يعتبر المخرج المصري رأفت الميهي (1940-2015) واحدًا من أكثر صناع السينما العربية فرادة، ويلقبه النقاد بـ"رائد سينما الفانتازيا (الخيال)"، ولو أنها تسمية مضللة، إلا أنها معبرة عن اختلاف سينماه عن السينما "الواقعية" السائدة عربيًا، وهي مضللة لأن العمل الفانتازي شبه منقطع الصلة بالواقع، شيء شبيه بحكايات الغيلان الشعبية، وأفلام "ملك الخواتم Lord of the Rings"، بينما سينما الميهي وثيقة الصلة بالواقع، ولكنها تحرفه قليلًا، وتضيف عليه مسحة خيالية في صورة مبالغات كارتونية كاريكاتورية، وعناصر "رمزية" و"سريالية".
في فيلم "تفاحة" (1997)، يمزج الميهي الكوميديا الاجتماعية بالبعد الرمزي، ليناقش من خلال طرحه الاجتماعي الطبقية في المجتمع المصري
مراحل مسيرة رأفت الميهي في السينما:
بداية، انقسمت مسيرة رأفت الميهي في السينما إلى مرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى في السنوات (1967-1975) كان فيها كاتبًا لسيناريوهات أفلام لمخرجين آخرين، وأكثر مخرج تعاون معه خلال هذه الفترة هو كمال الشيخ الملقب بـ"هيتشكوك مصر" لاعتماد أفلامه على عنصر التشويق، في أفلام مثل "غروب وشروق" و"شيء في صدري" و"أين عقلي" و"على من نطلق الرصاص".
وهي أفلام تعتبر من درر السينما المصرية، وكانت معظم هذه الأفلام تميل إلى الواقعية والدرامية، وهما سمتان سيتخلى عنهما في المرحلة التالية من مسيرته، والتي أخصص هذا المقال للحديث عنها.
ويستوقفني من هذه المرحلة مشروع جريء قام به الميهي، فيلم "صور ممنوعة" (1972)، وهو عبارة عن فيلم مكون من ثلاث أفلام قصيرة، القاسم بينها أنها جميعها من كتابة الميهي، وإخراج مخرجين شباب في عملهم الأول تقريبًا، فهو يخبرنا عن مدى جرأة الميهي بتجريب شكل سينمائي جديد، ودعمه للشباب والوجوه الجديدة.
وهي سمات ستطبع مسيرته طوال حياته حتى آخر أيامه، كما أن دوره في صناعة الفيلم، الذي جعل الفيلم ينسب له مع أنه مجرد كاتب سيناريو، قد يمكن رؤيته إرهاصًا مبكرًا لرغبته في الانتقال للإخراج السينمائي.
وفي المرحلة الثانية في السنوات (1981- 2001) ينتقل رأفت الميهي وراء الكاميرا مخرجًا لسيناريوهات الأفلام التي يكتبها بنفسه، وإن كانت الحقبة الأولى رسخت مكانته ككاتب سيناريو متميز ومجتهد، فإن هذه الحقبة رسخت مكانته كصانع سينما فريد لا أحد يشبهه، حتى إن البعض يعتبره صاحب مدرسة سينمائية ليس فيها إلا رأفت الميهي، وهذه الفترة التي سأخصص لها هذا المقال.
تصنيف أفلام رأفت الميهي مخرجًا والفترة الإخراجية الأولى
يمكن تقسيم أفلام رأفت الميهي مخرجًا إلى تيارين:
الأول: الأفلام الدرامية الواقعية، ويشمل فيلمين فقط، "عيون لا تنام" (1981) عن مسرحية "رغبة تحت شجرة الدردار" للمسرحي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب يوجين أونيل، وهو فيلم قريب في بنيته من سينما الميهي عندما كان كاتبًا للسيناريو فقط.
اقرأ/ي أيضًا: 10 أفلام تذكرك بالتاريخ الذهبي للزعيم عادل إمام
والفيلم الآخر "للحب قصة أخيرة" (1986) الذي يعتبر حسب موقعه في قائمة "أفضل 100 فيلم مصري" -التي وضعت في مهرجان القاهرة سنة 1996- أفضل فيلم لرأفت الميهي مخرجًا، وستتجلى الأساليب "الرمزية Symbolism" بوضوح في هذا الفيلم، وهي أساليب سيكثر الميهي من استخدامها في أفلامه اللاحقة.
أما التيار الثاني فهو تيار الأفلام الكوميدية، وهذا بدوره ينقسم إلى ثلاثة أساليب رئيسية: الأول الأسلوب الكارتوني (أو الكاريكاتوري)، وهو أسلوب يعتمد على المبالغة في تصرفات الشخصيات والعالم الذي تعيش فيه، بشكل يجعلها شبيهة بأفلام الكارتون "توم وجيري" و"تايني تون"، وأهم أفلام هذا الأسلوب "الأفوكاتو" (1983)، أول أفلام الميهي الكوميدية، وأهم فيلم في مسيرته من وجهة نظري، لأنه البداية الحقيقية لصفحة جديدة عنوانها الإبداع والتجديد في الأسلوب، والجرأة في الرسالة المطروحة، التي عادة ما تناقش تابوهات سياسية أو دينية.
والأسلوب الثاني: الكوميديا الاجتماعية، وأهم الأفلام التي تعبر عنه "السادة الرجال" (1987) و"سيداتي آنساتي" (1989)، وتتميز هذه الأفلام بالكلاسيكية في أسلوب الطرح، والكوميديا القائمة على المفارقات، التي تتسبب بها مواقف حبكة الفيلم نفسها –وليس المبالغة الكارتونية- وعادة ما تكون هذه الحبكة واقعية التطور والبناء، ولكنها قائمة على فرض غريب وخيالي، مثل تحول الزوجة إلى رجل في الفيلم الأول، واتفاق أربع صديقات على الزواج من رجل واحد في الفيلم الثاني، وتناقش هذه الأفلام قضاياها بوضوح، إذ أنها قضايا اجتماعية بعيدة عن التابوهات الكبرى، ولا حاجة للمبالغة في المواربة والترميز في تناولها.
وأما الأسلوب الثالث الكوميديا السريالية، وأهم أفلامه "سمك لبن تمر هندي" (1988)، أكثر أفلام الميهي جموحًا في الخيال والتفكك. و"السريالية Surrealism" لمن لا يعرفها حركة فنية تهدف لخلق أعمال مشابهة في فوضاها لفوضى الأحلام والعقل الباطن، وبعض تقنياتها في ذلك تحوير الأشياء المعتادة، وعنصر المفاجأة واللامنطقية، وجمع أشياء لا تجتمع سوية، وغياب العقدة في الحبكة.
فيلم "للحب قصة أخيرة" في قائمة "أفضل 100 فيلم مصري"، هو من أفضل أفلام رأفت الميهي، وتتجلى الأساليب الرمزية بوضوح في هذا الفيلم
وهذه الأمور واضحة في الفيلم بدءًا من عنوانه "سمك لبن تمر هندي"، الذي يشير إلى جمع ثلاثة أشياء لا تجتمع على مائدة واحدة، مرورًا بحبكة الفيلم اللامنطقية التي تتحدث عن أن الإنتربول الدولي، يتخذ من أحد مستشفيات القاهرة مقرًا لغسيل دماغ الإرهابيين وتطهيرهم، وتحوير صورة الأطباء إلى صورة جزارين معدومي القلب، وجزء من الحكومة، انتهاء بطغيان اللون الأبيض على كادرات الفيلم، مما يشعرنا بأننا في حلم أو في البرزخ، وغير ذلك من خصائص السريالية.
الوقفات في مسيرة رأفت الميهي والفترة الإخراجية الثانية
وكما يقال إننا نتكلم في الصمت، كذلك صمت الفنان يعبر عنه وعن مشروعه، كما تعبر أعماله تمامًا، ومنذ فيلم رأفت الميهي الأول ككاتب سيناريو "جفت الأمطار" (1967)، وهو يعمل على فيلم بشكل شبه سنوي، ولم يتوقف عن العمل أكثر من ثلاث سنوات، إلا ثلاث مرات، الأولى في السنوات (1976-1981)، في وقفة فصلت بين مرحلتي مسيرته، ككاتب سيناريو ثم كمخرج، وتفرغ فيها لدراسة أساسيات الإخراج، تمهيدًا لبدء مرحلة الثانية في مسيرته.
والمرة الثانية في السنوات (1990-1995)، في منتصف مسيرته الإخراجية تقريبًا، وبعد أن قدم ستة أفلام كمخرج، وهي بالترتيب: "عيون لا تنام" (1981)، "الأفوكاتو" (1983)، "للحب قصة أخيرة" (1986)، السادة الرجال" (1987)، "سمك لبن تمر هندي" (1988)، "سيداتي آنساتي" (1989)، وجميعها أتيت على ذكرها في هذا المقال في الجزئية السابقة عن تصنيف أفلام الميهي، وحقيقة لم أعثر في المصادر عن سبب توقفه عن العمل خلال هذه السنوات، هل هو وقفة لإعادة تقييم مساره كمخرج، أو قفلة كاتب Writer Block، أو تحضير لفيلم "قليل من الحب كثير من العنف" (1995) الذي سيعود به، أو مشاكل إنتاجية.
ولكن من مشاهدتي لأفلام الميهي، وتأملي لها، أميل إلى أنه توقف ليعيد تقييم مسيرته كمخرج، فالأفلام الستة الأولى له مخرجًا، كان كل فيلم فيها تقريبًا ينتمي لمدرسة وأسلوب خاص. وهو أمر من الصعب على أي مخرج تكراره مدى حياته، وبالمقابل شخص بعقلية الميهي يرفض بالطبع أن يجتر أفلامه السابقة، ويقدم المزيد من الشيء نفسه، ولذلك كانت هذه الوقفة حسب ظني، والتي نتج عنها الفترة الثانية من مسيرته كمخرج.
وإن كانت السمة السائدة في الفترة الأولى من سينماه كمخرج هي تجريب أنواع سينمائية جديدة عليه، فإن السمة السائدة في الفترة الثانية هي مزج الأنواع التي جربها في الفترة الأولى، بشكل قد يبدو فيه الميهي كمن يلعب ويعبث بالأساليب السينمائية والفنية التي أتقنها.
اقرأ/ي أيضًا: أكثر الشخصيات تناقضًا تتحالف في الأفلام.. كيف يصنع الكتاب ذلك؟
ويتضح هذا من أول أفلام هذه المرحلة "قليل من الحب كثير من العنف" -وهو الفيلم الوحيد الذي لم أشاهده للميهي لأني لم أعثر عليه للأسف- ويقول عنه الكاتب عمرو شاهين في مقاله "رأفت الميهي.. ليه؟" على موقع المولد:
"في هذا الفيلم الميهي يقدم درسًا في كتابة السيناريو بأكثر من طريقة، كيف تكتب سيناريو سريالي، وكيف تكتب سيناريو واقعي، وكيف تحول الشخصيات الواقعية لشخصيات سريالية، وكيف تقوم بالعكس، ولكن ليس هذا فقط.
الميهي في (قليل من الحب كثير من العنف) يقدما تجربة لم يسبقه إليها أحد، كيف تقدم ثلاث حبكات لنفس الفكرة في فيلم واحد، حبكة واقعية وحبكة سريالية وتخلق حبكة ثالثة للربط بين الحبكتين، تلك التجربة السينمائية لم أشاهدها مطلقًا إلا في سينما الميهي وفي فيلم (قليل من الحب كثير من العنف)".
والجدير بالذكر هنا، أن هذا الفيلم مبني على رواية تحمل ذات الاسم للروائي المصري فتحي غانم، وهي رواية كلاسيكية في بنائها، ولا تحمل أي تقنيات سريالية، فهل كان اختيار الميهي العودة بفيلم مقتبس عن عمل أدبي، وهو أمر قلما فعله، دافعه رغبته في التركيز على تجربته في مزج الأساليب الفنية، والتي سترسم سينماه التالية، عوضًا عن تشتيت نفسه في بناء شخصيات وحبكة من العدم، ثم محاولة تجريب مزج الأساليب فيها؟
أفلام مثل "السادة الرجال" و"سيداتي آنساتي" تتميز بالكلاسيكية في أسلوب الطرح، والكوميديا القائمة على المفارقات
ويتتابع هذا المزج في بقية أفلام رأفت الميهي حتى نهاية مسيرته، فمثلًا في فيلم "مية فل" (1996)، يبدأ الفيلم كفيلم كوميدي اجتماعي بنفس إيقاع فيلم "السادة الرجال"، وبفرض غريب وهو "ماذا لو كان بمقدور الأبناء اختيار آبائهم؟"، ومع تقدم أحداث الفيلم يتبنى بطلة الفيلم رجل غريب الأطوار، تشعر أنه أحد شخصيات فيلم "الأفوكاتو"، ثم تتوالى أحداث الفيلم بين شخصيات غير متجانسة، بعضها واقعي البناء والتصرفات، وبعضها كاريكاتوري.
وفي فيلم "تفاحة" (1997)، يمزج الميهي الكوميديا الاجتماعية بالبعد الرمزي، ليناقش من خلال طرحه الاجتماعي الطبقية في المجتمع المصري، ومن خلال طرحه الرمزي يدس فكرة مفادها عدم جدوى انتظار المعجزة الإلهية لتغيير الواقع. وفي فيلم "ست الستات" (1998) يقوم الميهي بعكس ما قام به في "مية فل"، فيكون البطل هو الكاريكاتوري بينما من حوله واقعيون.
وفي آخر فيلمين له كمخرج، "علشان ربنا يحبك" (2000) و"شرم برم" (2001)، يبالغ الميهي في مزج أساليبه السينمائية، فنجد في كل منهما شخصيات واقعية وكاريكاتورية، وحبكة كوميدية اجتماعية صريحة تقوم على فرض غريب، وأخرى رمزية تعالج تابو الدين أو السياسة، ومشاهد سريالية تظهر في أجزاء متفرقة طوال الفيلم.
تناقصت جماهرية أفلام رأفت الميهي ورضا الموزعين والنقاد عنها تدريجيًا ابتداءً من فترته الإخراجية الثانية، وهذا على العكس من أفلام فترته الأولى التي حققت نجاحًا جماهيريًا ونقديًا ساحقًا.
وبلغ رفض الجمهور والنقاد لأفلام الميهي مداه في فيلم "علشان ربنا يحبك"، وهذا تسبب في رفض الموزعين عرض فيلمه الأخير "شرم برم"، الذي لم يعرض إلا بعد سنوات من إنتاجه، وعلى التلفزيون فقط، وهذا أدى إلى الوقفة الثالثة والأخيرة في مسيرة الميهي.
فيلم "صور ممنوعة" مكون من 3 أفلام قصيرة، القاسم بينها أنها جميعها من كتابة الميهي، وإخراج مخرجين شباب في عملهم الأول تقريبًا
ولو أردت أن أضيف سمات أخرى لفترة الميهي الإخراجية الثانية، إضافة إلى نزوعه للمزج في أفلامه، سأقول أنه أصبح مشغولًا بالأسلوب أكثر من الموضوع، بينما كان في فترته الأولى يهتم بهما بشكل متكافئ، وأيضًا أصبح يصنع أفلامًا لمتعته الشخصية وليس للجمهور العادي ولا حتى للنقاد، وهذا ظهر على شكل ضعف مستوى الكوميديا، وغياب المباشرة في طرح المواضيع.
حتى أنه يمكن أن ينتهي الفيلم دون أن تعرف ما هو موضوعه الرئيسي الذي كان يناقشه، إذ أن منبع المتعة في مشاهدة هذه الأفلام ليس نكاتها ولا رسالتها بالمقام الأول، بل في تفكيك أساليبها السردية والإخراجية، وهذا أمر ليس للجمهور العادي، بل يحتاج إلى متفرج يشبه الميهي في ذائقته وأفكاره وهمومه الفنية.
إن رأفت الميهي في أفلام فترته الثانية يلعب بالسينما، ويريدنا أن نلعب معه، ويتخذ لعبه شكلًا صريحًا أحيانًا، كقيامه بإعادة تصوير مشاهد من أفلام مصرية قديمة في أفلامه، مثل مشهد السحل من فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، ومشهد نهاية فيلم "شفيقة ومتولي" لعلي بدرخان، إذ حاكاهما في فيلميه "تفاحة" و"مية فل" على التوالي.
من وجهة نظري، إن أفلام فترة رأفت الميهي الإخراجية الأولى أكثر تماسكًا وتجانسًا ومتعة –باستثناء فيلم "سمك لبن تمر هندي" السريالي المعقد- أما أفلام فترته الثانية فالنقيض لذلك، ولكنها أكثر تعبيرًا عن الميهي وعقليته وسينماه، وكأن الميهي في أفلام الفترة الأولى لم يكن إلا يتدرب ويجرب ليصل للشكل السينمائي الذي بلوره في الفترة الثانية، ووصل ذروته في فيلمي "علشان ربنا يحبك" و"شرم برم".
اقرأ/ي أيضًا: المثلية الجنسية في السينما المغربية.. تابوهات تُطرح على استحياء
بصياغة أخرى، في الفترة الأولى كان يجرب الميهي مدارس سينمائية معروفة، مثل السريالية والرمزية، لكنه في الفترة الثانية سيخلق مدرسته "الميهية" الخاصة، وهذا أهم إنجاز قام به في مسيرته.
ومن الأفكار الشائعة المغلوطة عن أفلام الميهي أنها أفلام غير مفهومة وصعبة المتابعة، وهو أمر أراه غير حقيقي، فلا يحصل إلا في فيلم "سمك لبن تمر هندي" السريالي، وفيلمي "علشان ربنا يحبك" و"شرم برم" بدرجة أقل، أما بقية أفلامه –بما فيها أفلام الفترة الثانية- فسهلة المتابعة، وإن كانت رسالتها أحيانًا خفية.
الوقفة الأخيرة في مسيرة الميهي ونشاطاته بعيدًا عن الإخراج السينمائي
بدأت الوقفة الأخيرة في مسيرة الميهي السينمائية سنة (2002) واستمرت حتى وفاته (2015)، ويقول بنفسه عن هذه الوقفة في مقابلة مع مجلة آخر ساعة (25/5/2010):
"السنوات العشر السابقة كان يجب أن أقدم خلالها من خمسة إلى ستة أفلام، وحين أفاجأ بالمنتجين الذين كانوا يحلمون أن أخرج أو أكتب أفلامهم لا يقبلون علي أعمالي، ببساطة فوجئت أنني لست مطلوبًا في سوق السينما، وهم معذورون لأن السوق تغير، وأنا لو عملت فيلم ونجح سوف يطلبونني، لكنهم براجماتيون ولديهم حساباتهم".
بلغ رفض الجمهور والنقاد لأفلام الميهي مداه في فيلم "علشان ربنا يحبك"، وهذا تسبب في رفض الموزعين عرض فيلمه الأخير "شرم برم"
ويقول عن الموزعين في تلك الفترة: "لا أستطيع أن أجد نفسي معهم مثلما كان مع الشركات السابقة عليهم، لاختلاف كل منا في نظرته للسينما، فهم يرون الذوق السينمائي من خلال النجم لكني أنظر إلي الفيلم من خلال موضوعه". وحين سأله الصحافي أسامة صفار في ذات الحوار "ألا تستطيع أن تقدم السينما السائدة؟" رد: "لو كنت أستطيع لفعلت".
فانسحب رأفت الميهي من المشهد السينمائي، هو الذي رفض قبل سنوات تحكم المنتجين فيه، وكان ينتج معظم أفلامه بنفسه، بل دعم المخرج الشاب وقتها مجدي أحمد علي، وأنتج له أول أفلامه "يا دنيا يا غرامي" (1996)، ولكنه لم يستطع الصمود أمام تغول الموزعين تجاريي النظرة والحسابات، ليتفرغ لأكاديميته لتدريس فنون السينما، والتي أسسها في ستوديو جلال الشهير، الذي بناه المخرج أحمد جلال مع زوجته وبطلة أفلامه ماري كويني سنة (1947)، واستأجره الميهي ورممه سنة (2000) بعد أن كان مجرد أطلال، في تصرف يعكس مدى إيمانه بأهمية التعليم، ودعم الشباب، وإتاحة الفرصة لهم من جهة، وأهمية المحافظة على الآثار السينمائية المصرية من جهة أخرى، متحملًا في سبيل ذلك البيروقراطية القاتلة ووطأة الديون وقروض البنوك.
خلال هذه الوقفة الأخيرة عمل الميهي على مسلسل تلفزيوني هو الوحيد في مسيرته، مسلسل "وكالة عطية" (2009)، عن رواية للكاتب خيري شلبي تحمل ذات العنوان، وهي رواية تدور أحداثها في حواري مدينة دمنهور، ولها طابع فلسفي، وتعتبر من أهم الروايات المصرية، وأهم رواية لكاتبها، وكما فعل الميهي مع رواية "قليل من الحب كثير من العنف" لفتحي غانم حين أفلمها، غير الميهي كثيرًا في الرواية ليجعلها شبيهة بعوالمه.
استنزف العمل على المسلسل الكثير من وقت الميهي، إذ كتبه كاملًا بتروٍ قبل أكثر من سنة من بدء تصويره، ثم صوره طوال 13 شهرًا، وهذا يخبرنا أكثر عن مدى هوس الميهي بالإتقان، وعدم رضوخه لمتطلبات السوق والمنتجين، الذين لن يروا في عملية التصوير الطويلة إلا شغلًا للمعدات والعمال، ومزيدًا من المصاريف.
وكان يخطط الميهي للعمل على مسلسلين يتناول فيهما سيرتي لويس عوض وعبدالرحمن بدوي، فالأول مفكر وناقد مقارن وباحث في علوم اللغة العربية، والثاني أحد أشهر الفلاسفة العرب، كان وجوديًا في بداية حياته، قبل أن يتحول للدفاع عن الإسلام في آخرها.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تناولت السينما العربية شخصية المناضل؟
غير أن الميهي لم يمضي قدمًا في كلا العملين، لإداركه أن الناس ليست مستعدة لرؤية أعمال تلفزيونية عن مفكرين وفلاسفة، ولكن تفكيره في تقديم عمل عن هذين الشخصيتين دون بقية أعلام مصر، يخبرنا الكثير عن طريقة تفكير الميهي وروافده، ونوعية المواضيع التي تشغله، والتي كانت حاضرة في مواضيع أفلامه، وخاصة الرمزي منها.
وكان للميهي خلال هذه الفترة عدة مشاريع سينمائية مؤودة، منها "اعترافات زوجية" و"هورجادا: سحر العشق"، وكلاهما كان جاهزًا على الورق، ولا ينتظران إلا التصوير، بل إنه بدء فعلًا في تصوير الفيلم الثاني سنة (2010)، قبل يتوقف عن ذلك بسبب عزوف الموزعين عن دعم الفيلم، لقصته الحساسة التي تتمحور حول ضابط مسلم يحب فتاة مسيحية.
علاقة رأفت الميهي بالأدب ليست متأخرة، إذ إنه في الأساس خريج كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وكتب القصة القصيرة في شبابه
والشيء بالشيء يذكر، إن ذلك الفيلم مبني على رواية كتبها الميهي نفسه، حملت ذات العنوان، وهي مشروعه الروائي الثاني، إذ سبقها رواية "الجميلة حتمًا توافق" التي حملت صبغة صوفية لم نعتدها منه، وكلا الروايتين كتبهما خلال فترة توقفه الأخيرة عن السينما، وكأنه يفرغ شحنته الإبداعية، التي انقطع سبيلها إلى منصته الأثيرة، السينما.
وعلاقة الميهي بالأدب ليست متأخرة، إذ إنه في الأساس خريج كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وكتب القصة القصيرة في شبابه، وكان قرار توجه للسينما بسبب إحدى قصصه، التي تلقفها أحد كتاب المسلسلات الإذاعية، بعد أن قرأها منشورة في صحيفة ما، ففتن الميهي بسماع قصته على شكل سيناريو إذاعي، وقرر الالتحاق بمعهد السينما لتعلم كتابة السيناريو، وهذا ما كان.
اقرأ/ي أيضًا:
أفضل 10 أفلام كوميدية في تاريخ السينما وفقًا لاستبيان هيئة الإذاعة البريطانية