلًا، تتعب وتغضب وتخاف وتحلم. ما الذي أبقيناه لها حقًا؟
فيروز بيننا؟ لندقق قليلًا. هل سمحنا لها بحماستنا أن تكون بيننا؟ نجمتنا التي نتعبد لها، هي كائن بشري أصلًا، تتعب وتغضب وتخاف وتحلم. ما الذي أبقيناه لها حقًا؟ هل بوسعها أن تحلم؟ أن تطلب المزيد؟ أن تتمشى في شوارع البلد الذي جعلناه أسطورة بقوة صوتها؟ هل فكرنا في ما تحبه وتكرهه؟ أم أننا حقًا يائسون إلى الحد الذي لا نتورع معه عن قتل أحبتنا واحدًا واحًدا وخنقهم في أحضاننا؟
اقرأ/ي أيضًا: فيروز ليست صنمًا
أحب فيروز. أحبها كما أحب مطربين آخرين. وحين ألمحها تغني في حفلاتها المصورة، أنتظر تلك الرجفة في الكتف التي تطلقها لا إراديًا حين تنطلق العرب من حنجرتها. فيروز المغنية هذه، تحب صوتها أيضًا. تحب ما تنجزه، وتجهد لإنجازه. لأن هذا الإنجاز يرضيها أولًا وفي الأساس. الغناء بين الفنون المختلفة هو الفن الوحيد الذي يحقق متعة لصاحبه في اللحظة والتو. حين تنجح في تجاوز اللحن قليلًا، وتغيير المقام أو تلوينه، ترتعش أطرافك وتشعر بسريان النوتة في أحشائك. الحقيقة أننا جميعًا نغني ونستمتع بالغناء. والحقيقة أيضًا أن كل غناء يحتاج لمن يصاحبه. كل مطرب يحتاج لسماع صدى صوته لدى "الرديدة"، ولدى الجمهور إذا أمكن. في هذه الحال يعرف أنه يستطيع أن يصعد على حناجرهم بصوته إلى مكان آخر. أعلى وأرق وأكثر صقلًا. الغناء ليس شأنًا فرديًا. لو كان كذلك لانتفت الحاجة إليه. ما الذي يجعلنا ننمق الكلام ونزينه، ما دام الكلام قاطعًا وواضحًا. ليس توصيل المعنى بطبيعة الحال، بل توصيل رسالة الحب. وفي حالة المغني غالبًا ما يكون الغناء وسيلته الأنجع ليحب نفسه. لكن شأننا مع فيروز مختلف، فنحن لم نسمح لها يومًا أن تستمع إلى أصواتنا، وأبقيناها حبيسة صوتها وجسمها.
هل سمحنا لفيروز أن تحب نفسها؟ نجور عليها كل يوم. نسجنها في صوتها، ونرفض أن تشاركنا في أصواتنا
هل سمحنا لفيروز أن تحب نفسها؟ أجزم أننا نجور عليها كل يوم. نسجنها في صوتها، ونرفض أن تشاركنا في أصواتنا. ما أن تخرج الآه من حنجرتها حتى لا تعود قادرة على امتلاكها. هذه المغنية، حاولت كثيرًا أن تخرج من صورتها. غنت أغنيات بكلام رقيع. الرقاعة في هذا المقام لا تحتمل الذم، بل هي تقع حتمًا في باب المدح. ربما كانت تأمل أن ننزلها عن هذا العرش الأسطوري الذي صنعناه لها، ونعاملها كأي مغنية أخرى. لكننا لم نستمع إليها. هي الوحيدة بين المغنيات التي لا نشتهيها. نقدسها، نعم. إنما لا نجرؤ أن نشتهيها. حتى أننا ننزهها عن كل ما نأتيه ونقوم به في أيامنا وليالينا. نجيز لأنفسنا ما لا نجيزه لها، في محاولة محكومة بالفشل لصناعة مستقر لنا، نحن الذين أنهكتنا الثورات والحروب والهجرات التي لا تنتهي. هكذا نحمل وطنا في أذنينا، ونطوف به في أرجاء العالم، مطمئنين أنه لن يموت. لكن الوطن يموت في الحقيقة، ولن تنقذه أذاننا التي تسكنها فيروز. هذا الوطن يموت، لكننا ضخمنا رغبتنا بإبقائه حيًا ومنعنا فيروز من العيش.
اقرأ/ي أيضًا: عن فيروز.. بلا سبب
فيروز نجمتنا. نعم. لكن النجوم في أي مكان من العالم صناع فضائح. فضائح شخصية وفضائح عمومية. وحدها فيروز ممنوعة من الفضيحة، وممنوعة من النكتة، وممنوعة من السقوط. وفي الأثناء نهاجر إلى كل بقاع الأرض، ونكلفها وحدها بمهمة حمل البلد كله على كتفيها الضئيلين.
فيروز التي أحبها، أريد لها أن تحبني كما أحببتها. وألا يكون حبها لي سبًبا لجعلي أحمل وطنًا بكل ثقله فوق كتفي الضئيلين.
اقرأ/ي أيضًا: