تندرج هذه المقابلة ضمن مجموعة من المقالات التي بدأت عن دراما الثورة السورية، والتي خطط لها أن تبدأ كما كان فعلًا، بمقالات منفصلة عن أهم الأعمال التي حاولت معالجة الثورة السورية، ونشر منها إلى الآن جزآن عن مسلسلات "سنعود بعد قليل" من إخراج الليث حجو وكتابة رافي وهبي، و"الولادة من الخاصرة"، من إخراج رشا شربتجي وسيف الدين السباعي، وسيناريو سامر رضوان.
رافي وهبي: لا أعتقد أن هناك مادة درامية أنتجت بعد الثورة يمكن أن نطلق عليها تسمية "دراما الثورة"
ونسعى إلى تدعيم هذه السلسلة بمجموعة من المقابلات مع فنانين شاركوا في أعمال أنتجت عن الثورة كتابة أو إخراجًا أو تمثيلًا. وقد أجرى فريق "الترا صوت" المقابلة مع الفنان والكاتب رافي وهبي، عبر سكايب، مع اتفاق مسبق على مسار الأسئلة المطروحة.
- بما أن هذه المقابلة تندرج ضمن سلسلة من مواد عن دراما الثورة السورية، نفضل البدء من السؤال عن وجود حقل يمكن تسميته "دراما الثورة السورية"، وعن استحقاقات الكتابة عن الثورة في وقت مثل هذا تحديدًا. ما هي الحدود التي تعتقد أن على كاتب السيناريو الالتزام بها؟ وما هي الالتزامات إجمالًا التي يجب على العمل تلبيتها؟
لا أعتقد أصلًا أن هناك مادة درامية أنتجت بعد الثورة يمكن أن نطلق عليها تسمية دراما الثورة، هذا أولًا، إلا إن كان المقصود هو الدراما التي أنتجت بعد الثورة وهناك اختلاف كبير طبعًا. هناك فقط مجموعة أفلام وثائقية قصيرة حاولت، وكان معظمها أفلام هواة، أما إن كان الحديث عن الدراما التلفزيونية، فلا أعتقد أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه هذه التسمية، باستثناء محاولات نادرة جدًا. هناك أسباب كثيرة لهذا الشح، متعلقة بالمنتج الدرامي نفسه، إذ صار هناك إمكانية لتصنيف الدراما في أحسن حالاتها كسلعة.
لكن ولاعتبارات تتعلق بكون السلعة السورية مرتبطة تاريخيًا بالواقع، فكان من الطبيعي أن يكون استمراراها بعد 2011 مرتبطًا بهذا السياق، على الأقل من أجل المحافظة على خصوصيتها ومحليتها وجمهورها. لكن هذا ظل رهينًا إلى الحاجة إلى سوق.
اقرأ/ي أيضًا: نبتدي منين الحكاية.. هل هذه دمشق فعلًا؟
لا شك أن هناك أصواتًا عديدة وتجارب كان عندها رغبة في عرض تجارب الثورة في سوريا أو مآلاتها وتحولاتها. لكن السوق لم يكن موجودًا للأسف. كان عندي شخصيا محاولة في مسلسل "حلاوة روح" مع المخرج شوقي الماجري، حوصرت المحاولة على مستوى السوق، واختفت بعد ذلك، ليس فقط لأن الجمهور لا يريد مثل هذه التجارب، ولكن لأن هناك شروطًا جديدة أضيفت على قبول المنتج والمنصة للعمل.
ما يفترض هو أن تقديم أعمال متعلقة بالحدث يجب أن يكون حاضرًا بقوة، فالصراع اليوم موجود في سوريا بأقسى حالاته، والدراما تقوم بالأساس على صراع، فكان عليها بالضرورة الاستناد على ما يحدث. لكن هذا لم يكن، فالدراما السورية عاجزة اليوم عن تقديم نموذج كامل عن الحدث لنفس الأسباب، ولعل أحد هذه الأسباب هو سبب موضوعي مرتبط ببنية الدراما نفسها وتكوينها، المحدد دائمًا بالعرض والطلب. وأسباب أخرى متعلقة بطبيعة الصراع، وإن بدأ سلميًا، أو طبقيًا، أو حتى طائفيًا، ومرتبطًا بالتهميش بالأساس، وهذا معترف به على الأقل شخصيًا، لكن مآلات الثورة تحيلنا في النهاية إلى أن هناك أنماطًا أخرى أقدر على الخوض في تفاصيل ما يحدث، مثل الرواية وغيرها.
والموضوع الذي كان أكثر أهمية هو أن الدراما السورية اليوم بحاجة إلى منصة، خاصة أن الجمهور لم يكن سوريًا فقط، وأن المشتركات التي كان العمل الدرامي يخاطبها لم تعد متوفرة، والمتطلبات الواحدة للجمهور المصري والسوري واللبناني والعربي إجمالًا لم تعد واضحة، فصار المشاهد اللبناني يبحث عن شيء مختلف عما يبحث عنه المشاهد العربي، ما أعاق قابلية المنتجين والقنوات للمواد السورية المحلية.
الأزمة إذن مرتبطة ببنية الدراما نفسها أولًا بشكل عام، التي تشكلت وتطورت بما يتلاءم مع ما يطلبه السوق، وبشكل خاص بطبيعة الصراع الذي وضع الدراما السورية في علاقة أكثر تعقيدًا مع السوق.
- مع أننا قد نجد إجابة عن هذا التساؤل في عمليك عن الثورة، لكن لتوضيح ومباشرة أكثر: هل تعتقد أنه يمكن تقديم الواقع بصدق بدون اتخاذ موقف سياسي؟ فالواقع على أية حال ليس دائمًا معركة بين خصوم متساوين في القوة والحق والشرعية؟
المشكلة الأساسية هي بداية في أن الواقع نفسه تجاوز كل الحدود الحمراء، الرقيب مرتبك، سواء الرقيب الشخصي أو الرقيب بمعناه المؤسساتي، مرتبك من أجل وضع خطوط حمراء جديدة. أحيانًا يكون المرور عبر هذه الخطوط بادعاء الحياد، وكأنه صراع بين متحابين، وهذه كذبة كبيرة. بالحكم الأخلاقي فإن الفنان يجب أن يملك موقفًا واضحًا، لكن شروط الدراما وأزمتها التي تحدثنا عنها، تجبره على تغييب هذا الموقف، لأن الوقوف مع أحد الأطراف بطبيعة الحال يضعك أمام خسارة بالمنطق التسويقي لجمهور الطرف الآخر.
رافي وهبي: الممثل ليس بالضرورة قارئا سياسيا جيدا أو صاحب موقف جيد، أو حتى إنسانا جيدا
وأعتقد أن هناك حيلة مرتبطة بالدراما للمرور من هذا العائق، وهو ادعاء الحياد. لكن في نفس الوقت، فإنني أرفض توجيه خطاب لطرف واحد، فالإجابة على أسئلة الواقع الكبرى اليوم تحتاج إلى "حركشة" بكل ألوان الطيف الموجودة على اتساعها وتناقضاتها. وحتى مع ذلك، ما زالت الرقابة مستمرة بفرض نفسها، فكل أعمالي التي عرضت واجهت حذفًا مرتبطًا بهذه الإشكالية.
- كيف وجدت الانتقال من العمل عن الثورة من خلال الناس في "سنعود بعد قليل"، إلى العمل عن الثورة من خلال المجموعات المسلحة والمقاتلين في "حلاوة روح". أي تجربة تعتقد أنها أقرب إلى الواقع؟
الإجابة على هذا السؤال تجيء من ثلاثة مستويات، أولا المستوى الشخصي نتيجة تجربتي في الانتقال إلى لبنان والعيش فيه منذ فترة، والإحساس بقرب العودة إلى سوريا، من هنا جاء "سنعود بعد قليل"، أي من حكايتي الشخصية وحكاية من رأيته وتعاملت معه في هذه الفترة، هذا على المستوى العاطفي، الذي كان "سنعود بعد قليل" محاولة لأرشفته. المستوى الثاني متعلق بالتغير في الميدان نفسه، مع تغير في شخصية رافي وهبي الكاتب الذي صار أكثر جرأة، والذي صار بعد "سنعود بعد قليل" مطالبًا أكثر لتلبية التغيرات التي تحدث على الواقع، والعزوف عن القصص الشخصية باتجاه الميدان. أما المستوى الثالث كان في البحث عن عمل عربي مشترك، وكل ذلك ساهم بالانتقال إلى "حلاوة الروح"، لكنني على أية حال دخلت على ما يبدو إلى أبعد مما تسمح به الرقابة، السبب الذي وضع العمل جانبًا بعد رمضان للأسف.
اقرأ/ي أيضًا: عن واقعية الدراما السورية بعد موسم مخيّب
- رغم أن موقف معظم الممثلين كان واضحًا من الحدث، غاب موقف واضح في أعمال كثيرة للممثلين أنفسهم؟ هل هذا الخيار مرتبط بعلاقات الإنتاج والسوق فقط، أم أنه ليس منفصلًا عن توجهات المخرج والممثل والكاتب أيضًا؟
أعتقد أننا بحاجة إلى الاتفاق من البداية أن الممثل هو أداة لنقل الرسالة لا كاتبًا لها، أداة فعالة ومؤثرة لكنها تظل ضمن هذا الوصف. أعتقد أن الأزمة مجددًا هي في التمويل والعرض. تجربة "حلاوة الروح" بالنسبة لي تقول إن وجود منتج مغامر لإنتاج مثل هذه الأعمال لا يكفي، فالأهم هو المحطة التلفزيونية وأماكن العرض. لا أرى أولًا أن الممثلين في سوريا كان عندهم موقف واضح، وعلى أية حال فإننا لا يجب أن نتجاهل أن المهنة في أحد جوانبها المهمة هي مصدر رزق، بالتالي قد يضطر الواحد منهم إلى تمثيل ما لا يقتنع به. وعمومًا فإن الممثل ليس بالضرورة قارئا سياسيا جيدا أو صاحب موقف جيد، أو حتى إنسانا جيدا. بالتالي فإن الأزمة مرتبطة بالجانبين معًا.
- هل قدمت تجربة الكتابة والإنتاج من الخارج للدراما السورية جديدًا خارج حدود الرقابة؟
من دون شك طبعًا، بداية من "مسلسل سنعود بعد قليل" أول الأعمال التي صورت في لبنان، ولاحقًا في أعمال مثل "قلم حمرة" و"غدًا نلتقي" و"حلاوة الروح"، كان هناك تأثير للمكان أولًا على استمرار الدراما السورية نفسها، التي كانت مهددة بالتوقف بعد الأحداث. إضافة إلى أن الأعمال التي أنتجت من الخارج في هذه الفترة، ساهمت في تحريض الدراما التي كانت تنتج في سوريا بالبدء في مقاربة ما يحدث، واستعادة واقعيتها، بغض النظر عن الطريقة التي تمت المقاربة فيها، والتي كانت في معظمها منحازة. إجمالًا كان هذا هو الدور الأساسي الذي لعبته الأعمال المنتجة خارج سوريا.
اقرأ/ي أيضًا: الدراما السورية منشغلة بالتطرف
- مع انشغال الدراما السورية في الموسم الفائت بتقديم أعمال تاريخية، ألا تعتقد أن هناك غيابًا للأعمال التي حاولت التأريخ للثورة من خلال فهم أسبابها التاريخية؟ وكأن الحدث جاء عابرًا ومنقطعًا عن كل ما قبله؟
حتى أكون صادقًا، كنت بعيدًا إجمالًا عن متابعة أعمال هذا الموسم، ولكنني كنت متابعًا لما يكتب عن الدراما السورية، وما كتب كان بالنسبة لي متوقعًا. عندي قراءتان واحدة مرتبطة بمشروعي الشخصي، وأخرى تتعلق بتوجهات الدراما بشكل عام ومساراتها. على المستوى الشخصي، كان عندي مشروع بدأته باسم "العراب نادي الشرق"، وكان مرتبطًا بالأزمة السورية وبالفترة السابقة للتمرد الحاصل في سوريا، وكان محاولة للبحث عن تاريخ الفساد في سوريا ودوره فيما يحدث، حيث أرى أن جزءًا أساسيًا من التمرد المطلبي الذي حصل في سوريا، هو وصول الفساد إلى مستوى أعلى من أي وقت مضى، فلم يعد اقتصاديًا فقط، وإنما صار قضية اجتماعية وإنسانية وأخلاقية استلزمت خروج الناس لإعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والسلطة. هدفي، في الجزء الأول من "العراب"، هو مقاربة دور الفساد فيما يحدث وتقييم المقولة عن إمكانية إصلاحه، دون الحاجة إلى ما حدث من خروج الناس وقيام الاحتجاج.
رافي وهبي: "العراب" كان محاولة للبحث في تاريخ الفساد في سوريا ودوره في كل ما حدث
وكان من المفترض أن يكون الجزء الثاني متعلقًا ببداية التمرد، وعلاقة المال بالنفوذ والسلطة، وكان هذا المشروع العام الذي أراد التأريخ للفساد في سوريا من 2005 إلى 2015. وتم إحباط المشروع للأسف، وأفرغ في الجزء الثاني من محتواه، وتحول إلى عمل تجاري لم يحمل مقولة ولم يمسك بقضية معينة أو يبحث فيها، ولم يواصل بالتالي مشروع التأريخ المذكور.
اقرأ/ي أيضًا: أفراح القبة.. الدراما المصرية تعود إلى الواجهة
وأعتقد أن الأستاذ خالد خليفة، كاتب الجزء الجديد بعد مشكلتي مع المنتج، لم يتخل فقط عن هذه المعالجة، بقدر ما تخلى عن أخلاق المهنة نفسها، وأعتقد أنه كان غير مقبول، بالنسبة لشخص يطرح نفسه كمدافع عن حقوق الإنسان والسوريين، أن يعتدي على حقوق زميل له، وأن يشوّه مشروعه كما شوّه مشروعي. وهذا يجعلني ويجعل كثيرين يعيدون النظر في موقف مثقفين سوريين كثيرين مناصرين للثورة وحقوق الشعب.
- يقال إن الأستاذ سامر رضوان انسحب من العمل بعد مخاطبتك الشخصية له، ألم تحدث مخاطبة شبيهة مع الأستاذ خالد خليفة، حتى تكون تفاصيل الخلاف واضحة بالنسبة له؟
طبعًا، حصل تواصل بيني وبين الأستاذ خالد، وأخبرته بأن الموضوع موضوع خلاف، وأخبرته أن أي اقتراب من شخصيات الجزء هو اعتداء على حقوق زميله، وأعتقد أن سامر رضوان لم يتخل عن كتابة العمل لأنني خاطبته، ولكنه استمر بالكتابة، لكن الحلقات التي كتبها تم رفضها من المخرج والمنتج فانسحب. الكاتب الوحيد الذي اعتذر ورفض كتابة العمل نيابة عني للأمانة والتاريخ هو إياد أبو الشامات.
أكتب الآن مقالًا يتحدث عن موضوع "العراب" وعن الدراما السورية عمومًا، ولكنني بحاجة إلى تكوين خلفية أكثر وضوحًا عن الموسم الأخير. ما يجب أن يقال أخيرًا أن الجزء الثاني من "العراب" كان جزءًا فارغًا، وكان جزءًا من القضاء على مشروع شخصي كنت بدأته، بدون أي وازع أخلاقي أو فني.
- هل سيعود رافي وهبي للكتابة عن الثورة مجددًا؟ ومن أي زاوية هذه المرة؟
أعتقد أن كل حديث عن الثورة، أو أن أي عمل يريد تقديم الثورة السورية، يجب أن يعود إلى 2011. بالنسبة لي ألتزم ولا أستطيع إلا أن ألتزم بالموضوع السوري، وأشعر أن هذا النوع من الأعمال يجب أن يحافظ على حصة من السوق حتى لو كانت حصة صغيرة. شخصيًا أنا ملتزم بالموضوع السوري لكنني أبحث عن زوايا جديدة، وكوني مقيمًا في لبنان وأنا كاتب مرتبط بالواقع بالأساس، عملي القادم سيكون عملًا سوريًا لبنانيًا، وسيبحث في العلاقة السورية اللبنانية من الثمانينيات وحتى اليوم، حتى نستطيع الخوض بهذه التركيبة الغريبة، عبر قصة مشوقة تستطيع أن تجد طريقها إلى المنصة والسوق.
اقرأ/ي أيضًا: