خلف الأقنعة السعيدة للحياة الرمضانية تعاسةٌ. وراء الاجتماعات الكبيرة في البيوت والساحات وحدةٌ. داخل الصخب العالي للضحك بؤسٌ.
نتغافل عن الحقائق التي نعرف جيدًا أنها لن تتغيّر لمجرد جمالية الموسم. نتحدث عن الحياة خلال هذا الشهر وكأنها خلت من القهر الأبويّ والاجتماعي. دون أن نسأل أسئلة بديهية من قبيل: ما الذي يتغير في شخص مهووس بالعنف حين يمارس فريضة دينية؟ هل ينقطع أذاه عن ضحيته، أم يتوقف عنه إلى حين ليعود إليه مثلما كان طوال الوقت؟
هذه الموائد والسهرات ليست أكثر من هدنة جماعية، فالزوج المُعنِّف عائدٌ إلى تعنيفه، بعد الفطور مساء، أو حتى بعد العيد. وكذلك الأخ المتسلط والأب النرجسيّ.
هذه الموائد والسهرات ليست أكثر من هدنة جماعية، فالزوج المُعنِّف عائدٌ إلى تعنيفه، بعد الفطور مساء، أو حتى بعد العيد. وكذلك الأخ المتسلط والأب النرجسيّ
اجتماع عذوبة اللقاءات مع أطايب الطعام لا يعني أبدًا أن الحياة تعافت، ولا يعني أن أسباب الترويع زالت في لحظة قدرية. فكرة السلام هي أن تكون مسالمًا فعلًا، لا أن تدعي ذلك.
ربما يكمن الخلل حين نتحدث عن الأجواء الرمضانية أننا نقصد صورة لا واقعًا، وأصل هذه الصورة ذكرى تعود إلينا بعد زمن طويل من مغادرتنا للطفولة والمراهقة، لكنها لا تعود دون أن تقوم الذاكرة بتنقيتها من الشوائب، مُبقيةً على ما هو مثاليّ فقط. وبقليل من النظر إلى ما وراء الأشياء، إلى المتخفي والمتواري، نجد أننا إزاء صورة نفسية صُنعت لندافع فيها عن أنفسنا في تلك الفترات، وبها نمنح ذلك الوقت ما لم يكن فيه، أو نحذف منه ما لم نكن نريد أن يكون فيه.
معنى هذا أننا حين نتحدث نستعيد، وحين نعيش نستعيد، لأنّ الصورة المُتخيَّلة طوق نجاة.
لنذهب باتجاه الواقع. ما الذي يمكن أن يحبه من يرغمون على مجالسة من يقهرهم؟ ما المغري في أن يخضع كل منا لآليات هذا الموسم الذي يوغل في رفع منسوب الإحساس بالذنب مع ارتفاع منسوب التزاور، الذي يعني حتمًا لقاءات إجبارية مع من لا نحب، أو لا نستسيغ، إذ يحدث صراع داخلي بين الرغبة والواجب، وحتى ندع الوقت يمر بسلام، علينا أن نكذب، وبهذا يمرّ فعلًا بأشنع أنواع السلام!
ليس غريبًا أن فترات المواسم، دينيةً أو اجتماعية، تقوم على مبالغات في إظهار السعادة، ذلك أن الجميع مهتمون بالكيفية التي يبدون فيها، لا بحقيقة ما هم عليه. يريدون الذهاب باتجاه الصورة القديمة التي في رؤوسهم، ولأجل مساعدة الذاكرة في استحضارها نبالغ في المبالاة بالآخرين، أقاربَ وجيرانًا، أكثر من المبالاة بالفريضة الدينية نفسها.
فكرة هذا الشهر أنه تمرين للمسلمين على التواضع، وعلى الإحساس بآلام الآخرين، من الفقراء والضعفاء، ليكمل الإنسان عامه وهو على حساسية عالية لما درّبَ الصومُ قلبَه عليه، لكن الناس يفعلون الأشياء التي تجعلهم يبدون أنهم يلعبون دورًا في مسرحية دون اكتراث بالمضمون الحقيقي، أو المقولة العميقة، لهذه المسرحية.
فوق هذا كله، نعود إلى زمن التلفزيون لنشاهد المسلسلات التي تخاطب فينا غريزة الخنوع، وتعامل المحرمات بتقديس لا يشبه ما يحدث في واقع الحياة، وتؤكد بكل ما فيها من قوة الإبهار والإقناع على شرعية التخلف.
يعود بنا التلفزيون إلى الزمن الذي ظننا أننا غادرناه، خصوصًا بعد زمن الثورات والاتصالات، إذ يكثر الاحتجاج على ملابس ممثلة، وليس على القصص البائسة التي تُقدمها، والتي تستحق فعلًا أن نحاربها
يعود بنا التلفزيون إلى الزمن الذي ظننا أننا غادرناه، خصوصًا بعد زمن الثورات والاتصالات، إذ يكثر الاحتجاج على ملابس ممثلة، وليس على القصص البائسة التي تُقدمها، والتي تستحق فعلًا أن نحاربها. ويعود بنا إلى ما كان قبل مجيء الإنترنت، إلى زمن السيطرة أحادية الجانب، القائمة على تلقٍّ سلبي، مع أننا ذقنا في رحاب السوشيال ميديا الطعم اللذيذ لكسر الاحتكار.
الأجواء العائلية التي لا تقوم على حرية جميع الأفراد هي أجواء مرعبة. الضجة التي لا تخرج من شعور الجميع بالمساواة أمام بعضهم البعض هي حفلة تعذيب. الحفاوة التي تعني تقديم الطعام اللذيذ دون تقدير كيانك وخياراتك هي كذب. فالحب ليس طعامًا، والسعادة ليست القبول بكل ما يعرض علينا، والانتماء إلى الأهل يكون بالاختيار لا بالتسليم.
صحيح أنّ كل ليلة احتفال، وكل يوم لقاء، لكنّ رمضان لن يكون شهرًا سعيدًا ما دامت تابوهات الجيران فيه أهم من شعائر الله.