جلست وهي في الحادية والعشرين من عمرها على أرض غرفتها، وفتحت صندوق كتبها ورواياتها القديمة حين كانت ابنة الثلاثة عشر ربيعًا، لتجد فيضًا من الذكريات في انتظارها؛ قصاصات تم تجميعها من الجرائد، تنتمي معظمها لجرائد مصرية تعوَّد والدها شراءها في طريقه إلى عمله كل صباح، وكانت تقرأها حينما يعود في المساء، منهما مقالان للرائع محمد المخزنجي، وتقرير صحفي مع محمد حسنين هيكل يتحدث فيه عن عبد الناصر والسادات كعادته، والعديد من الروايات التي قرأتها في مراهقتها وأصبحت طي النسيان في الذاكرة؛ فها هي "جذور" بصفحاتها المهترئة الموقعة والمؤرخة بخط يد جدها رحمه الله بتاريخ 5/9/1979 تتحدث عن الزنوج وقصة كفاحهم ضد عنصرية البيض في أمريكا، وها هي "جريمة في قطار الشرق السريع" أحلى ما كتبت أجاثا كريستي، وها هي جين إير التي ما زالت تخلط اسم كاتبتها مع كاتبة "مرتفعات ويذرنج"، فلا تعلم أي الأختين برونتي كتبتها، هل هي إميلى برونتي أم شارلوت برونتي؟! حتى تقع عينيها على رائعة جول فيرن "رحلة إلى مركز الأرض" الرواية التي درستها في الصف الثالث الإعدادي باللغة الانجليزية، لكنها كانت قد قرأتها في الصف الثاني قبل دراستها بعام بالعربية. أعادتها رؤية هذه الرواية للمرة الوحيدة التي تم طردها فيها من الفصل.
لم تكن مشاغبة بطبعها، بل كانت الطالبة النجيبة ذات الحضور التي يحبها مُعلموها، ولكن يشاء القدر أن تقع هذه الطالبة النجيبة في فصل "مس فوزية"، معلمة اللغة العربية للصف الثاني الإعدادي. فكانت مس فوزية دائمة التجهم، قلّما رأتها طالباتها وهي تضحك، دائمة الصراخ والعويل في وجههم كغطاء لشخصيتها الضعيفة فلا تستضعفنها الطالبات.
جلست طالبتنا في الفصل إلى جانب صديقاتها، وكانت هذه هي الحصة ما قبل الأخيرة في اليوم الدراسي، حصة الإملاء هي أحد فروع اللغة العربية التي تُدرسها مس فوزية، حيث كتبت بعض القواعد الإملائية على السبورة لتقوم الطالبات بنقلها إلى كراسة الإملاء.
لم يكن أحد يهتم بما كتبت مس فوزية، وحين وجدت أن لا أحد يهتم بما كتبت قررت أن تصرخ في وجه الطالبات: "اصمتن، لا أريد أن أسمع نفسًا، انقلن ما كتبت في هدوء". هنا عم السكوت أرجاء الفصل لتقطعه مس فوزية مرة أخرى: "أنتِ يا زفتة". انتبه الفصل كله متسائلًا إلى من توجِه مس فوزية هذا السباب، ما عدا صديقتنا ظلت تنقل القواعد الإملائية التي كتبتها المعلمة دون أن يُثار فضولها إلى ما تقول المعلمة، فلم تُعرها انتباهًا ظانةً أنها غير معنية بالأمر فهي لم تكن تعلم أنها هي نفسها هذه "الزفتة". لتكمل مس فوزية صراخها: "أنتِ يا زفتة، يا حيوانة، يا من تأكلين العلكة في الخلف". حينها وجدت صديقتنا نفسها مرغمة على النظر إلى مس فوزية لتجدها تحدق بها والشرر يتطاير من عينها مردفةٌ: "قفي! لماذا تأكلين أثناء الدرس؟" أجابت بكل كبرياء فهي لم تستطع بلع الشتيمة والإهانة في صمت:
-أولًا أنا لا زفتة ولا حيوانة، ثانيًا أنا لا آكل.
-لا بل تأكلين، لقد رأيتك، أنا لستُ عمياء.
- لا أنا لا آكل.
- حسنٌ، تعالي قفي أمامي.
فذهبت إليها لتقف في منتصف الفصل لتأمرها مس فوزية: "افتحي فمك!" ففتحته وحين لم تجد المس شيًا، تابعت إهانتها قائلةً: "قمتِ ببلع العلكة"، لترد إحدى الطالبات وهي صديقة صديقتنا المقربة قائلةً: "بلعتها!! من الصعب بلع علكة يا مس". لتأخذ نصيبها هي الأخرى من صراخ وعويل مس فوزية "اصمتي! لم يُعيَّنك أحد محامية دفاع عنها!". لتلتف إليها مرة أخرى:"اذهبي وقفي في نهاية الفصل"، فانصاعت تلك المغلوبة على أمرها حتى لا تنفجر بوجه هذه المعلمة المتعسفة، وفي منتصف الطريق إلى نهاية الفصل أردفت: "خذي معكِ كراسة الإملاء لتكملي كتابة الدرس واقفةً"، هنا لم تطق عليها صبرًا لترد ببرود ولكن بأدبٍ: "لا أستطيع الكتابة وأنا واقفة". ليكون رد مس فوزية قاطعًا وحازمًا: "حسنٌ، اخرجي خارج الفصل".
كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها طردها خارج الفصل، تخرج لتقف في الممر الخاوي من الجميع، تتلصص على ما يحدث داخل الفصل عبر شباك صغير لتجد جميع من بالداخل ينقمون عليها نعمة طردها من وجه مس فوزية متمنياتٍ أن يصبحن مكانها!!
أثناء وقوفها في الرُواق مرَّ عليها أستاذ سيد وعلى وجهه أمارات الدهشة ليسألها:
- لماذا تقفين هنا الآن؟!
- مس فوزية طردتني.
ضاحكًا يجيب:
- مس فوزية! هناك مقعد في آخر الرواق، اذهبي وأحضريه واجلسي هنا حتى ينتهي درس مس فوزية.
-درس مس فوزية لن ينتهي، فالحصة القادمة هي لمس فوزية أيضًا.
ضاحكًا مرة أخرى:
-فرصة، اغتنميها وأحسني استغلالها.
فهمت صديقتنا ما يرمِي إليه مستر سيد، فهو معلم اللغة العربية للصف الأول الإعدادي وهي كانت إحدى طالباته، فهو يعرفها حق المعرفة ويعلم أنها لم تفعل شيئًا سوى أن القدر جعلها إحدى طالبات مس فوزية!
انتهى اليوم الدراسي وعادت صديقتنا إلى المنزل، لتذهب في اليوم التالي إلى المدرسة وقبل أن تُلقي مس فوزية التحية على الطالبات أشارت إليها بإصبعها:" اخرجي من الفصل".
قررت حينها أنها ستخبر مس فوزية أنها ليست تلك الفتاة التي يتم طردها من الفصل مرتين في يومين متتاليين بإشارة من إصبعها.
جلست زميلاتها في الفصل بعد أن ألقت عليهن مس فوزية التحية، ووقفت هي تُدخل كتبها داخل حقيبتها، وقبل أن تخرج خارج الفصل أخرجت رواياتها التي كانت تحملها في حقيبة مدرستها والتي كانت "رحلة إلى مركز الأرض"، لتراها مس فوزية بين يديها لتستشيط غضبًا وغيظًا في آنٍ، لكنها لم تفعل شيئًا ولم تتراجع عن قرار طردها. لكن صديقتنا نَعُمَت بحصتين تقرأ فيهما روايتها في دفء شمس الشتاء الباردة حتى أنها انتهت منها، وانتهى هذا اليوم أيضًا وعادت إلى المنزل، وفي اليوم الثالث دخلت مس فوزية الفصل وألقت التحية على الطالبات جميعهن شارحةً الدرس غير عابئةٍ بها.
انتبهت في هذه الأثناء إلى صوتٍ يناديها مُعيدًا إياها إلى أرض الواقع، لتجد أنها قد عادت بذاكرتها ثمانِي سنوات إلى الخلف، فعلمت حينها أن رحلتها إلى مركز الأرض قد كللت بالنجاح.
اقرأ/ي أيضًا: