- إلى رنا حتمل، بشعرها الملتف كأحجية، بزرقة عينيها، بصمتها، بضجيج ألوانها المغموسة في نبيذ الله حتى نهايات أصابعها، إليها في الغربة التي لم تألف، وبياض الصقيع الذي لم تحب.
لطالما انتظرت دخوله من ذاك الباب، فمنذ سنين لم تفعل شيئًا سوى انتظاره كي يستقم يومها وتتثبت نهاراتها المنقضية في فعل اللاشيء، وها هو بنظرة مخاتلة على وجهه يصل البيت، لم تعد تلمح تلك النظرة منذ سنين، مذ كان يحمل لها الوعود كمن يحمل البذور الرقيقة لسنونو نعس، عادت النظرة اليوم واستقرت على محياه، انحنى على جسدها المسترخي فوق الكرسي الكبير وقبلها على خدها كما كان يفعل منذ ثلاثة عشر عامًا، قبلة وقّعها كمعاهدة سلام لتكريس الهدنة. هدنة الزواج الطويل. انتظرت أن يتركها كالمعتاد ويذهب لتغيير ملابسه، إلا أنه مسح على رأسها وغلغل يديه في كثافة شعرها، ثم رفع وجهها إليه وأصر أن يقبلها قبلة فتية، قبلة أجبرت حواسها على الاستيقاظ وروحها على التوثب، ثم بقبضة متينة رفعها إليه ناسيًا أنها الساعة الرابعة ظهرًا وهما لم يمارسا الحب في وضح النهار منذ قدما إلى هذه البلاد، لكن بين الاستغراب والخجل، بين النشوة وارتباك التعري، بين فوضى الملابس الملقاة على الأرض والأجساد المنهكة من الفحيح، عادت الذكريات لترنّ في وجدانها، أحست أنها تحبه من جديد، وشعر أنها على وشك البكاء، فخاف أن تخرب اللحظة ، فزحف وأحضر هاتفه من الجاكيت الملقى على الأرض، أراها رسالة على بريده الالكتروني، كانت دعوة من غاليري شهير مختص بتنظيم معارض للفنون التشكيلية، في الرسالة أعرب مدير الغاليري عن اهتمامه بأعمالها، وحدد لها موعدًا طالبًا منها رسومات جديدة تحاكي مكانها الأم.
اسمها غِوى، كل من اطلع على لوحاتها قال إنها مُلهَمة، وأنها تتحرك لونيًا في مساحات تخصها، نعم استطاعت تخليق شكلٍ مغايرٍ للتواصل، فلم تعُز اللغة كثيرًا في حياتها، خطوطها وألوانها وتكوينات لوحاتها كانت لغة متكاملة، تلك اللغة السرية أمّنت لها دخلًا عظيمًا، فقد اعتبرت من المحظوظات إذ عاشت حياة رغيدة من بيع لوحاتها وهو أمر نادر في مجتمع مدينتها الصغير، حيث تُصْرف النقود على الرفاهيات المعهودة من سفر وملابس وحفلات، بشهرةٍ حازتها بسهولة، استمتعت كثيرًا بنجاحها، لم تستطع نكران ذلك، لكن روحها الملولة تحكمت بها لكي تترك كل هذا، فتركت.
عندما وصلت الأرض الجديدة، ظنت أنها احتالت على الحياة حيث ستعيش مرة أخرى نجاحها وغبطتها وحبها مضاعفين، لكن بعد محاولات عديدة لرمي نفسها في الأمواج المتلاطمة لمحيطها الجديد، اختفت آمالها ونمت العزلة فوق جسدها كجلد ثانٍ، حتى حنقها الدائم تهشم كورقة محروقة، وقدرتها على الغضب ذوت بخفوت، سخريتها اللاذعة اختفت، لم تعد تضحك أيضًا، صمتت فقط ، تركت حبيبها ليقودها كعمياء في مكانهما الجديد، وهي لا تدري لمَ يرتطم رأسها وحدها بجدران المدينة اللامرئية، فالجميع من حولها يبدون بخير، الزوج في عمله، الأولاد في مدارسهم، إلا هي تحركت كخجلى، أغرقتها أمواج من الإحراج، لا أجوبة لديها، ولا ذاكرة تمد يدها وتغرف منها ألوانًا وحكايا، مع أنها جربت الرسم، حاولت مقاربة مكانها الجديد بضربات فرشاة قوية وخاصة، حاولت محاكاة آلام المبدعين والانخراط في دوائرهم الضيقة، فعادت وارتدت ثيابها البوهيمية، تركت شعرها منكوشًا، وضعت الأقراط المجنونة، والعقود الخشبية كتعويذات السود، دخنت الماريجوانا، وغابت في الملكوت مع الحبات المهلوسة، لم تقلق من البرد كثيرًا، عندما طفت في الطرقات خفيفة، كمن ينقصه قطعة ملابس اضافية ليبدو تامًا، كله قامت به، لكن دون جدوى، لم تستطع الرسم، بدت كمن فقد ذاكرته، ومات فيه كل أثر للحياة، حيث بحياد جثة نسيت من تكون، لم تعد تستطيع استحضار أمكنتها القديمة، ولم تستطع محاكاة مكانها الجديد، الرسم أصبح صعبًا وبعيدًا كتسلق الجبال، علاقتها بالألوان تلغمطت كمريض باصابة دماغية، شلّت بخوفها ذاته بعد أن خذلتها الذاكرة، أحست أنها عجوز متهدلة بألف عملية تجميل، تقف بهيئتها العفريتية على حلبة في ناد للتعري، والجميع يقول لها هذا ليس أوانك ولا المكان لك، توقفي عن ملاحقة الهواء.
"You’re trying so hard, it’s pathetic".
نعم تعاكسها الحياة منذ خمس سنين، منذ خلعت ذاتها من الجذر كضرس منخور وقررت الهجرة. بدأت القصة بتفاصيل اعتيادية، حيث أعلنت بأن حياتها بلا مخيلة، ببلاغة شرحت حال مدينة اهترأت بها الدهشة. "نعيش بسقف احتمالات واطئ وريح عفنة" واجهت حبيبها الذي كان زوجها بهلوسهات وهستيريا بكاء بات ينتظره كل مساء، إلى أن اعتنق جنونها ذاته، علّها ترحمه من انهياراتها، فارتفع فوق ركام المدينة التي يحب تاركًا ألفة تاريخها وحكايات الأصدقاء، بخفة قلص مساحات حياتهما كي تتسع في خمس حقائب سفر، ثم أغمض عينيه وقفز معها، كانت قفزة في الفراغ ابتلعتهما. فعندما وصلا بلاد الثلج، وعى زوجها حجم الفجيعة التي وقعت، وهي أيضًا علمت أن حياتها انزلقت من تحت سيطرتها بلا رجعة، وأن زوجها تحول إلى رجل حزين لم يعد باستطاعته حمل الوعود، ولا إطعام سنونوته النعسة بعد الآن، علمت تاريخ هزيمتها، عندما قررت البلهاء التي كانتها أن تغادر البلد الأم.
عاقبتها الحياة عندما سخرت من الأوطان، من العقل الجمعي، من رنين الأغاني، من روائح البخور والبن المحمص والرطوبة المعتمة لبيت الدرج، وغبار الخريف الجافة، ومن المعنى الفج لتلك الكلمة الممسوخة "الوطن"، فسافرت دون قلق، ودون اعتبار لذاك الوحش الذي يدعى غربة، لم تفهم معنى المنفى، ولا رعب الاغتراب، اعتقدت أنها تشربت صور البلاد في وجدانها، وتستطيع أن تعيش خارج المكان، فعند الضرورة تستطيع تخليق ما تفتقد من الذاكرة، تستطيع بسهولة اندلاق الماء عجن الواقع وسكبه ألوانًا وحجومًا. لذا لم يقلقها أبدًا أن قدراتها على صياغة عالمها قد يمسه مكروه، فسحبت حبيبها وحملا حقائبهما وطفلين ورموا ذواتهم في الصقيع. لكنه كان صقيعًا حقيقًا هذه المرة، كاد أن يفقدها حياتها، أرادت أن تعتذر من حبيبها الذي كان زوجها، بينما أرادها الحبيب أن تعود للحياة، أراد أن يغرقها بالوعود كما كان يفعل، خسارتها لامست عمق وجدانه، كانت سنونوته النعسة وعليه بدأب راهب، وإيمان خطّاء أن يجرها للحياة، فتواصل مع عشرات من أصحاب الغاليريات في مدينتهم، زار المراكز الثقافية الخاصة بالمهاجرين وترك رقم هاتفها علهم يتصلون، أسس للوحاتها موقعًا إلكترونيًا، صوّر لها كل تعليق إيجابي من متابع وبعثه كإشارات كونية، أرسل مئات الإيميلات للغيب، جرها لتختبر الألوان ولو سرًا، ترك رسائل للكون، تشبه رسائل الغرقى في محيط ممتد، واليوم بعد مرور أشهر كثيرة تلقى نتيجة تعبه، وصلته رسالة فيها وعد، صاحب الغاليري الذي طالما وقفت غوى أمام واجهته حالمة بأن تعرض لوحاتها هناك، وافق على لقائها. اليوم وجد الرد ملقىً بسهولة في بريده الالكتروني، كأنه لم ينتظره لأشهر، كأنه لم يسعَ له، ولم يكتبه مرارًا في خياله، وصل الرد هكذا باعتيادية كل الأفعال، كأنه غير قصدي، بينما كل ما في حياتهما هو وغوى كان قصديًا، هي الحياة القصدية ذاتها التي رآها تنبض في روح زوجته وهي منبطحة على أرض الغرفة، بعريها الكامل كي تنهي قراءة الرسالة، بينما راقب انبعاث الرغبة في جسدها عندما استُثيرت كفهدة وانقضت عليه، مارسا الحياة مرة ثانية في ضوء مشع، عندما أحست أنه عاد ليخبئ لها الفرح في جيب قميصه الخفي، وأحس أنها عادت سنونوة تنقر الوعود عن يديه.
مونتريال 2020
اقرأ/ي أيضًا: