أشعلت ثلاث شمعات، أغمضت عيني ونفخت، لكنها لم تنطفئ، لم أعر اهتمامًا أنّني جالس في المقعد الخلفي لطائرة منخفضة التكلفة، وأن تلك الشموع بالكاد موجودة في مخيلته، أحكم إقباض جفنيّ، حاولت أن أنفخ أكثر فانطفأت الصورة تمامًا، لتعود أصوات المسافرين الكثر إلى بودابست لتطفو على الوعي، تطرق طبلتي أذنيّ دون استئذان عجينة لغوية من لغات عديدة، فأتذكر لعنتي الجديدة التي تتلخص أنني أستطيع أن أفهم عليها كلّها، لقد كانت لعنة اللغات هي الغضب الإلهي على بناة برج بابل، حيث تعثّر تواصلهم بلغاتهم ولهجاتهم، وكما في عالم الكرتون هنالك البطل الخارق والبطل الشرير ذو القدرات المضادة تمامًا.
هنالك لعنة اللغة التي تفقد التواصل، ولعنة لغة أخرى، لعنتي التي تنمو في دماغي لتجعله بركة تجميع الخزعبلات البشرية، تمامًا كتلك التي تراود رأسي الآن في أثير الطائرة هذه، ها أنذا أسمع النكتة نفسها بعدة لغات عن فرامل الطائرة اليدوية التي يجب أن ترفع كلما مرّت بمطب هوائي يثير هلع بعض الركاب، يبدأ تحديدًا راكب عربي مازحًا بتعليم ابنه السباحة عندما ستغط الطائرة في البحر الأبيض المتوسط، تحمل النكتة في رأسي بعدًا آخر عندما يبدو لي الطفل شبيها بآلان الكردي الذي غرق تحديدًا في تلك المنطقة من البحر، ما هي يا ترى مسافة الدرب بينك وبين حريّتك سباحة؟ كم من المصائد البحرية – المتنكّرة كأطباء أسنان، فأنا أكره أطباء الأسنان – الجاهزة لالتهامك في دربك تلك، يعلو لغط المضيفة ذات الحواجب المنتوفة والمؤخرة المتقلصة حين تتحدث في حوار كحوار الطرشان مع والد الطفل الذي بدأ يتمرن على السباحة في ممر الطائرة الضيق.
مطب هوائي جديد يؤثر على ضغط الكابينة، يفرغ رأسي من "ريثم" الأفكار التي تودي إلى درب النوم، مطبات هوائية تزعزع النعاس وتعيد شلال الاستفاقة، بينما يستمر ذلك آلان الكردي بالإزعاج والزعيق ضاربًا بعرض الحائط توسّلات المضيفة التي بدأت تعد الثواني تنازليًا حتى الهبوط.
بقيت نصف ساعة، بدأت ربّانة الطائرة بصوت أجش وروتيني بشرح تعليمات الهبوط ودرجات الحرارة وغيرها من المعلومات المملّة، تبدأ الطائرة بالانخفاض، ويزداد الضغط، تضيع محاولاتي في موازنة الضغط عبر إقفال منخاريّ لإدخال التوازن عبر قناة ستاكيوس إلى عالم ثلاثي الأقطاب: أنف أذن، حنجرة.
أتذكر سفرتي الأولى العابرة للمحيط، طائرة بحجم قرية، "كيف سيطير في الهواء ما هو أثقل من الهواء"، ألتصق بمقعده ليبحث عما يمكن أن يربطه أكثر كي يتوقف عن شعوره بأنه ريشة، يضع سماعات الطائرة في أذنيه، يقلب محطات الموسيقى، ليصل إلى القناة رقم ثلاثة، أغنية "لولاكي" تفيض وتملأ عالمي وتنسيني المكان ولو للحظات.
يقولون إن الصوت لا ينتقل في الفراغ، لذلك فالصوت الذي يخرج منك سيرتطم بذلك السقف الزجاجي على طرف الغلاف الجوي، ثم يجثم هناك ليصمد بصمود الكوكب، ولذلك كل ما علينا لكي نسترجع كلام الأولّين هو أن نصل إلى هناك، ونقطف تلك الأصوات الرابضة آلاف السنين، أو ربما حتى ملايين السنين، فنعيد اكتشاف الأصوات التي كانت مصدر وجودنا.
أتجوّل في زقاقات شارع هرمان. أنظر إلى أشكال البشر الغريبة التي تبادلني النظرات، وما دمتُ أعزبَ وأحتاج إلى "إفراغ السموم" فأنا رجل، "ولا يعيب الرجل غير جيبته".
أشعر بأنني مجرد "مواطن" في عالم الشرّ هذا، هؤلاء الأشرار، كيف نصبح مثلهم؟ هل لدينا كل المقومات التي تسمح لهم بفعل أفعالهم والعيش معها بانسجام؟ أذكر مقولة والدي عندما تشاجرت مع شخص من القرية ذي عائلة "منهم" قال لي: "إحنا مش مثلهم".
بحثت كثيرًا عن أوجه الشبه والاختلاف لكن النتيجة الوحيدة كانت أننا لسنا مثلهم، هكذا بدون أي دلائل وقواعد علمية يمكن الاعتماد عليها، أمشي وأتحاشى إطالة النظر سواء إلى أي من أأجناس البشر - والأجناس هنا حتمًا تفوق الاثنين- المبعثرة في الشارع فيقفز من بينها شبح رفيع، يلبس جاكيت جوخ أسود طويل بدا لي مألوفًا من مكان ما، بادرني بالكلام بالعربية كأنه اصطادني من بين كل الجموع، يبادرني الكلام، يبدأ بتدفق سيل من الكلام بلهجة فلسطينية ممزوجة بلكنة غريبة،
- من وين الأخ؟
- فلسطين
تشبه الإجابة عن هذا السؤال لعبة الروليتا، فلسطين/إسرائيل الإجابة الخطأ في المكان الخطأ ستوقعك في متاعب أنت في غنى عنها.
- وأنا فلسطيني، من عكا، اسمي أحمد.
أتوقف قليلًا من وقع المفاجأة، فلا شيء في ملابسي يشير إلى مدينتي.
يستطرد قائلًا بعد أن قرأ دهشتي، أنا بالأصل عكاوي، بس ربيت بمخيم عين الحلوة، لحد ما والدي نقل هون.
يكمل حديثه شارحًا عن مكان قريب يوجد به صبايا يمكنها إراحتي من همومي، وإعادة تشكيلي من جديد، وبأسعار مقبولة.
- فش مشكلة دفع، المهم البضاعة محرزة.
تذكرت طفولتي المتأخرة عندما بدأت السنوات السبع العجاف، عندما كان عشاؤنا خبزًا وزعترًا، في حالتي خبز حاف لأنني لم أحب الزعتر يومًا، حيث فقد والدي معظم أملاكه، وتبعًا لذلك مكانته الاجتماعية كزعيم العائلة بسبب عدم قدرته على "الدفع" في حلّ المشاكل. لأقسم حينها أنني لن أكون فقيرًا وليكن الثمن ما يكون.
تخلّيت عن حذري وذهبت معه، وهو يشرح عن إخوّتنا كفلسطينيين، وأننا شعب واحد قطعته الظروف، لم أنتبه تمامًا للزقاقات التي دخلتها إلا وأنا في سرداب مظلم، ومطلع درج بإضاءةٍ حمراء غامقة، صعدنا الدرج على الأقدام لندخل مقصفًا كالحًا توقف الزمن عليه منذ مطلع الثمانينيات، وموسيقى صاخبة جدًا، تغطي على الفراغ الذي يعصف بالمكان، يجلسني على أحد الطاولات الفارغة ويغيب دقيقة ليحضر ثلاث فتيات، يحطنني ويبدأن في معاينتي بنظرات حادة جدًا وملامستي بطريقة استفزتني أكثر مما أثارتني، بينما يتحدث أحمد العكاوي بإنجليزية مكسرة محاولًا أن أفهمها بأننا أبناء عمومة، وأن عليهن أن يحافظن عليّ جدًّا، بدأت يحدثن بعضهن البعض كيف أحضر مارك، وهذا الاسم الحركي لأحمد العكّاوي هذه البضاعة الفاشلة، غامت عيوني محاولًا التظاهر بالغباء وعدم فهم أي حرف مما يقلنه، وقرّرت محاولة الخروج من هذا الفخّ، طلبت الحساب رغم أننّي لم أشرب سوى كأس من الماء، ظهر فجأة ماردان بملامح شرق أوروبية، وأمامهم كهل قصير يحمل ورقة سجل عليها الحساب، مائة وخمسون يورو، مقابل الدخول والكحول التي شربتها الفتيات، أنا واقف بجانب باب الخروج، أحمد اختفى منذ زمن، والرجال الثلاثة ينظرون إلي بينما يقول أحدهم بألمانية ركيكة: "شكله معبي مصاري".
لن يحصلوا على شيء، أولاد الكلب، دفعت القصير بأقصى قوتي وثم جذبت الطاولة على يساري وكانت قد صفّت عليها بضع قناني من المشروب خلفي كي أعرقل مطاردتهم لي. وبدأت بالركض بأقصى سرعتي، بقيت واقفًا ردحًا غير معلوم من الزمن ألهث بسرعة ككلب فالت يقتله الحرّ، وتوقفت في زاوية معتمة قليلًا على أمل أني أضعتهم، قبل أن تأتي الطعنة، طعنة واحدة ووحيدة من الخلف أصابت شريانًا رئيسيًا دون أن تصيب أي عضو حيوي.
وفقًا لملفات الشرطة الألمانية، فقد بقيت جثّتي ملقاة نصف ساعة على قارعة الطريق في شارع "زونن آلي"، من بينها 5 دقائق كاملة بعد أن توقف قلبي تمامًا قبل أن يمر مصادفة من هنالك طبيب ألماني معه جهاز إنعاش في سيارته.
تصمد خلايا المخ حوالي عشر دقائق كاملة بعد توقف الأوكسجين عن التدفق إليها، ثم تبدأ بالانهيار جماعيًا وتبدأ عشوائيًا فقدان قدراتك الإدراكية وفقًا لحظك في خلايا المخ التي ماتت، فكما هو معروف خلايا المخ التي تموت لا يتم استبدالها بتاتًا منذ اللحظة التي نولد بها. لا أعرف هل كان ذلك حسن أم سوء حظ، هو أن الخلايا التي تأذّت هي الخلايا المسؤولة عن الحركة، لأستيقظ في المستشفى دون حركة بالأطراف، أو حتى قدرة على الكلام، لكن الإدراك بقي هناك داخل تلك القوقعة في الرأس:
"جلس هامبتي دمبتي على الحائط،
كان هامبتي دمبتي قد سقط بشكل كبير.
كل خيول الملك وجميع رجال الملك
لا يمكن تجميع هامبتي معا مرة أخرى".
عادت بعض القدرات الحركية، والقدرة على الكلام الثقيل، ولكن اللعنة، لعنة "برج بابل" تطاردني في هذا المستشفى الذي وضعت به في هذه الدولة التي رقّعت شعبًا بغزل رقاعات من كل شعوب العالم بنسيج من الأساطير، يبدو أن ذلك النسيج ينفرط عندما يمرضون فيعودون إلى لغاتهم الأصلية، ليغزوني برج بابل ذلك من جديد، ولكن هذه المرة دون قدرة مني على الهرب، حتى الشكوى تخرج على شكل حشرجات مكتومة، أضيق بها ذرعًا، وتجعلني أحقد على ضارب السكين أنه قد أخفق بإصابة القلب ببضع سنتيمترات.
اقرأ/ي أيضًا: