في النهار العشرين من الحجر الصحي، والعشرين بعد أعوام سبع وأحد عشر شهرًا شمسيًا، انتصر الشوق على القطيعة، الحرف على البياض، الكلام على الصمت، والطبيعة على المتحايلين عليها.
في النهار العشرين من الحجر الصحي العام، صحوت هكذا صدفة بلا كابوس. صفعتني شمس النافذة في الصباح، فنهضت أفكر بتقليم شجرة الأفكادو التي صارت بعمر الرابعة، أجهزها لنقلة من الصالون إلى الشرفة، لتشاطر الكائنات التي تحررت من حيّز البشري المتمادي في أرض الخليقة، أقلّمها احتفاء بعرس الشمس القادم، في صيف تفرد فيه فتنتها. وأنا أقلم الشجرة وأقصف عمر أوراقها المصفرة، كأن مفاصل أصابعي قد لانت، وتحررت من تردد الحجر الاجتماعي، واليأس من شرح فضائله، ومصائبه.
أضيف التراب للشجرة، أشم رائحة التراب المختلط بروث البقر القادم من الريف القريب، أشم رائحة "الفاخورة" التي كان اخوتي الكبار يصطحبوني للعمل فيها في عطلة الصيف، في "مناشر جوبر" بدمشق، كنت حينها في المرحلة الابتدائية والإعدادية. أذكر غوصي بالصلصال المرق، وأنا أنخله، أو أنقله لبراميل من "المصول"، رائحته قبل بيكاربونات الصوديوم ليست كما بعدها، تبقى رائحة الأخشاب والأوراق الخضراء أو اليابسة التي تساقطت فيه، أو نقلت إليه مع حجارة فرزت بحسب لونها، وجرى تحطيمها لتصير بحجم ثمرة الجوز.
أتأمل شجرة الأفوكادو وأنا أشرب قهوة الصباح، وأسأل نفسي، هل كنت سأعامل الفخار بتقدير لولا ذلك الفلسطيني المسيحي الذي سكن مخيم اليرموك، ونقل تلك الحرفة من بيت ساحور إلى دمشق، وهل سأرث من أمي "مزاجا" بيئيا يزاوج بين الأخضر ولون الفخار في أوان منتقاة، تأخذ شكل الهر، أو الوعل، حصان البوني، السمكة.. ولم آخذ عنها هوسها بالورود البلاستيكية والأغصان الخضر التي تزنّر فيها حوض المغسلة، أو جرة الغاز، وعيوب الدهان والخشب. ولا ولعها بتماثيل الميلاد والماعز و"بابا نويل" التي كان لها عزّها قبل غزو الصين لرفوف الباعة.
"تخيمي" الأول كان خلف الفرن، أسفل تلة من خشب السحاحير وبقايا خشب الحور، مشتراة من المناشر المجاورة أو سوق الهال المركزي القريب من "فاخورة الشوملي"، لم يكن وقتها هناك موبايلات أو فلاش ميموري، حتى الكاسيت كان ترفا في الفاخورة، وإن كانت لا تعمل أمامك خياران، الأول الاستماع لهاني شاكر على أمواج إذاعة لبنانية، كان مذيعها مشهورا وبليدا، يبقى صدى صوته الذي يخرّب استرسال الأغنية المذاعة بعبارته السخيفة يتردد، كانت الإذاعة تلك طفرة في أثير "سوريا الأسد"، حيث لا وسائل إعلام سوى الرسمية المقيتة، "معكن جوني من إذاعة ترايك، جوني جوني جوني!"، صوت المذيع وعبارته الممجوجة كان "أسديا" بحيث لم يترك أغنية بحالها، ولا صوتا إلا وركبه أو قطع استرساله. أو تلك الدعاية المتكررة لمهندس الصوت جورج، على الأثير يُسمع البلهاء مادحين اختياراته الموسيقية التافهة، أو العصابية الحزينة بعبارة: "أنا لما بسمع هالأغاني بعرف إنه جورج ع الهندسة".
الخيار الثاني خلف ذاك الفرن، الذي يتسع لحصان عربيّ، كان دندنة على إيقاع الحطب وطقطقته في الحفرة البرتقالية اللّاهبة، ورشف ألذّ شاي شربته يوما، صنع على مهل فوق الرماد أو على سطح الفرن القرميدي. حين كبرت قليلا صرت أدخن خلسة هناك، وأدندن مكتشفا صوتي، وأنا مرتاح أن لا أحد يستمع في الجوار البارد خلال ساعات ليل نوفمبر الطويلة، أو لا عاملا في المعامل المجاورة يعمل متأخرا في ليالي الصيف القائظ، أدندن على عسّ الحطب وأخي يصنع من جرار الفخار في الغرفة المجاورة "تحفا"، ويشتم جوني المذيع كل بضع دقائق.
أشد شجرة الأفكادو لعصى طويلة، كي تحافظ على انتصابها بشكل ثابت نحو الأعلى، وأجمع الأوراق التي انتزعتها، أذكر أن دخول مثيلاتها أو غصن أخضر في حفرة الفرن كان يتسبب بدخان لا يقل تأثيرًا عن قنابل الغاز المسيل للدموع، بضع وريقات وأنت محصور في تجويف خشبي من السحاحير والأغصان فوق حفرة النار سيدمعك ويعمي بصرك وأنت تهرب، وتدوس على مسامير أو خشب ناشب.
"ع الشوملي ع الشوملي" كنت أغني، مرة تلك التي غنتها فرقة العاشقين بألبوم لها في الثمانينيات، أو تلك التي حفظتها في فرقة "مورة" التابعة لجمعية الكشافة والمرشدات الفلسطينية، في منتصف التسعينيات.
كان الشوملي يأتي مساء أو ليلًا ليطمئن على سير العمل، وشوي الفخار في الفرن، بشوشا يسأل الشغيلة عن ما بين يدي كل منهم، وفيم يعملون؟ ثم يذهب سريعًا، وفي مواسم الأعياد المسيحية يكاد لم يمر على فاخورته مرة أثنائها، لكنه كان يدير مبيعاته ويتابع سير العمل يوميًا عبر الهاتف.
التقنيات محدودة في تلك الفاخورة، المهارة البشرية والأيدي الخبيرة هي ما كانت مهم، وهي رأس المال الحقيقي، أغلب الشغيلة كانوا فلسطينيون مسلمون، لا يتحدثون بالسياسة كما أذكر، لكنهم كانوا يمارسونها بعلاقتهم مع الشوملي من حيث ساعات العمل وشروطه. وفي أوقات فراغهم حين يشكلون خريطة فلسطين ويلونوها، هدايا لبيوتهم وأصدقائهم.
تشكيل الطين، تلك صنعة لها قدسية فهي فنّ الرب، شكّل آدم من طين، تقول كتب السماء. التحايل على شرعية الصنعة وفيما كانت حلالًا أم حرامًا، كان أساسيًا لدفع أجرة البيت، أو ثمن الخبز. لن تدفع السماء الفواتير، كان الشغيلة الفلسطينيون يعرفون ذلك، ويعلمون أن ما تتقنه أياديهم كان منحة من يد إلهية خالقة، لم تحرك ساكنًا حين دمرَت مدنهم وقراهم، وصاروا لاجئين.
شجرة الأفكادو التي نبتت من بذرة الثمرة التي أكلتها فيما سبق، أحلم بأني سأعيش لآكل من ثمارها أيضًا إن نجوت من الوباء، وأن شمس الشمال الناعسة لن تجهض إثمارها المنتظر، أنظر إليها بشك في ضمان وعودها، ومتيقن من أنني سأحميها ما استطعت، وما دمت حيًا، بغض النظر عن اليد المبّجلة بالغيم. ستنجو الشجرة من الوباء، وربما إن لم أنجُ، سيأكل طير من ثمارها أو غزال استرجع نطاقه المكانيّ.
أخي وائل، كان يتسمّر رأسه من شباك باص رحلة الاصطياف، إلى جرف انهار من غابة صنوبر في جبال اللاذقية، محاولًا تقدير نوعية الركام من حيث جودة اللون وحجم الحجارة، وتحديد الموقع بدقة في عصر لا يوجد فيه تقنية الأقمار الصناعية. لافتة طرقية كافية، مفرق درب، قرية أو معلم مجاور، ورأس صاحٍ ولا طبلة بيده أو موّال على اللسان.
علّمني أخي كيف أفرز الحجارة البيض، تلك التي تحوي أقل عروق من الحديد أو المعادن البنيّة، البيضاء تصير صلصالًا غاية في الخفّة والمتانة، ومنها يصنع البورسلان الفاخر، أما الحديدية والمعادن الملونة فتصير أواني للزراعة والمطبخ، تحفًا فنيّة ثقيلة الوزن. تلقى الحجارة في مصول الطين المملوء بالماء يتحرك فيه مع الحجارة والتراب بشفرات كخلاط عملاق، إلى أن يلين الخليط ويتنهنه الحجر، ثم تلقى البيكاربونات بعد تذويبها بالماء، ليساهم في تحلل الخليط.
ينخل الطين السائل على دفعات، ليصير خليطًا يشبه عجينة القطايف، ثم يعبَأُ كل قالب جصيّ، بعد شده لبعضه وربطه بمطاط عبارة عن الدولاب الجوّاني للعجلة الهوائية، أو عجلات السيارات المقصوصة لحلقات سود. لم أكن أحب تلك المهمة لأنها تحتاج لعضلات لم أمتلكها يومًا، كنت بسرور أسد بالطين منافذ تسربات محتملة قبل أن يصبّ الصلصال السائل في القالب المفلوق إلى قسمين أو ثلاثة، ونادرًا ما أخطأت بالتوقيت والمزامنة بين سد الثغور وجفاف الطين المستخدم لذلك مع سكب السائل المتدرج اللون من كاكاو إلى قهوة بالحليب أحيانًا، بحسب نسبة الحديد. كنت أتبع الإجراء الزمني بكفائة، بخفة أملأ القوالب الجاهزة، وأظل أزيد الكمية كلما شرب القالب الجصي الماء من الطين وأنْقَصه، حتى تحصل السماكة المطلوبة رويدًا رويدًا ريثما أرتشف كأس شاي خمير. ولم أكن ماهرًا في إخراج القطع من القوالب بعد إفراغها وجفاف الطين للحد المطلوب، تلك مهمة المتمرسين. بعد تشذيبها وقص الزوائد، كانت القطع تأتي إلي لأنعمها بالماء وقطعة الإسفنج أو لـ "أسنفرها"، لتصير "أنعم من فخذ حبيبتي" كما كان يعلمني أخي. لكن في وقتها لم يكن لي حبيبة بعد. صرت أدرب نفسي على ملمس فخذ الحبيبة وأنا أملس منقار البطة أو قرن الوعل، صار عندي حبيبة أشكلها في رأسي بطين أشمه، ولكنه لا يحيى إن نفخت فيه. كنت دائم الشك بحبيبة الصلصال، متخاصمًا معها، وأظن أن مهندس الإذاعة جورج والمذيع جوني بخياراتهما قد ساهما بعلاقتي المضطربة مع حبيبتي، بعد أن أدخلا جوقة من المغنين المصريين واللبنانيين عنوة إلى رأسي ولاحقت كلمات أغنياتهم مسامعي. كانت أحيانًا لطمية هاني شاكر "سيبتيني ليه؟" تتسبب في فقداني للمهارة اليدوية وتعاملي بخشونة مع فخذ حبيبتي، الذي ربما يصادف أن يكون من أغلى وأثمن ما كنا نصنع، كذيل حصان البوني القزم، أو رقبة البجعة الكبيرة، التي لم أرها حية تسبح وتزعق إلا في شمال أوروبا.
بعد وباء الأسد السفّاح، الذي أجرى في سوريا نهرين من دم ودمع، لم أعد أطيق لحنًا حزينًا، أو نواحًا ينشد في الأثير، فتكتئب أشجاري ونباتاتي.
اللاجئون الذين يزرعون الأشجار في منافيهم، القريبة من بلادهم أو البعيدة، ويعتنون بها في زمن احتلال البلاد، يستحقون وطنًا حرًا.
أفرد فوق تربة الأفكادو حصى الآجر الحمراء، أرصفها بكفي بعناية وحرص لا لتحميها من الوباء، بل لتضبط توزع الماء وتحفظ حرارة الجذور. لا موسمًا أهدي به حبيبتي الورود ولا أعياد، تلك صدف الحب والرغبة، أتركها على توقيت القمر.
هل يصاب الحب بالمرض؟ أهناك وباء قادر أن ينهيه؟
في عيد الحب، يصير كل شيء أحمر في فاخورة الشوملي، أسنان رجل التلوين بعد أن يسحب من سيجارة تلطخت بأصابعه الغارقة بالدهان، الحائط الذي يجرب اللون عليه من فرد التلوين العامل بضغط الهواء، كل ما يخرج من الفرن، البضائع الطينية المركونة لحين الجفاف بانتظار "السنفرة" والشواء؛ وتلك تتلطخ بالأحمر من الأيادي والرفوف التي تستخدم لنقل البضائع الجاهزة، التي تلتمع بأحمر العشاق. حتى جوني وجورج وإذاعة "ترايك" لديهم حبا يبيعونه كما في فاخورة "الشوملي"، أو حيثما عمل أخي وائل بالفخار لاحقا. كانت الإذاعة تعد شريطي كاسيت بمناسبة "عيد الحب"، بدون صوتيّ جوني وجورج. الشريطان لا يغني هاني شاكر أو راغب علامة وإيهاب توفيق فيهما فلا جدوى تسويقية لنواح في "عيد الحب". ربما كانت شرائط "الفالانتاين" تحوي أغان فرنسية رومانسية، لا يفهمها اللاجئون، لكنهم لا يمانعون من الرقص والتقبيل على أنغامها.
كل ما يمكن أن يدخل الفرن أو خرج منه يصير لونه أحمر، يجمع كل ما يمكن أن يباع من الأسطح المهملة، والزوايا الرطبة، يرمم ما يمكن ترميمه، حتى ولو كان حذاء فخاريًا عتيقًا، المهم أن لونه أحمر، أو يتزين بوردة حمراء أو فرو، كيفما اتفقت الميزانية. لم يكن في السابق يمكن تصور حدوث هذا، أي أن يصير للحب عيدًا و"موسمًا" يمكن تحصيل أرباح لا بأس بها فيه.
الفرن لا يميّز بين طينة وأخرى، فرن الفخار ليس عنصريًا، كنت ألقي خشب السحاحير رويدًا رويدًا، على الفرن كي يسخن بالتدريج، وإلا عملت الفيزياء على تدمير تعب الشغيلة، ثروة الشوملي، فرح البيوت وقدسية الأعياد. لم ينفخ ربنا -كما تقول الكتب- نفخة ساخنة لدرجة تحول فيها آدم إلى زجاج، بعد انصهار الطين ومعادنه فيه، نفخ ما يقتضي لأن يشهق أبو البشر، لا لأن يصير تحفة على رف الخلود.
حين تنتهي مرحلة التسخين، وترتفع حرارة الفرن إلى الدرجة المطلوبة، وكذا ما في بطنه، يأتي دور الحرّاق الذي يشتعل بالديزل، رائحته كانت تفلق رأسي، صوته يرج الدم المعطوب في عروقي، وناره حوَّلت بتأججها المتكرر حفرة مدخل الآجر إلى زجاج ملوّن يشبه زجاج الكنائس، لكنه لم يفضِ إلى جنة، كان يفضي لفرن يتحول بالكامل إلى جمرة متحدة، إن نظرت من المكان المخصص وبحذر دون أن يدخل نسيم بارد ينطلق كرصاص بندقية محطمًا "البضاعة"، سترى كيف تتوهج الوعول والبط والهررة بنار برتقالية تكاد تنفخ فيها الروح.
حين يشوى الفخار، يشقّ الفرن بالتدريج، كما تشعل ناره، وإلا كما سبق، تضيع أرزاق الشوملي وعرق الشغيلة، حين تبرد القطع لدرجة يمكن لليد المنتظرة أن تتعامل معها، تسنفر للمرة الأخيرة، ثم تلون إن كان مفترضًا ذلك، وتجهّز لتنقل إلى المشتري.
الوباء لا يفهم الفن، ولا يهوى البستنة. لم يقرأ في كتب قصص السماء، فلا هي له، ولا هو بناظر صوبها. الوباء أرضي يرسم حدوده بشريط أصفر لاصق، لا بخط في رمل أو سيرورة في صفحات. الوباء لا فضيلة له يتبعها ولا شرَ يبشر فيه، لا يعنيه ما الفرق بين فرن "الشوملي" وفرن أدولف هتلر، وكيف أن فرن الأول جعل للثاني فرنًا في مكان لجوئه. كلنا في نظر الوباء نحمل ملمح السردين، من ذا يفرّق فرخًا عن آخر؟
اقرأ/ي أيضًا: