من اللحظات النادرة التي تسبق فترة التحاقي بالمدرسة ومازلت أحتفظ بها، هي ذلك اليوم الذي اصطحبتني فيه والدتي إلى مدينة الملاهي مع بنات أم خليل جارتنا الفلسطينية. ذلك اليوم راسخ في ذاكرتي بوصفه المرة اليتيمة التي رأيت فيها والدتي وبنات أم خليل بدون عباءات خارج المنزل، لأنه كان يومًا مخصصًا للنساء والأطفال في مدينة الملاهي بالرياض -مسقط رأسي- بحيث لم يكن يحق للرجال من غير الهنود والبنغال والباكستانيين العاملين فيها بدخولها. لقد كانت مدينة مسرات محرمة على الرجال، ولا أدري إن كان العاملون فيها من الآسيويين مستثنين من ذلك بسبب بيولوجي، أم أنها مجرد عنصرية تفترض فيمن هو غير عربي رجولة منتقصة، لا تلزم نساء المسلمين بارتداء النقاب في وجودهم.
لا تزال وجوههن حاضرة بنضارتها في خيالي إلى الآن رغم سني الذي لم يتجاوز وقتها السنوات الأربع. كن يافعات وممتلئات بالحيوية. حتى والدتي كانت أكثر حماسة مني في اللعب والتنقل من تسلية لأخرى. كانت قد تخرجت لتوها من الجامعة. تتشارك جدتي فاطمة في تربيتي كضرب من المسؤولية المريحة التي لا تشكل لها أي أعباء مضنية، وهو ما لم يتطور إلى تقصير بأي شكل من الأشكال. الفعلة الشنعاء الوحيدة الماثلة من ذاكرة الطفولة والتي ارتكبتها والدتي في حقي وهو ما لن أنساه ما حييت: تركها لي مع سمر لركوب الأخطبوط.
والأخطبوط ضخم بشكل مرعب. بثماني أذرع كأي أخطبوط حقيقي مع فارق جوهري هو مقدرته على العيش فوق الماء. كان على ضخامته يحمل في كل يد كأسًا ذات مقاعد تتسع لعدد معين من البشر. ما إن يملؤها حتى يلتف بهم حول نفسه صعودًا ونزولًا مما يبعث جوًا من المتعة المرعوبة بكل ذلك الصراخ الصادر من كؤوسه، فلا تعرف إن كان ركابه خائفين، أم مستمتعين، أم الحالتين معًا. ما يعد في كل الأحوال أمرًا ممنوعًا بالنسبة لطفل لم يبلغ الخامسة. لكن تلك المسوغات ما كانت لتقنعني أبدًا بالموافقة على عدم ركوب الأخطبوط حتى بعد أن بلغت من العمر 30 عامًا وربما إلى أن أموت! رغم عشرات الخطابيط التي ركبتها بعد ذلك مجازًا وحقيقة.
كان انتقامي وقتها هو أن أبتعد عن مجال مراقبة سمر، وهو ما قصدتُ به التسبب في مشكلة لماما التي سيجن جنونها إذا ما عادت ولم تجدني. لكن خطتي البائسة سرعان ما فشلت عندما وجدتني سمر جاثمًا على أحد الأرصفة بين كل تلك الألوان المتراكضة من الأطفال السعداء أبكي بحسرة، لأن أمي خانتني لتلهو مع أخطبوط!
الخطة التعويضية التي نفذتها سمر كانت أخذي إلى مجموعة من الأراجيح الدوارة التي كانت بالكاد تتسع لمؤخرة محشورة في قماط. أخذتْ تلتفّ بي الأرجوحة دورة بعد دورة، وأنا لا أرى سوى المشاهد نفسها تتابع داخل رأسي في شكل دوار مثير للصداع بينما تكرر لي وجه سمر الواقفة قبالتي بشعر مسترسل لم يصل إليه رجال هيئة الأمر بالمعروف وراء هذه الأسوار العالية من الفرح. بتكرارٍ باعث على السأم رغم ظرافتها ومحاولاتها الدؤوبة لإضحاكي. الشيء الوحيد الذي كان يتكرر أمامها مع كل دورة للأرجوحة هو طفل أسمر بدين عابس الوجه.
لسمر ذكرى قديمة معي قد تعود لفترة أقدم من يوم مدينة الملاهي فتحت عيني للمرة الأولى على ما يمكن أن يشعر به الأمر حيال إثنيته. لكن جهلي بالمصطلحات وقتها لم يرسخ الواقعة بشكل سلبي في ذاكرتي. كنت أقضي فترة الظهيرة في بيت أبي خليل بينما كانت أمي في الجامعة. ألهو مع سمر التي كانت تحب الرسم مثلي. جاءت بدفتر تلوين وأقلام رصاص من مختلف الألوان. بدأنا نلوّن معًا، وعندما رأيت رسومًا لأولاد يلعبون في حديقة بدأت في تلوين أحدهم باللون البُني كي يبدو مثلي. جُن جنون سمر، وغضبت لأنني لوثت وجه الفتى آمرةً إياي أن ألونهم فقط باللون الزهري أو أن أتركهم بيضًا دون تلوين.
عادت أمي من الأخطبوط لكن أرجوحة كتلك ما كانت لتنسيني ما فعلته. محاولاتها التالية لتهدئتي وإثنائي عن غضبي لا أذكرها، لكنها بطبيعة الحال كانت تنجح، فمن الأمور التي ظللت أحتفظ بها منذ طفولتي هو ذاكرة سيئة أمام كل ما ينغصني. مما جعلني إنسانًا أكثر تسامحًا مع من يخطئون في حقي، وإن كانت تُكسر تلك القاعدة أحيانًا لأسباب تقتضيها قذارة البشر، لكنني بطبيعة الحال أكملت حياتي بشكل طبيعي برفقتها، وحتى مغادرتنا للرياض بعد أن أثبت صدام حسين أنه لم يكن يمزح مع اقتحامه للكويت وبدئه بتنفيذ وعوده الجهنمية بإطلاق صواريخه الروسية العمياء باتجاه مدينتنا المسالمة، فكانت جدة، وكان البحر الأحمر، ولم أر ذلك الأخطبوط في مدينة الطفل السعيد مرة أخرى.
المرة التالية التي ذهبت فيها مع والدتي إلى مدينة الملاهي لنلهو فيها سوية، لا لمجرد اكتفائها بالفرجة، كانت بعد ذلك بستة عشر عامًا. في ملاهي السندباد بالقاهرة، وعلى صغرها، والمقارنة المعدومة بينها وبين مدينة الطفل السعيد في الرياض التي لم تختف في غياهب عصبونات الذاكرة بعد كل هذه السنوات. إلا أنها قدمّت لي اللعبة التي أمكنني فيها أن أشارك والدتي اللعب عليها ندًا لند "الشواية" كما يسمونها. مجموعة من المقاعد المنقلبة أفقيًا رأسًا على عقب بزاوية 360 درجة. قدمتْ لي لحظةً نادرة اكتشفت خلالها احتفاظ والدتي بتلك الشخصية المرحة القادرة على الاستمتاع بالحياة مع من تحب. رغم ازدياد وزنها وكبر سنها بما يمثل ضعف تلك الحسناء التي تركتني لتلهو مع الأخطبوط. غياب الأخطبوط في ملاهي السندباد هو ما لم يجعلني أتنازل عن أحقادي القديمة بشكل نهائي لكن انهماكنا سويًا في عاصفة الضحك ونحن محاصران بأحزمة مقاعد "الشواية"، وهي توجه أقدامنا إلى السماء ورؤوسنا لرؤية البنايات المقلوبة، خصوصًا مع سماعنا لابنة عمها وهي تختم القرآن بجوارها خوفًا من السقوط. كل ذلك جعلني أتأكد أن بعض اللحظات المفقودة من حياة المرء قابلة للتعويض بشكل أكثر جمالًا وإسعادًا عما كان يمكن أن يحدث في الماضي إذا ما تكررت الفرصة.
لاحقًا، استطعتُ أن أرى سمر في زيارة خاطفة لعمّان مع بقية أبناء أم خليل، وأم خليل نفسها. خالتي الفلسطينية التي علمتني حُب المقلوبة وألصقتْ بأنفي رائحة لا تمُحى للمريمية كلما رأيتُ كأس شاي. لم تكن بتاتًا تلك السمر اليافعة في مدينة الملاهي وقد غطتْ شعرها المسترسل من كتفيها في حضرة شاربي الناميين بطرحة مشجرة بأزهار ياسمين باهتة، ومن نظرتها الباردة والغريبة التي لم يكن فيها أي من تلك التعبيرات المرحة التي واجهت بها طفلًا ناقمًا تأكدتُ أنني لم أعد أبدًا أشبه ذلك الطفل الأسمر البدين الذي يريد ركوب الأخطبوط.
اقرأ/ي أيضًا: