لا شكّ أنّ الثورة إحدى إفرازات تراكمات حيز من الزمن لا يهمّ طوله بقدر ما تهمّ أهليّته، وبقطع النظر عن السياقات الظرفيّة الجانبيّة، يمكن اعتبار فعل "الانتفاض في زمن الخضوع" استثناء في حدّ ذاته، بل لعلّ الصدمة والمفاجأة التي يكشف عنها تعطيه أكثر من ذلك إذا امتد إلى ما يتجاوز حدود الجغرافيا.
"الشعب يريد" و"ارحل" و"يسقط النظام" شعارات أيقظت ماردًا ما كان ينتظر من قبل أن يستفيق في زمن تتجه فيه كلّ الأمور إلى الاستقرار بفعل "توازنات الرعب" التي تسيطر على الحركة والتفكير معًا، وتنتج تبعًا لذلك حالة من الركود المزدوج الذي لا يخدم في الغالب غير الأقوى وهو النظام، لولا ذلك الاستثناء المرعب الذي ظهر فجأة إلى السطح.
غابت سيدي بوزيد وسط الزحام ولم تعد أكثر من واجهة لصورة يلتقطها مصور في لحظة يبحث فيها الساسة عن مشروعيتهم
بإقليم الوسط الغربي للبلاد التونسية المتواجد بمنطقة السباسب وبمناخ شبه جاف، المعدل السنوي لتساقط الأمطار بين 200مم و300 مم في السنة، وعلى مساحة 5027 كلم مربع وبتعداد سكني يفوق 429 ألف نسمة وبطابع ريفي خاص ومهم، سكان الريف 50.7 % من مجموع السكان، تنتصب شرارة الثورة سيدي بوزيد متحدية جغرافيا التاريخ وجغرافيا السياسة معًا.
من هذه المدينة انطلقت شرارة إسقاط النظام العربي الرسمي وأضاءت أمل كل شعوب العالم في تحويل القطرات المتساقطة التي يمنّ عليهم بها النظام الرأسمالي إلى سيول، تعم من يتحكمون في منابع خيراتهم ويتمتعون بالسيادة على ثرواتهم. وارتفعت صرخة "الشعب يريد" مترددة في كل أنحاء المعمورة، الأطراف تثور على المركز وتسعى لاسترداد حكم القانون من الذين جاروا وزوّروا وقتلوا وهمّشوا بالقانون.
وفي كل هذا وبينما رجع صدى 17 كانون الأول/ديسمبر يصم الأذان ووقعها يهزّ مدنًا ودولاً من تونس إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا وغيرها، حتّى وصل دولا غربيّة. وصل صدى ما حدث فجأة في عالم عربي انطلق من بلدة قاحلة في بلد صغير تسمّى سيدي بوزيد، أحرق فيها باحث عن كرامته نفسه أمام مبنى النظام المركزي الذي لا يلتفت إلاّ إلى أعلاه تاركًا الأسفل يغرق.
كلّ التحاليل والقراءات والأحداث التي لحقت سيدي بوزيد كانت بنفس النفس، ضحايا النظام ضدّ النظام، إنّه الهامش ينتفض بعيدًا عن كرّاسات القديم المتجدّد الذي صار جاثمًا على صدور مجالات واسعة طبقيًا واجتماعيًا، وهي التي ظلّت خارج "السياق الوطني" لسنوات. فالقواحل والسواحل في تونس بينها فروقات تتجاوز العقود من الزمن دون أدنى ملاحظة لخلل التوازن الذي ينتج الحقد والغيظ أولاً بسبب الحيف والفساد ويزيده الاستبداد توهجًا ليتحوّل إلى ثورة.
بين القواحل والسواحل في تونس فروقات شاسعة دون أدنى ملاحظة لخلل التوازن الذي ينتج الحقد ويزيده الاستبداد توهجًا ليتحوّل إلى ثورة
خمس سنوات منذ إحراق البوعزيزي نفسه أمام مبنى محافظة سيدي بوزيد، لكن المشهد لم يتغير كثيرًا، عربات بائعي الخضار المتجوّلين والمقهى الشعبي المقابل للباب الرئيسي لمدخل مبنى المحافظة كلّها لاتزال كما هي، فقط تغيّر لون الجدار الخارجي للمبنى الحكومي وقامت السلطات بفسخ شعارات أطلس 17 ديسمبر المتوهّجة وجدّدوا الرصيف، وغير بعيد عنه ينتصب مجسّم لعربة البوعزيزي لم يعد يجلب نظر الزوّار كسابق عهده، وصورته العملاقة المتدلّية على حائط كبير في الجوار تختزن الكثير من الرسائل بعضها يتجاوز الحدود بعد تجاوز الأضلاع.
في وسط الزحام غابت سيدي بوزيد وغاب الحديث عنها مثل شقيقاتها ولم تعد أكثر من واجهة لصورة يلتقطها مصور محترف للسياسة لحظة يبحثون لهم عن مشروعية، ثم يتم اخفاؤها حال مرور اللحظة تلك. يقول الأمين البوعزيزي، الناشط الاجتماعي والباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية، لـ"الترا صوت"، "إن المدينة تحتفظ حتى هذه الأيام بواجهات شوارعها تخلد "شعارات 17 ديسمبر" تحت حراسة شباب الثورة، رفضًا لطمس الذاكرة وتخليدًا لملحمة اكتساح الفضاء العام وفرض سيادة مواطنيه عليه بعد طول تأميم سلطوي، وتذكيرًا لأيّ مسؤول أن إرادة شعبية اكتسحت الشوارع، لكنها لم تستطع اقتحام جدران الإدارة التي يحتلها الفساد والاستبداد".
ويضيف مسترجعًا أنفاس وشعارات لحظات استثنائيّة "شباب ثار، وقوده ذاكرة مجروحة لآباء وأجداد كان لهم دور بارز في قيادة معارك التحرر الوطني وتمّ تهميشهم ساعة الحصاد، ليجدوا أنفسهم في نفس الوضعية والمآلات، حتى أنّ مطالبهم حتى اليوم يكاد يطغى فيها المعنوي على المادي، إذ أن المطلب الرئيس هو تمسكهم بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر عوضًا عن 14 كانون الثاني/يناير تأريخًا للثورة، إذ أحسوا أن الالتفاف على تضحياتهم بدأ يوم تمّ غبنهم معنويًا بالتنكر لتضحياتهم على مدار نصف شهر لمّا كانت المعارك تدور رحاها داخل مركز المحافظة وبلداتها، قبل أن يتوسع أطلس الثورة نحو الولايات المجاورة فالبعيدة وصولًا إلى العاصمة وفرار الطاغية".
إنه مشهد سياسي مختلف حد الخلاف، لكن خيطًا ناظمًا يشقه وهو ضرورة إنصاف جهة سيدي بوزيد من تهميش طال، تغيرت الحكومات لكن الإقصاء متواصل، فلا الوضعية العقارية التي تحول دون التنمية تمّت حلحلتها، ولا تركيز إدارات قادرة على اتخاذ القرار تمّ تركيزها بالمحافظة أسوة بباقي الجهات.
ويقول عبد السلام خليفي، أحد الوجوه الشبابيّة التي كانت في الصفوف الأولى للثورة، لـ"الترا صوت" مستذكرًا تلك الأيام: "كانت هناك مطالب مشروعة وحضارية، كان هناك شعار يجمع الجميع:"شغل، حرية، كرامة وطنية"، كانوا يرددونه بين الحين والآخر بعد إغلاق الطرقات والمؤسسات العمومية أما اليوم، لم يتحقق شيء مما رفع من مطالب أيام الثورة، لم تتحقق الوعود الكثيرة، لم تنبت الأزهار في قلب الصحراء، ترى الوجوه شاحبة ولا ترى رغبة في الحديث".
ويستدرك الخليفي "ولكن ما يطمئن هو وجود ثلة من المثقفين، منهم من رابط على موقفه ومنهم من أخذته العزة بالنفس فوجد نفسه على شفا حفرة، ومنهم من حاد عن طريق الثورة فتقاذفته أمواج متلاطمة من الانتهازية والدوس على الكرامة، فبدؤوا اليوم يعيدون تجميع كلمتهم من أجل بناء جبهة حقيقية يكون لها تأثيرها في إعادة الأمل لشباب الثورة".
غير بعيد، يرابط الناشط الاجتماعي والنقابي في سلك التعليم محجوب النصيبي وهو من أوّل رافعي شعارات إسقاط النظام يترصّد أي عودة للمنظومة القديمة وكلّ محاولات الالتفاف على مطالب ساكنة الجهة ويقول متحسرًا "نفس المربّع الأمني والمالي والإعلامي والجهوي صادر مجدّدًا شعارات الثورة وعاد في أشكال منها الجديد ومنها القديم".
قد تبدو الصورة وكأن انقلابًا حدث على مسار 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 فمحافظة سيدي بوزيد لطالما تم اعتبارها نقطة توتر وإرهاب وتهريب طيلة عقود، وحلم شبابها كثيرًا بتغيير الوضعية، لكن ها هي بعد خمس سنوات تتم معاملتها بنفس السردية التحقيرية، وها هي صورة المحافظة وصورة شبابها يعاد تسويقها بنفس الصورة وأكثر قتامة، ورغم أن الاعتمادات المالية التي تمّ رصدها للمجلس الجهوي للمحافظة تضاعفت بشكل كبير جدًا مقارنة بما قبل الثورة.
لكن البيروقراطية التي تخرّب الإدارات حالت دون تقدم إنجاز المشاريع مما خلف مرارة لدى السكان وعودة أجواء التشاؤم واليأس والعودة إلى خيار التذلل لقضاء مصالحهم بعد حلم استفاقة المواطنة والحقوق والواجبات، لكن نفوس الشبيبة "ما زالت تغلي كالمرجل استعدادًا لجولات مواجهة قادمة بعد اكتساب خبرات مضافة في المقاومة المدنية، والفرز السياسي الذي جعلهم يكفرون بأحزاب لطالما اعتبروها البديل عن تجمع الفاسدين والمستبدين"، هكذا يقول الأمين البوعزيزي.