كان جوزف ستالين يعشق السينما، ولم تبعده مسؤولياته كزعيم للاتحاد السوفييتي في مرحلة التغيرات الجذرية للبنى التحتية في البلاد، ولا معاركه المستمرة مع خصومه، ولا حتى الحرب القاسية، العالمية الثانية، التي ذهب ضحيتها أكثر من 20 مليون من مواطنيه رفقة قرابة 40 مليون من باقي بقاع الكوكب، أن تمنع ستالين من متابعة جميع الأفلام السوفييتية الجديدة. بل ووضع ملاحظاته عليها أيضًا.
في غمرة الانهماك بمجريات الحرب العالمية الثانية، التي تعرف سوفييتًا بالحرب العظمى، لم يفوت ستالين فرصة متابعة الأفلام الجديدة وفرض ملاحظاته بشأنها
من المتعارف عليه أن كان للسينمائيين حظوة لدى ستالين، ميزتهم عن جميع المثقفين العاملين في مجالات إبداعية أخرى. لقد كان يمنح السينمائيين الأوسمة التقديرية والهدايا الثمينة، عدا عن أجورهم المرتفعة نسبيًا، بل إن بعض الأسماء البارزة في الاستديوهات الرئيسية امتلكوا شققًا منفصلة وبعضهم حظي بفيلات فخمة حول موسكو ولينينغراد، في الوقت الذي كان لا يزال معظم سكان الاتحاد السوفييتي يعيشون في شقق مشتركة. وأبرز دلالة على ذلك، ظهور "جائزة ستالين" عام 1941 التي كانت تبلغ قيمتها 100 ألف روبل للفيلم الأول، و 50 ألفًا للفيلم الثاني.
اقرأ/ي أيضًا: الوقت سينمائيًا.. سؤال خارج على الزمن
أحب ستالين أفلام تشارلي شابلن فيما عدا فيلمه الساخر "الديكتاتور العظيم"، وكما أحب الأفلام الأمريكية وخاصة الموسيقية الرومانسية وكذلك أفلام العصابات والإثارة والقتل، وحتى تلك الأفلام المعادية للشيوعية لم يكن يفوت مشاهدتها.وعلى الرغم من حظر الأخيرة سوفييتيًا، إلا أن ستالين ودائرته الضيقة كان مسموحًا لهم مشاهدة أفلام هوليوود.
على مقربة من الكرملين كان يقع مبنى لجنة السينما في الاتحاد السوفييتي حيث بدأت للمرة الأولى تقاليد الفرجة "الحكومية" على الأفلام. في هذا المكان كان ستالين برفقة أعضاء المكتب السياسي يقومون بمشاهدة جميع الأفلام المنتجة الجديدة ومناقشتها قبل عرضها على الجمهور، ولعله لم يحظ "ناقد" في تاريخ السينما بمثل تلك القدرة الكلية على تغيير وتقرير مصير الفيلم وفقًا لرؤيته الخاصة كما حظي بها ستالين!
هذه الجلسات المسبقة، كان ينتظرها ويخافها السينمائيون كلهم، إذ كان عليها يتوقف مصير أفلامهم، فإما أن يوافق على الفيلم للعرض أمام الجمهور، وإما أن يطلب من المخرج وكاتب السيناريو تعديل الفيلم، بإضافة مشاهد عليه أو حذف أخرى منه، أو ببساطة: وضع الفيلم على الرفوف. ولكن أسوأ ما كان ينتظر فيلمًا غير مرغوب فيه، إعدامه، أي إتلافه بصورة كاملة.
لم يحظ "ناقد" في تاريخ السينما بمثل تلك القدرة الكلية على تغيير وتقرير مصير الفيلم وفقًا لرؤيته الخاصة كما حظي بها ستالين
يشير الكاتب عبد الحليم حمود في مؤلفه "سينما الدعاية السياسية" إلى أن "ستالين كان يدعو مخرجي الأفلام لحضور هذه الجلسات، مما يضعهم في مناخ من التوتر العصبي الضاغط، فقد كان يستطيع بكل بساطة أن ينهض ويغادر الصالة قبل انتهاء الفيلم فيما لو شعر بالضجر أو الانزعاج، ويعد هذا التصرف بحد ذاته شكلًا من أشكال التقييم النقدي للفيلم الذي لا بد أن يترك أثره المباشر على مصيره، وفي بعض الأحيان على مصير مبدعي الفيلم أنفسهم". كما كان يعتبر نفسه خبيرًا في الأفلام فيلقي نصائحه لصانع الفيلم قائلًا: "أنت رجل حر، وليس عليك الاستماع لي، فما أقوله مجرد مقترحات يمكنك الأخذ بها أو التغاضي عنها". لكن بالطبع، الجميع كان يأخذ بملاحظاته.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أسمهان" للمخرجة عزة الحسن.. بطولة القاهرة ودلالها المكسور
من إحدى الحوادث الشهيرة التي كادت أن تودي بحياة المخرج غريغوري كوزينتسوف، حيث ما أن انتهى الفيلم وأضيئت الصالة، قام ستالين وتوجه بسؤاله إلى أعضاء المكتب السياسي عن رأيهم في الفيلم، فنهض كالينين "عضو اللجنة المركزية لعموم روسيا" مدليًا بوجهة نظره قائلًا: "نحن عندما صنعنا الثورة لم نكن نعزف على القيثارة" في إشارة إلى إحدى مشاهد الفيلم. حينها تلبد وجه كوزينتسيف وتجمعت قطرات من العرق فوق جبينه وفقد وعيه. ويذكر أن الفيلم كان عنوانه "شباب مكسيم 1934" والذي أصبح أحد أشهر أفلام هذه المرحلة من كلاسيكيات السينما السوفيتيية.
كما يؤكد حمود إلى أن فيلم "المواطن العظيم" لـفريدريخ إرملير في جزأيه (1938-1939) اكتسب أهمية خاصة بالنسبة إلى ستالين، إذ سلط الضوء على العقد الأخير من حياة القائد السياسي كيروف، وعن صراعه مع القوى المعادية وصعوده في الحزب ومقتله على يد أعداء الثورة. لكن كيروف، القائد الشعبي والمنافس لستالين لم يقتل على يد أعداء الثورة، وهناك اتهامات بتصفيته من قبل ستالين نفسه، حسب ما يشير في كتابه.
وقد تدخل ستالين في عدد من أفلام سيرغي إيزنشتاين، ففي فيلم "أكتوبر" المنتج عام 1928 تدخل ستالين لحذف مشاهد تضمه مع لينين وتروتسكي، وكان الفيلم يخلد ثورة أكتوبر 1917، الثورة البلشفية، وفي أحيان كثيرة كان يضطر إيزنشتاين لتقديم الاعتذارات إلى الجمهور لعرضه فيلمًا "يسيء إلى الواقعية الاشتراكية" ويخدش حس الجمهور الوطني بحسب الإيديولوجيا الستالينية.
وهنا قصة بوريس شيمياتسكي الذي كان يرأس صناعة الأفلام السوفياتية وكان لديه مشروع من أجل بناء مدينة "هوليوود السوفييتية"، ووفقًا للمشروع كان من المقرر أن تنتج المدينة أكثر من 600 فيلمًا عام 1945، وقد أرسل شيمياتسكي وفدًا إلى هوليوود في الولايات المتحدة وإلى أوروبا أيضًا، وضم الوفد خبراء في السينما السوفييتية. ومع أن المشروع كان قد نال موافقة ستالين إلا أن بارانويا المؤامرات الغربية التي أصابت ستالين وذعره المستمر من الإطاحة به أدى إلى اتهام بوريس بالعمالة وإيقاف مشروعه واعتقاله ومن ثم إعدامه عام 1938 ومات بذلك مشروع هوليوود السوفييتية.
أما الممثل الذي ارتبط اسمه بأداء شخصية ستالين بصورة وثيقة، فهو ميخائيل جيلوفاني (1893-1956) الذي كان أحد أشهر ممثلي المسرح في جورجيا. وقد تغيرت مسيرته الفنية تمامًا بعد أن وجد المخرج تشياوريلي ملامح من الشبه بينه وبين ستالين، ودعاه لتأدية شخصيته في فيلم "الشعلة العظيمة". ومنذ ذلك الحين جسد جيلوفاني شخصية ستالين في إثني عشر فيلمًا تعتبر الأبرز من بين الأفلام التي ظهرت فيها هذه الشخصية، وكان أخر هذه الأفلام فيلم المخرج ميخائيل كالاتوزوف "الأعاصير المعادية" عام 1953 حيث ختم حياته السينمائية مع هذا الفيلم، بعد أن حصد جائزة ستالين أربع مرات لأدائه دوره.
أما في عام 1993 فظهر في روسيا كتاب "الأقلام الممنوعة، وفي عام 1996 ظهر كتاب آخر بعنوان "السينما المصادرة 1924-1953"، والاثنان يبحثان بصورة خاصة في مصائر الأفلام التي أنتجت خلال حقبة ستالين. وتعد شخصية ستالين من إحدى الشخصيات التاريخية الأكثر حضورًا في السينما على مستوى العالم، ووفقًا لإحدى الإحصائيات، يحتل ستالين المرتبة الخامسة بين الشخصيات التاريخية من حيث الحضور في الأفلام بـ 38 فيلمًا بعد نابليون (194) والمسيح (147) ولينين (86) وهتلر (74 فيلمًا). وبعض هذه الأفلام صنعها كبار المخرجين السوفييت.
فيما أشرف ستالين على السينما السوفييتية لثلاثة عقود وقد تمادى في رقابته على الأفلام إلى حد أنه كان يقترح مواضيع للأفلام والكيفية التي يجب أن يتم إنتاجها وتحديد المخرجين والممثلين والموسيقيين العاملين على هذه الأفلام. كما كان يقرأ النصوص ويضع ملاحظاته عليها بكافة التفاصيل وحتى اختيار عناوين الأفلام وفق مبدأ الانسجام مع الأيديولوجية الحاكمة. ويذكر أنه شاهد أحد الأفلام 36 مرة لإعجابه بالفيلم الذي يتناول قصة البطل السوفييتي في الجيش الأحمر فاسيلي شاباييف إبان الحرب الأهلية الروسية.
بدءًا من سنة 1930 تم تقييد حركة الإبداع الفني بغالبيتها مما أثر سلبًا على الحركة الإبداعية حيث ساد جو من السيطرة المطلقة وانتشر الخوف والريبة والرعب في الأوساط الثقافية. وتشير تقارير من الأرشيفات عن حياة ستالين أنه كان يتدخل في كل شاردة وواردة، حتى أنه كان يبدي استهجانه من مشاهد العري والمشاهد الحميمية، وفي إحدى المرات شاهد قبلة فرنسية تمر في الفيلم فما كان منه إلا أن منع القبلات الفرنسية في كل الأفلام السوفييتية.
في هذه المرحلة من بداية ثلاثينيات القرن العشرين، التي يعتبرها البعض بداية العصر الأسود للسينما السوفييتية، صار ستالين مرتعبًا من المؤامرات، وبطبيعة الحال، بدأت الحكومة بإنتاج أفلام تعكس قلق الديكتاتور، فجاءت المواضيع لتعبر عن الأعداء المتوارين عن الأنظار المتخفين، وكذلك الأعداء في الداخل والخارج وعبرت الأفلام عن كراهية وحقد ضد الأخرين وعن تقديس الوطن ومقولات الأيدولوجيا السوفييتية.
كان ستالين لا يتوانى عن نشر المفاهيم السياسية في الأفلام على اعتبار أنها وسيلة ناجحة في التأثير على الرأي العام. وتدهورت الصناعة السينمائية في بلاده. بمقارنة كمية بين 1930 وعام 1951 يتضح أنه تم إنتاج أكثر من مئة فيلم سنويًا بينما انخفضت النسبة إلى ما يقارب عشرة أفلام عام 1951، والسبب في ذلك سياسات ستالين القمعية والرقابية المشددة واستخدام السينما كأداة للبروباغندا، والبعض يرجع ذلك التراجع إلى التنكيل بالفنانين والمخرجين والمبدعين والمثقفين بشكل عام وإلى حالة البطالة التي صاحبت مبدعين أخرين بسبب أعمالهم التجريبية في السينما.
هكذا صارت السينما أداة للتثقيف في عهد ستالين. تثقيف وتربية المواطن السوفييتي حول الثورة العمالية والرأسمالية ونبذ الأنا وأولوية الجماعة على الفرد وبث رسائل سياسية في الفيلم تتماشى مع الأيديولوجيا المسيطرة وانتقلت سلطة صناعة الفيلم من يد المخرج إلى يد الدولة.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "Persona" لإنغمار برغمان.. ثنائية الوجه الحقيقي والقناع