10-مايو-2017

من معارك سرت ضد قوات القذافي عام 2011 (آريس مسينيس/أ.ف.ب)

إذا ما كان الحديث عن وجوب اتفاق الليبيين حول حقوقهم وحرياتهم وإدارة شؤونهم، وعن لزوم حل سياسي دائم يقضي على أسباب الاقتتال الأهلي ويؤسس لتعايش سلمي بينهم؛ فإنّ إقرار دستور توافقي هو شرط لا مفر عنه، وذلك بما يمثله الدستور كعقد اجتماعي من جهة، وكإطار للممارسة السياسية من جهة أخرى.

لا متسع للحديث عن عقد اجتماعي في ظل غياب وتعطيل للدستور

ومُؤخرًا عادت لجنة الستين، المكلفة بصياغة الدستور الليبي، للنقاش من جديد للتوافق على مشروع يُعرض على الاستفتاء، وذلك بعد رفض قوى فاعلة في إقليم برقة، شرقي البلاد، للمشروع الأخير الذي أُقرّ في نيسان/أبريل 2016، بعد مفاوضات في سلطنة عمان برعاية الأمم المتحدة.

وفي هذه الأثناء، عاد للواجهة الحديث عن الدستور، على ضوء الاتفاق السياسي الأخير بين رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، والقائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر، والذي تضمن خارطة طريق، منها إجراء استفتاء على الدستور خلال سنة. وبذلك تعود الروح للمسار الدستوري في البلاد الذي لطالما عرف تهميشًا في السنوات الأخيرة، مع سيطرة أحداث الاشتباكات الميدانية وكواليس المفاوضات السياسية على المشهد الليبي.

مع سيطرة العنف على المشهد الليبي، هُمّش المسار الدستوري والحديث عنه على مدار سنوات

وهُمشت أعمال لجنة الستين، المنتخبة منذ نيسان/أبريل 2014 لصياغة مشروع دستور للبلاد، والتي عرفت مطبات في طريق عملها منذ البداية، مع عدم اكتمال تركيبتها، إما لتعذر إجراءات الانتخابات ببعض الدوائر لأسباب أمنية حينها، أو لمقاطعة المكونات العرقية وهم الأمازيغ والطوارق والتبو. كما زادت العراقيل مع الجدل حول رئيسها علي الطرهوني، الذي أُسقطت لاحقًا عضويته لازدواجية جنسيته، ذلك بالإضافة إلى تعذّر السير العادي لعمل اللجنة، المتمركزة شرق البلاد، في أتون الحرب الأهلية.

اقرأ/ي أيضًا: من أجل الخروج من "الانتقالي" في ليبيا

لماذا العودة من جديد لمناقشة مشروع الدستور؟

"مشروع الدستور لا يعطي إقليم برقة، شرقي البلاد، حقوقه"، بهذه الجملة المكثفة يختزل اليوم أغلبية الرافضين من شرق البلاد لمشروع دستور نيسان/أبريل 2016، وهو مشروع أُبطل قضائيًا نهاية السنة الماضية، بعد إبطال تعديل النظام الداخلي الذي خفض الأغلبية المطلوبة. فتشكلت في شهر آذار/مارس الماضي لجنة توافقية في لجنة الستين، تتكوّن من ست أعضاء من الموقعين على المشروع الأخير، وستة أعضاء أخرين من الرافضين، بهدف الوصول لمشروع جديد.

وكان المشروع الأخير قد نصّ على إرساء النظام الجمهوري للدولة التي تُسمّى "الجمهورية الليبيّة"، وعاصمتها طرابلس. مُعتمدًا النظام الرئاسي حيث تتكوّن السلطة التنفيذية من رئيس للجمهورية وحكومة يعيّنها، ناصًّا على طريقة خاصّة لانتخاب الرئيس، حيث لا يقع انتخابه بالأغلبية العددية فقط بل كذلك بالأخذ بمعيار الجغرافيا، ضمانًا للتمثيلية الجغرافية لرئيس البلاد. فيما يتكون البرلمان واسمه مجلس الشورى، من غرفتين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وذلك باستنساخ النموذج الأمريكي.

وفي واحدة من أكثر النقاط إثارة للجدل، نصّ مشروع دستور نيسان/أبريل 2016، على نظام حكم محلّي يقوم على اللّامركزية الموسّعة، وذلك كحلّ وسط بين نظام المركزية والنظام الفيدرالي الذي تطالب به قوى فاعلة في إقليم برقة. وفي نقطة أُخرى لا تقل عنها جدلًا، اعتبر المشروع اللغة العربية لغة رسمية، فيما اعتبر لغات بقية المكونات العرقية "تراثًا ثقافيًا ولغويًا ورصيدًا مشتركًا لكل الليبيين، وتضمن الدولة اتخاذ التدابير اللازمة لحمايتها وتنمية تعليمها للناطقين بها"، في حين تطالب المكونات العرقية بدسترة لغاتها.

ممثلين عن المكونات الليبية خلال مراسم نظمتها هيئة وضع الدستور (أرشيفية/ عبدالله دوما/ أ.ف.ب)
ممثلين عن المكونات الليبية خلال مراسم نظمتها هيئة وضع الدستور (عبدالله دوما/ أ.ف.ب)

وكان قد سبق هذا المشروع مسوّدة تم نشرها، قبل شهرين حينها أي في شباط/فبراير 2016، نصت على إحداث ثلاث عواصم وهي طرابلس، غربي البلاد، كعاصمة سياسية، وبنغازي، الواقعة في إقليم برقة شرقي البلاد، كعاصمة اقتصادية، وسبها، في الجنوب، كعاصمة ثقافية وسياحية. وهي مسودة تم تعديلها على ضوء مفاوضات سلطنة عمان ليقع إقرار المشروع الأخير الذي حظي بمصادقة 37 عضوًا.

اقرأ/ي أيضًا: مسودة دستور ليبيا تحت المجهر

ولا يعود التحفظ على هذا المشروع للاختلاف حول الثروات الطبيعية ومطالبة قوى فاعلة في شرق البلاد لاعتماد النظام الفيدرالي، بل كذلك للتنظيم السياسي بالمطالبة بتعزيز صلاحيات مجلس الشيوخ، الغرفة الثانية للبرلمان، وكيفية انتخاب رئيس الدولة، ذلك بالإضافة للخلاف حول اعتبار الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الوحيد في البلاد، ونقاط أخرى منها ما يتعلق بباب الأحكام الانتقالية ومنح الجنسية.

هل قرب الاتفاق على مشروع توافقي نهائي؟

أتمت اللجنة التوافقية قبل أيام تقديم ما أسمته "مقترح مسودة توافقية لمشروع الدستور"، تضمن 195 مادة، في حين تضمّن المشروع السابق 221 مادة، وقد حظي هذا المقترح الجديد بموافقة 9 من أصل 12 عضوًا في اللجنة التوافقية، حيث ينتظر المصادقة عليه في لجنة الستين قبل تمرير المشروع للبرلمان، ليقع تنظيم استفتاء حوله. غير إن الطريق لا يبدو سالكا بعد، حيث يرفض ثلاثة أعضاء من اللجنة التوافقية المقترح الأخير.

كما أعلنت ثلاث جهات رفضها للمقترح، وهي التيار الفيدرالي واسع التأثير في شرقي البلاد، والذي يعتبر الدستور لازال يكرس نظامًا مركزيًا، كما ترفضه كذلك الأقليات العرقية، وتحديدًا التبو والطوارق الذي يعتبرون الدستور يهمشهم ولا يضمن حقوقهم الثقافية، كما وصفت منظمات حقوقية من بينها "محامون من أجل العدالة في ليبيا" المسودة الأخيرة بالخطيرة من حيث "القيود الموسعة على الحريات الأساسية ومنها حرية التجمع".

وتضمن المقترح الأخير تعديلات جوهرية فيما يتعلق بتركيبة مجلس الشيوخ، الذي لم يعد يتوزع أعضاءه بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة، حيث باتت تتوزع مقاعده الـ78 بتفصيل 32 مقعدًا للمنطقة الغربية، و 26 مقعدًا للمنطقة الشرقية و 20 مقعدًا للمنطقة الجنوبية، مع ضمان تمثيلية للمكونات العرقية والثقافية.

أعلنت 3 جهات رفضها للمسودة الأخيرة للدستور، وهي التيار الفيدرالي، والأقليات العرقيات، ومنظمات حقوقية عدة

وما يستدعي الوقوف عليه في المقترح الأخير، هو عدم التوافق على قضايا مصيرية وتأجيلها، ومنها التنصيص على تحديد علم الدولة ونشيدها وشعاراتها وأعيادها الرسمية عبر قانون في وقت لاحق. وكانت قد أجمعت جميع المسودات السابقة على تحديد علم الاستقلال، الجاري به العمل حاليًا، ونشيد الاستقلال "يا بلدي". ليكون التساؤل، أي معنى لدستور يفشل أصحابه في التوافق حول علم الدولة ونشيدها بل وحتى أعيادها الرسمي ورمي هذه الكرة الحارقة للسلطة التشريعية القادمة؟

في نفس السياق، تضمن المقترح الأخير حكمًا انتقاليًا يقضي بإيقاف إجراءات اكتساب الجنسية لمدة 10 سنوات بعد نفاذه. كما يبدو أن الحسابات السياسية الراهنة حاضرة بقوة في المقترح الأخير، من خلال موافقتها على استقالة العسكري من وظيفته والترشح للمناصب السياسية دون قيد زمني، على خلاف قيد السنتين الوارد في المسودات السابقة.

اقرأ/ي أيضًا: ليبيا ومخاض التأسيس

تسعى لجنة الستين حاليًا  للمصادقة على المقترح الأخير ليكون بشكل رسمي هو مشروع الدستور الذي سيتم عرضه على الاستفتاء، وذلك في ظل تواصل التجاذبات الجهوية والسياسية داخل اللجنة، لتظل الخشية من استمرار مسلسل البحث عن التوافق بالنسبة للجنة الستين التي كان من المقرّر أن تتم مهامها بعد 120 يومًا منذ انتخابها أي منذ قرابة ثلاثة سنوات.

غير إن استمرار مسلسل البحث عن التوافق بهدف الوصول لمشروع دستور يحظى بتوافق أكبر ما يمكن من القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، يظل أفضل من التسريع لإقرار مشروع يقوم على منطق الغلبة بل والأخطر يحمل بذور الشقاق بين الليبيين في المستقبل. وهي الخطورة التي تحفّ بالنقاشات الجارية حاليًا لإقرار المسودّة الأخيرة المقدّمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المحاصصة المناطقية في ليبيا.. الخطر الأكبر

الدستور الليبي جاهز.. ماذا بعد؟