في دروس مخصصة لطلاب المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس، كرّس الأستاذ ديديه سومان شروحاته ليفسر كيف غيّر جوزيف بويز (Joseph Beuys) بفردانيته مفهوم العملية الإبداعية في الفن المعاصر، وذلك رغم وعورة الخوض في تحليلها ووضعها في سياق فلسفي جمالي يشمل جوانبها كافة. حيث إن بويز كان أحد من مهّدوا في الفن المعاصر، خصوصًا في الفنون التشكيلية لتوسيع الحدود بين الفنون مرة جديدة، ولاعتماد الفلسفة الذاتية كمحرك للعملية الإبداعية. بالإضافة إلى أنه قد قدّم ممارسات أدائية دون أن يعبأ بالتصنيفات، واشتغل بشكل دؤوب على نسج وتكريس صورته الذاتية كحالة فنية منذ ولادته حتى آخر أيّامه. ولذا بالإمكان القول إن بويز قد قام بمَسرَحة الفنون التشكيلية من خلال اعتماده حياته هو ذاته عملًا، دون أن يتردد في إضافة عناصر مسرحية إليها كلّما واتته الفرصة.
بدأ جوزيف بويز بتحوير قصصه وإشباعها بمعطيات شيّقة، لتكون مرتكزًا لأعماله الأدائية ورسومه ومنحوتاته على حد سواء
درس بويز الفن في دوسلدورف ثم التحق بقوات الدفاع الجوي الألماني خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. ومن هنا بالذات، بدأ بتحوير قصصه وإشباعها بمعطيات شيّقة، ستكون مرتكزًا لأعماله الأدائية ورسومه ومنحوتاته على حد سواء. أبرزها قصة سقوط طائرته في شبه جزيرة القرم، القصة التي أحاطها هو بظروف تراجيدية، فهو الذي عاد من الحادثة ملفوفًا بغطاء لباديّ وجسد مكسو بالدهن، قد صرّح لدى وصوله بأن حالته الحرجة دامت أربعة عشر يومًا، وأن مجموعة من بدو التتار قد أنقذته واعتنت به وأمنت له العسل الذي تغذّى عليه طيلة فترة اختفائه حسب روايته، في حين أن كل الوقائع تثبت أن غيابه لم يدم أكثر من يومين إلى أربعة أيام، وأن دوّرية من الجيش الألماني قد وجدته واعتنت به.
اقرأ/ي أيضًا: الرؤوس البشرية في الحرب.. بين الترميم والاستباحة
بدأ بويز نحاتًا متدرّبًا على يد الفنان الألماني إيوالد ماتاري (Ewald Mataré) الملتزم بالفن الديني، خصوصًا تمثيل جسد المسيح.
يَعتبر البروفسور ديديه سومان أن بويز "رغم علمانيته، ينتمي إلى الثقافة الكاثوليكية، وتتجسد كاثوليكيته في أعماله عبر استعراض الآلام". في الحقيقة أن هذه الآلام منها ما هو حقيقي ومنها ما اختلقه بويز بهدف إتمام عمله الفني الأعظم والذي هو صورة حياته. بإمكاننا التقاط هذا الاستعراض للألم عند تأمل عمله: "I like America and America likes Me" الذي نفّذه عام 1974 في نيويورك. وهو عمل أدائي، يعتبره بعض النقاد تعبيرًا عن مناهضة التفرقة العنصرية والاضطهاد، يَستخدم فيه الفنان ذئبًا حيًا من فصيلة أمريكية محلية، يحتجز ذاته معه في فضاء الصالة، متدثرًا بغطاء لبّادي، فيقوم الذئب بتمزيق الغطاء تباعًا بحركات متوترة، والحدث مسجّل في شريط فيديو. أراد بويز هنا بإخضاع ذاته للخطر إراديًا، فعلًا فنيًّا.
يؤكد سومان أن بويز قد استلهم العديد من أعماله وحتى حبكات قصصه الشخصية من القاصَين الألمانيين الأخوين غريم، الأكثر شهرة نسبةً للنوع السردي الذي قدّماه في مجموعتهما القصصية. وإذا كان الفنان قد استخدم عناصر من هذه القصص مثل قصة "حارسة الأوزّ" بتصويره رأس الحصان المقطوع والمعلق حسب القصة، بالإضافة إلى عبارة مقتبسة من القصة ذاتها: "أوه فلادا، أوه فلادا" وهو اسم الحصان القتيل، فإن ديديه سومان يستخلص من هذه الرسوم تجسيدًا لآلام المسيح والخيانة التي أدت لصلبه. إلى جانب هذا التحليل بإمكاننا القول إن حكايات الأخوين غريم في أساسها تتقاطع في مواضع عديدة مع المفاهيم الدينية مثل الحساب والعقاب والألم ومقارنات الخير والشر. لكن بعيدًا عن الشروح الدلالية، تُظهر قصص الأخوين غريم حساسية عالية تجاه المواد العضوية، وهذا ما نراه جليًّا أيضصا في أعمال جوزيف بويز.
تشكّل عضوية المواد بالنسبة لبويز محركًا لرؤيته الفنية والجمالية، بالمعنى الفلسفي. تشهد كتل الشحوم الضخمة المعروضة بشكل دائم في متحف "محطة هامبورغ" على حساسيته للخامات العضوية، رغم ما يمكن أن توحي به للوهلة الأولى من مسحة مفاهيمية، خصوصًا أن بويز يُصنّف ابنًا للدادائية بعبثيتها عبر انتمائه لحركة فلوكسوس، وبالتالي فهو امتداد لمارسيل دوشامب.
يستخدم بويز في العديد من رسومه الدم والصدأ وسوائل عضوية متعددة ناتجة مثلًا عن تحلل نباتات أو غيرها، حتى أنه في عمله الأدائي "How to Explain Pictures to a Dead Hare" في غاليري Schmela في دوسلدورف قد احتضن بين ذراعيه أرنب ميتًا طوال مدة العرض. وهكذا، تتقاطع حساسية بويز للمواد العضوية، مع دموية الأخوين غريم.
من المعروف أن هذه القصص التي باتت اليوم حكايا للأطفال، وتم إنتاج العديد منها كرسوم متحركة من قبل شركة ديزني في قصص مجمّلة تم تنقيتها قدر الإمكان من النزعة الدموية الواردة في النصوص الأصلية. ليس فقط عندما تكوّن موجّهة للأطفال، بل لأن عنف المصطلحات قد تآكل وأصبح أقل سفكًا بسبب كثرة الترجمات واستنساخها حتى في اللغة الواحدة.
يستخدم جوزيف بويز في العديد من رسومه الدم والصدأ وسوائل عضوية متعددة ناتجة مثلًا عن تحلل نباتات أو غيرها
وبالرغم من ذلك، بالإمكان استعراض حضور الدموية بشكلها المباشر، أو غير المباشر، لكن الكلاسيكي، عبر حضور اللون الأحمر. وهذه الأمثلة التالية هي ترجمات قمنا بها إلى العربية من النسخة الفرنسية. من قصة "الذي ذهب لتعلم الخوف": "ذهب ليجلس بجانب النار، لكن في اللحظة ذاتها، ظهرت من كل الزوايا وحتى من المدخنة أعدادٌ كبيرة من القطط والكلاب السوداء التي كانت تحمل قلادات من الحديد الأحمر/ المتوهّج". من قصة "الأخوة الاثني عشر": "... ولما كانت مقيّدةً بقوّة إلى العمود، وبينما كانت ألسنة النيران الحمراء تتجه نحو ثيابها، اتضح أن سنوات الاختبار السبع قد تمّت في هذه اللحظة بالذات". من قصة "هانس وغريتل": "إن الساحرات لهنّ عيون حُمر وبصر قصير، ولديهن أنوف دقيقة مثل الحيوانات، تستشعر اقتراب البشر". من قصة "الطائر المغرور": "أمسكها الساحر من شعرها ومزقّها إربًا. سال دمها الأحمر على الأرض، ثم قامَ برمي أعضائها في الحوض حيث كانت أعضاء أجساد الأخريات تسبح فيه". من قصة "الصياد وزوجته": "كانت السماء على امتدادها بالكاد زرقاء عند نقطة واحدة فقط، لكن في كل مكان حول الغيوم كان الأحمر، مُهدّدًا بالخطر، مُعلنًا اقتراب عاصفة رهيبة". من قصة "زوجة الثعلب": "بكت كثيرًا، لدرجة أن صارت عيناها الجميلتان حمراوان، لأنه، ويا للأسف يا للأسف، كان السيد الثعلب قد مات".
اقرأ/ي أيضًا: شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني
وننهي هذه النظرة المقتضبة عن بويز صاحب المجسمات الهندسية الدهنية، وانتمائه لقصص الأخوين غريم باقتباس من قصة "كاترين الرقيقة" التي التهمت وحدها عشاء صاحب بيتها وضيفه بكل نهم وجشع: "أعادت وضع العصا الحديدية على النار، وأخذت تديرها بسعادة غامرة بعد أن سقت الدجاجتين جيدًا بالزبدة، وعندما أصبحتا مشويتين بدرجة مثالية، فاحت رائحتهما الشهية حتى فكّرت كاترين أنه من المستحسن أن تتذوقهما. فتركت إصبعها تغوص في المرق وقالت: "آه، كم هي شهية هذه الدجاجات، إن عدم التهامهما حالًا لهو خطيئة وعار!".
اقرأ/ي أيضًا: