كم صيفًا مضى على قدومنا؟
كيف مرّ كل هذا الوقت دون استراحة.
أتخفّف من التذكر
أحمل التلفون كالفأس
أحطب رزمة من وجوه الأحبة
الهفوات، وبيروت وخمسة عشر عامًا
ورزمة أخرى من الأحلام والحب والأمل
أضرم النار فيها ليدفأ قلبي قليلًا.
مغمض العينين والأذنين، أنام في ثيابي بارد القلب
لم أعد أنتظر الليل للسهر
فقط لأسهوَ، ليغفوَ التعب في جسمي
ولأنسى كيف مرّ كل هذا
فوقي وتحتي وخلفي وأمامي
كيف لفّني الوقت، كيف توسع هذا البعد
كيف دخلت منه ولم أخرج
كيف أوغلت فيه كل هذه المسافة
كيف نزلت إلى هذا العمق
كيف ما زلت غافيًا خلف بحر النظرات،
جبال الكلام وتلال الوجوه.
أخطئ عمري دائمًا
كلّما تذكرت ما مضى وما سيأتي
أحسبني أصغر بسنة، سنتين، أو أكبر قليلًا
يلحّ عليّ السؤال عند اقتراب عيد ميلادي
لكنني لا أدقق كثيرًا، الأمر سيّان،
سأكون ما أنا عليه
مختبئًا بين عمرين مرّا سريعًا
والجفاف يتمدّد داخلي.
كلما وخزني شوقٌ، أفتكر للحظة
أصير كثيرًا مع نفسي
مصغيًا لبرهة، أتذكر بلمح البصر
ثم يعاودني هذا اليباس المستحكم.
تعلمت العدّ ونسيت التذكر.
أعد الأصياف، كم صيفًا مضى على قدومنا؟
كم حزنًا أصابني؟
أين أُصبت، في أيّة مواضع
أيّ ندب من أي فاجعة.
لم يعد فرز الندوب
وألوان التيبس تستوقفني
لم أعد أكترث: أيّ منها أطرى من الآخر
أيّها أعمق، أعرف أنَّ فيَّ الكثيرَ المستشري
هذا يكفي لكي أغفوَ حتى الصباح.
أنام وأقول لنفسي
أنت تصنع الأمل الخاص بك
بغباوة حافية، أحسب أني صانع أملي
أعرف أن هذا يقال للأطفال والمراهقين
ولكني آثرت أن أصدق أنني كذلك.
آثرت الاستئناف دون حداد،
المتابعة دون توقف.
النهاياتُ باتت قريبة
الكؤوس فارغة،
ممتلئة،
نعتلي السخرية كالثور الجامح
نروض النهايات.
كم نهاية سننجز، كم مدينة؟
الشوارع تستريح فوق الرفوف
في ذاكرة الأرجل،
في الأضلع والعيون الحائرة
في قُبل الملامة المعطلة
وألبوم الصور.
تتنطّط الكلمات
كوجع المفاصل في الرأس
كلسع السياط، تؤنب الهواء.
يداهمك الغد خلسة في أحلام الصباح
كلمسة حبّ تطلق الرعب في محياك.
يوقفك اندفاع لاهث
صراخ حبيبٍ،
توقَّفَ في واحة تعب
مرصوف كحائط مدينة
قديمة.
تسمع عواء الأحبة،
كلام الجدران المطليّة بعناية أبدية،
شموخ الباقين فيك، البائسين،
المكملين، المتأملين،
صرير أنخابكم ينبح فوق بحور الكلام.
الراحات الصغيرة التي تحسب أنك أنقذتها
تمسد جبينك باللوم الصامت الحنون.
كم سيجارة تنفست اليوم؟
أيّ وقتٍ أهدرته في هروبك؟
أنّى لك أن تتماثل وتهدأ؟
تحسب أن النهايات باتت قريبة
ولكنك تعرف أنه مجرد اسم منحوت
أسفل التمثال،
تتمنى للأشياء أن تكون سريعة
ليكون الارتطام احتفاليًا.
جنبًا إلى جنب، يدًا بيد
الوجوه تضمحل في الذاكرة وفي الملتقى،
يتسامران والكلب يسترخي تحت الطاولة
كطاووس يتثاءب، راسمًا ظلال
ملل الأيدي وهي ترفع الكؤوس.
مدى النّظر
يجلس،
ينتشل وعيه من يوميات عائمة،
ليفض من البواطن سبب مآله
الذاكرة وقت مشاع، والصور كونية.
يعصر رأسه ليتذكر،
يستجمع لحظة تأمل محكمة،
في التباس الأبعاد والأحجام،
الوسائط تولّف مماته وقيامته،
صور أوقات متهافتة في وقت واحد
الطفولة توأم التوليف، اسم طباقي،
وليد الوقت الضائع.
وفي لحظة تأمل،
ينسج السياق والمراحل،
في رأسه عرافة
ترتب الأبواب في السردية،
تلوك حديقة الاحتمال فوق مسارب بحثه
هناك بذور تكفي لزرع غابة،
ولكن هل من وقت كاف لتنسيق حديقة؟
يتتبع الأثر وهو يندثر في راهن يمضي،
ذاك باب الجريمة وذاك مسلك الخطيئة،
هذا منبت الثأر وهنا ناموس النوائب،
هذه عتبة البيان وهذا افتراض الحقائق
"مذبحة شاحبة تحت ضباب مشرق".
الانعتاق أول الوعي وحبل المؤانسة،
لكنّ الاستعلام عن المآل أول الفخّ،
وتبويب الأصول استلهام المرايا،
السؤال عن البدايات ينسج خاتمتها،
أتتذكر لتستأنف، أم لتلتمس البداية أم لتنسى
الشفاء وهم الأبعاد وألوان الغاية والنهاية.
الماضي والمستقبل طبائع الوعي المتضرع
والحاضر طبيعة الآلهة
يتمدد في الوعي كأرشيف غالى في اتجاهاته،
كبر هو، لكن الأفكار ما زالت فتية.
خرجت من مسارك؟
هكذا هو الخلل،
داخلي، كامن، ناشز،
فريد، لا يحصده جمع
ولا تفرقه عاصفة.
أنزلْ هالتك عن مدى النظر،
من يذكرك يحبسك في حلم،
ومن لا يعرفك لن يعرفك في الصور
النهاية تسبق البداية والغياب مدخل البصر.
بعيد وأليف،
أسطورة جسدك تضيء الخرائط
للقمر المزدري، للسواد.
رهبان الصحراء استعادوا صورك في هيستيريا الجثث
أحبَّتك لم يدر في خلدهم أن التأبين أول الحب، وأن
المشيئة أول الخلاص.
مرقَّطًا في هذا الموت
تطفو مع الزبد
بين السيوف والملاحم.
الضوء يعبر على جلدك
كقمر مشاغب،
يحبو على جسد رخو ممدّد خلف الستائر
تؤججه نسمات الهواء،
فوق اختيال العظم واللحم هذا...
- من مجموعة شعريّة صدرت حديثًا عن دار النهضة العربيّة في بيروت وحملت عنوان "نُزولُ الألفة"