"تونس قبل 10 آيار/مايو 2017 ليست كما بعدها"، بهذه الجملة صرّح مستشار لرئيس الجمهورية التونسي، الباجي قايد السبسي، قبل يوم واحد من خطاب ألقاه الرئيس للتونسيين، وهو حدث أُعلن عنه قبل أسبوع، ليظلّ الشارع التونسي إجمالًا في وضعية ترقّب وتخمين طيلة هذه الفترة حول مضمون هذا الخطاب، الذي اختار السبسي تقديمه بقاعة ضخمة بالعاصمة، مع توجيه الدعوة لـ800 شخصية حزبية ومدنية لمواكبته.
ويأتي هذا الخطاب بالتزامن مع الاحتجاجات الشعبية، وتحديدًا في محافظة تطاوين جنوبي تونس، وفي ظل تقييم سلبي لأداء الحكومة، مع تصاعد الجدل مع انطلاق مناقشة مشروع قانون "المصالحة الاقتصادية"، الذي قدمه السبسي منذ الأشهر الأولى لدخوله قصر قرطاج قبل سنتين.
يكشف خطاب السبسي عن مأزق الحكومة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية، وفشلها في فض الاعتصامات بطريق سلمية
وقد تحدث السبسي في كلمته التي دامت 50 دقيقة، بطريقته الخطابية المعتادة، حيث انطلق بالاستشهاد بآيات قرآنية فتلا على وجه الخطأ: "إن الحق كان زهوقًا"، ما أثار التندر على وسائل التواصل الاجتماعي، بل اعتبر أن هذا الخطأ هو لسان الحقيقة التي عكسها الخطاب.
عسكرة مناطق الإنتاج لمواجهة الاحتجاجات الشعبية
أعلن السبسي في كلمته، تكليف الجيش بحماية مناطق إنتاج الثروات الطبيعية وتحديدًا الفسفاط (الفوسفات) في جهة قفصة جنوبي غرب تونس، والنفط في محافظة تطاوين الجنوبية، حيث يمنع حاليًا المحتجون مرور الشاحنات البترولية. هذا القرار، وهو القرار العملي الوحيد الوارد في خطاب السبسي، يكشف عن مأزق الحكومة في التعامل مع ملف الاحتجاجات الشعبية، وفشلها في فض الاعتصامات بطريقة سلمية. كما يكشف من جانب آخر، عن أزمة المجال السياسي المدني في التعامل مع هذه الاحتجاجات، وهو ما تطلب دعوة الجيش لمهام من خارج اختصاصه بالنهاية.
اقرأ/ي أيضًا: مدن الحدود الجانبية لتونس: الإقصاء والعقاب
وهذا التكليف الذي صاحبته لهجة وعيد وتهديد من السبسي، من قبيل أن "الجيش يطلق النار مباشرة"، رافقته في نفس الوقت تطمينات عن عدم مساسه بحق التظاهر، غير أن التكليف لا يخفي في النهاية، خشية الصدام بين الجيش والمحتجين، وهو سيناريو بقدر ما يظلّ بعيدًا، فإنه يظلّ محلّ تخوّف دائمًا، حيث أعلن معتصمو منطقة "الكامور" في تطاوين، رفضهم المطلق لما ورد في خطاب السبسي جملةً وتفصيلًا.
وقد تحدث السبسي عن هذا الاعتصام، فحاول إبراز معرفته بعروش المنطقة، فتحدث عن "أولاد سليمة" غير الموجودين، ثم خصص جزءًا من كلمته لتلاوة بيان المعتصمين الذي ذكّروا فيه بثورة علي بن غذاهم، وهي ثورة للداخل التونسي ضد حكم الباي في العاصمة، خلال القرن التاسع عشر، حيث أراد السبسي أن يكشف بذلك عمًا أسماه سوء نوايا المعتصمين. فيما ربما يكون قد كشف، في الحقيقة، عن مدى التباين واستمرار الثنائية بين تونس الحاضرة التي تمثلها الطبقة السياسية الحالية، وتونس العميقة والمهمشة التي انطلقت منها الثورة قبل ست سنوات، والتي لازالت تحتج من أجل تحقيق أسباب العيش الكريم. ولعلها هذه هي كنه الأزمة الحقيقية في تونس.
تحظى المؤسسة العسكرية بثقة واسعة، لكن إقحامها في مثل هذا الشأن يعرضها لاختبار غير محسوب العواقب
على جانب آخر، ورغم أن المؤسسة العسكرية تحظى بثقة واسعة في الشارع التونسي، وتلقى إجماعًا بين الطبقة السياسية، فإن إقحامها في المجال المدني لمعالجة ملفّ تعطّل مناطق الإنتاج بسبب الاحتجاجات الاجتماعية، يعرّضها لاختبار جديد غير محسوب العواقب. لا توجد خشية من عسكرة المجال السياسي أو تمهيد أي دور للجيش في الحياة السياسية مستقبلًا، غير إن الاستنجاد بالجيش في خضم الأزمة السياسية والاجتماعية الحالية، يرفع ناقوس الإنذار.
لا انتخابات مبكرة
تضمنت التخمينات قبل الكلمة، إمكانية دعوة السبسي لانتخابات تشريعية أو رئاسية مبكرة، كما تطالب أحزاب سياسية على رأسها "مشروع تونس" و"الجبهة الشعبية"، وهما أكبر كتلتين للمعارضة في البرلمان، غير أن السبسي أعلن صراحة: "لا تعولوا عليّ للدعوة لأي انتخابات مبكّرة".
ولا تمثل الانتخابات حلًا للأزمة السياسية في تونس، لأنها ليست أزمة حكومة فقدت شرعيتها الانتخابية، بقدر ما هي أزمة حوكمة هي في النهاية أشمل من مأزق الفريق الحاكم في إدارة الملف الاقتصادي. كما أن أي انتخابات مبكرة قبل موعدها نهاية 2019، لا تضمن تغييرًا جذريًا في موازين القوى في المشهد التونسي، كما أنها تمثل خطورة على مسار الانتقال الديمقراطي، الذي يشهد بطئًا بطبعه، مع تأخر إرساء عديد الهياكل التي نص عليها الدستور الجديد، ومنها المحكمة الدستورية التي لم تر النور بعد.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. السبسي أنجز ثلث وعوده الانتخابية فقط
وإن كانت الأزمة الحالية قد تعلقت في جانب منها، بتراجع شعبية الفريق الحاكم، وبالتالي وجوب تجديد الشرعية، فإنه من المبرمج تنظيم الانتخابات البلدية نهاية السنة الجارية، والتي ستمثل تقييمًا لأداء الفريق الحاكم، كما إنها ستساهم في تفعيل السلطة المحلية واسعة الصلاحيات في دستور البلاد.
وقد سبق الخطاب بيوم واحد، خبر استقالة رئيس هيئة الانتخابات، وهو ما مثل زلزالًا في الساحة السياسية، لأنه جعل تنظيم الانتخابات المحلية نهاية السنة محل شكّ، لتزيد هذه الاستقالة من الضبابية في المشهد السياسي.
إصرار على تمرير قانون المصالحة
تتمثّل فلسفة الدستور التونسي في جعل منصب رئيس الجمهورية متعاليًا على التجاذبات السياسية، ولذلك لا يحق له تولّي أي منصب حزبي، كما يلزمه الدستور بضمان الوحدة الوطنية، وعلى هذا الأساس، لم تخف التخمينات والدعوات، قبل الخطاب، مبادرة السبسي بسحب مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، وذلك نظرًا لحالة الانقسام السياسي التي أحدثها بالتزامن مع حالة التصعيد في الشارع. بيد إن هذا التخمين قد أسقطه السبسي، حينما أكد في كلمته على ضرورة تمرير مشروعه، بهدف "إعادة الثقة للإدارة التونسية" و"تشجيع الاستثمار"، رابطًا بين ملفات مفككة حاول السبسي تجميعها وجعل قانونه هو الحلّ لها.
واكتفى برمي الكرة لمجلس نواب الشعب، بأنه لن يمانع في القيام بأي تعديلات على مشروع القانون، وأن مهمته انتهت بعرضه على المجلس التشريعي. وهذا الإصرار على تمرير قانون يقابله تصعيد آخر من جبهة الرافضين، حيث أعلنت عشرات القوى السياسية والمدنية، ساعات قبل الكلمة، تنظيم مسيرة احتجاجية، فيما يكشف عن استمرار التجاذبات الحادة في ملفّ من المنتظر أن يتواصل كعنوان أزمة في تونس، خلال الأسابيع القادمة. في النهاية، يبدو أن السبسي يقامر فيما هو يساهم في تفتيت الوحدة الوطنية!
وقد تحدث السبسي عن مشروع قانون يعتبر "تبييضًا للفساد"، دون حديث، طيلة 50 دقيقة على مكافحة الفساد، وهي إحدى أولويات وثيقة قرطاج التي تكونت على أساسها حكومة يوسف الشاهد في الصيف الماضي. بهذه النقطة، يفشل السبسي في بناء الثقة مع طيف واسع من المعارضة التونسية، التي تؤسس على معارضتها على غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد.
هل يساهم الخطاب في حل الأزمة؟
في النهاية لم يبلغ خطاب السبسي السقف المتوقع، بخاصة بالنظر للهالة الإعلامية التي سبقته، وحالة الترقب التي أحدثها طيلة أسبوع في كواليس المشهد السياسي. وهو خطاب اختاره له السبسي بهرجًا على مستوى الشكل، لم يوازيه عمق على مستوى المضمون بالنسبة لخطاب وصف منذ ما قبل تقديمه بأنه "تاريخي".
لم يحقق خطاب السبسي سقف التوقعات، بخاصة وأنه كان قد وُصف قبل تقديمه بـ"التاريخي"!
هو خطاب تضمن لومًا دفينًا لأداء الحكومة التي يعتبر السبسي عرابها، فهو من أطلق مبادرة تكوينها السنة الماضية، وهو من اختار يوسف الشاهد لرئاستها. حيث لم ينطق السبسي اسم رئيس الحكومة طوال كلمته، ولم يُشد بأدائها، وإن حاول السبسي إبراز بعض الأرقام الاقتصادية الإيجابية المحققة مؤخرًا، للتأكيد على أنّ الصورة ليست سوداء في النهاية. وقد وجه، في هذا الجانب، لومًا للإعلام لإبراز هذه الإنجازات.
في النهاية يبدو أن الخطاب رغبة من السبسي لتأكيد موقعه بصفته رئيسًا للجمهورية، في مشهد سياسي يشهد حراكًا على وقع الاحتجاجات الشعبية، ومأزق الحكومة في التعامل معها، حيث يأمل السبسي في تخفيض منسوب الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وهو أمل لا تعضده ردود الأفعال المتواترة بعد كلمته.
اقرأ/ي أيضًا: