ليس من السهل تفسير نجاح شخصية إشكالية مثل دونالد ترامب، بالفوز في الانتخابات الأمريكية وتولي الرئاسة، لكن هناك مجموعة من المؤشرات التي تجعل الأمر أكثر وضوحًا، مثل علاقته مع اليمين البديل، والقاعدة الإنجيلية البيضاء، والمعادين للهجرة. لكن هناك سؤالًا يبدو أكثر راهنية الآن، يمكن الإجابة عليه من خلال نفس هذه العوامل، وهو لماذا ما يزال ترامب يحظى بشعبية كبيرة؟ يحاول كاس مود في هذه المقالة المترجمة عن صحيفة الغارديان، تقديم إجابة.
أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب مؤخرًا أن ترامب، بعد مرور 500 يوم على دخوله البيت الأبيض، وتوليه الإدارة الأمريكية، أصبح ثاني أكثر رئيس أمريكي شعبية في أوساط دائرته الانتخابية. كيف أمكن ذلك؟
إن السبب الرئيسي الذي يُعزى إليه إعادة انتخاب ترامب، وكذلك انتخابه في المقام الأول، يتمثل في اختلال الممارسة السياسية ونظام الولايات المتحدة
خلال الشهرين الماضيين، سافرت عبر أوروبا، وتحدثت إلى فئات مختلفة من الجمهور سواء الأكاديميين وغير الأكاديميين منهم في جميع أنحاء القارة حول الشعبوية. ومن النرويج في الشمال، إلى إيطاليا في الجنوب ومن هنغاريا في الشرق إلى إيرلندا في الغرب، سألني الناس نفس السؤال: كيف يعقل أن الشعب الأمريكي لا يزال يدعم الرئيس دونالد ترامب؟
بعد أن أوضحت أن الغالبية العظمى من الأمريكيين لا يدعمون ترامب، وأنه انتخب مع أن هيلاري كلينتون كانت متفوقة عليه بما يقارب ثلاثة ملايين صوت، لأن الولايات المتحدة هي الدولة "الديمقراطية" الوحيدة في العالم حيث يمكن لشخص لديه عدد أقل من الأصوات الفوز في الانتخابات الرئاسية، قلت لهم الأخبار السيئة حقًا: إذا استمرت الأمور في السير على هذا النحو، سيعاد انتخاب ترامب دون عناء عام 2020.
اقرأ/ي أيضًا: "اليمين البديل في أمريكا.. "هايل ترامب!
بطبيعة الحال، فإن السبب الرئيسي الذي يُعزى إليه إعادة انتخاب ترامب، وكذلك انتخابه في المقام الأول، يتمثل في اختلال الممارسة السياسية ونظام الولايات المتحدة. وكما هو الحال في الديمقراطيات الغربية الأخرى، فإن الأغلبية البيضاء ممثلة تمثيلًا زائدًا لأن مستويات التصويت عند الأقليات أقل بكثير. ومع ذلك، خلافًا لمعظم الديمقراطيات الأخرى، ثمة أنواع مختلفة من أعمال قمع الناخبين القديمة والجديدة تثبط بفاعلية المشاركة الانتخابية للأقليات غير البيضاء. وعلاوة على ذلك، تعزز عملية تخطيط النتائج بحيث تُسفر عن ما هو في صالح الجهة المخططة، القوى غير المتكافئة للناخبين البيض، لا سيما في المناطق الريفية المحافظة في الولايات الفردية والبلد بصفة عامة.
إلا أن كل هذا لا يفسر لماذا يحظى ترامب بتلك الشعبية الكبيرة. ربما صارت شعبيته أكبر مما كانت عليه عندما انتخب. تُشير التقديرات اليوم أن نسبة تأييد ترامب تصل إلى 42%، أي أقل بنسبة 3% فقط مما كانت عليه عند توليه الرئاسة. لكن الأهم من ذلك أنه يتمتع بشعبية كبيرة بين ناخبيه الأساسيين، ألا وهم الجمهوريين. أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب مؤخرًا أن ترامب، على مدار الـ 500 يوم التي قضاها منذ توليه الرئاسة، يُعد ثاني أكثر رئيس أميركي شعبية في أواسط دائرته الانتخابية (بنسبة تأييد تصل إلى 87%)، ويأتي في المركز الثاني بعد الرئيس جورج بوش (بنسبة تأييد بلغت 96%)، الذي استفاد في ذلك الوقت من التجمع الوطني حول رد الفعل الجماهيري لهجمات 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابية!
لكن لا يزال السؤال مطروحًا، كيف يعقل ذلك؟ ألم يقل ترامب إن هناك "أُناسًا طيبين للغاية" بين المتظاهرين اليمينيين المتطرفين في مسيرة "توحيد اليمين" المميتة، التي دعا إليها قوميون متشددون في مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا؟ ألم يقوض باستمرار السلطة القضائية ووسائل الإعلام المستقلة من خلال مهاجمة "القضاة المزعومين" و"المحتالين" في شبكات سي أن أن CNN وإن بي سي NBC وسي بي إس CBS وأيه بي سي ABC التلفزيونية؟ ألم يجرد بشكل منهجي المهاجرين والأقليات من إنسانيتهم، وأدخل سياسات عدائية مثل "حظر المسلمين"، وحول خدمات الهجرة إلى مجرد جهاز سلطوي غير إنساني يفصل الأطفال الباكيين عن آبائهم؟
نعم لقد فعل كل ذلك. لكنه اقر أيضًا تخفيضات كبيرة على الضرائب التي تفيد بشكل غير متناسب الأمريكيين ذوي الدخل فوق المتوسط، الذين يُمثلون النواة الحقيقية للحزب الجمهوري، وبالتالي تُفيد ناخبين ترامب فقط بشكل خاص. وبالنسبة للكثير من الجمهوريين، إذا ما حصلوا على إعفاءات ضريبية، فمهما ارتكب ترامب من أخطاء سيظل بالنسبة لهم مثاليًا. بالإضافة إلى ذلك، يسعى بشكل سريع إلى تقويض نظام الدولة، عن طريق تحرير الصناعات وقطع التمويل عن وكالات التنظيم، الأمر الذي من شأنه أن يرضي معظم كبار المانحين المعتادين الجمهوريين، بما في ذلك المناهضين السابقين لترامب مثل الإخوة كوك.
أما بالنسبة لليمين المسيحي، فقد عيّن نيل غوروش المناهض بشدة للإجهاض في المحكمة العليا ونقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس. من شأن كل ذلك أن يكون كافيًا لتعويض جميع فضائحه مع نجوم الأفلام الإباحية وتفاخره بقدرته على لمس النساء من مناطقهن الحساسة بسبب شهرته. ونظرًا إلى أنه سيُسعدهم بلا شك بتعيين قاضٍ آخر في المحكمة العليا (ليحل محل أنطوني كينيدي)، ومن المتوقع أن يصبح هناك منصب آخر في المحكمة العليا شاغرًا بعد عام 2020 (إذ أن القاضية روث بادر غينسبورغ تبلغ من العمر 85 عامًا)، سيخرج اليمين المسيحي من جديد بشكل جماعي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لتعزيز منع سيطرة الحزب المحافظ على المحكمة العليا وضمان الإطاحة، أو عدم تأثير قرار المحكمة العليا بشأن قضية رو ضد وايد التي وضعت مظلة قانونية فوق حق المرأة في الإجهاض.
وأخيرًا، فقد كانت قاعدة ترامب من المتشددين، الذين يُمثلون الطبقة العاملة النمطية من السكان ذوي البشرة البيضاء العدائية و يتميزون بانتماءاتهم التأصيلية المعادية، أكثر من راضية. لا يتوقع السياسيون، سواء الديمقراطيين أو الجمهوريين، شيئًا يُذكر من إدارة ترامب، إذ يرون رئيسًا يحاول دون كلل حظر الأشخاص غير البيض (ولا سيما من أمريكا الوسطى والمسلمين) من دخول البلاد، ويفرض المزيد من الرسوم الجمركية على الصناعات التي يزعم أنها تحمي الصناعات الأمريكية، ويحرص على أن يقول في أي مناسبة خطابات وتغريدات "غير صحيحة من الناحية السياسية" و "تخرق التابوهات".
تُشير التقديرات اليوم أن نسبة تأييد ترامب تصل إلى 42%، أي أقل بنسبة 3% فقط مما كانت عليه عند توليه الرئاسة
يتناول معارضي ترامب، داخل الولايات المتحدة وخارجها، دائمًا مناقشة الكثير من اقتراحاته الأكثر إثارةً للجدل التي ألغيت من قبل المحاكم أو لم تلق قبولًا في الكونغرس. لكن بدلًا من إضعاف ترامب، فإن ذلك يقويه. وهذا يثبت لمؤيديه أن النظام قد انهار بالفعل، تمامًا كما يقول ترامب، وأن إرادة الشعب أحبطتها النخبة الفاسدة في السياسة و"الدولة العميقة" داخل البيروقراطية الأوسع. ومن ثم، فثمة فترة ولاية ثانية ضرورية لضمان أن يتمكن ترامب بالفعل من القيام بما وعد به وحاول القيام به.
اقرأ/ي أيضًا: ترامب الواضح... ترامب الجميل
رغم ذلك ثمة بصيص من الأمل، حتى وإن كان يبدو ضعيفًا. لا تزال الغالبية العظمى من الأميركيين تعارض ترامب، من عدة نواحي منها شخصيته وسياساته ولغته الخطابية. ولكنهم لم يعثروا حتى الآن على صوت وطني. في حين أن الديمقراطيين قد حصلوا على مقاعد في العديد من الانتخابات المحلية وانتخابات الولايات، والتقدميين يتفوقون على الليبراليين في السباقات (الأساسية) الأكثر أهمية، فقد غاب الحزب الديمقراطي الوطني عن المشهد السياسي منذ صدمة الهزيمة التي لحقت به في عام 2016، ويعتقد أن مزيجًا من سياسة الهوية ستؤثر على الأمريكيين غير البيض، وكذلك التدخل الروسي في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016 الذي أثر على قاعدتهم من المؤيدين البيض سوف يؤدي الغرض، إلا أنه لم ولن يفعل ذلك.
إلا أن الانتخابات الرئاسية لعام 2020 لا تزال على بعد عامين. وهذا يُعد وقتًا طويلًا في عالم السياسة ووقتًا أبديًا في عصر ترامب. قد يكون هناك ما يكفي من الوقت كي يتمكن الحزب الوطني الديمقراطي من العمل معًا ليصبح صوت الأغلبية الصامتة، والتي يتم تجاوزها بالكامل حاليًا من قبل الأقلية الصاخبة المدافعة عن ترامب.
اقرأ/ي أيضًا:
أمريكا أولًا.. ما أهم ملامح إستراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب؟