كل أولئك الذين تجمعني بهم صداقة حميمة لم يسبروا أغوار شوقي إليكِ، ربما لأنكِ الماضي وأنا أصبحت أسير لهذا النوع من النوستالجيا. اعتدنا أن نفكر في المستحيل بشكل يستحيل على العقلاء تخيله! مصهرون نحن في البؤس والشقاء كما لو أننا خلقنا في زمن الأولين، نستر حماقاتنا بأوراق الشجر، نتحايل على الطبيعة كي تمنحنا قليلًا من الدفء والطمأنينة والهدوء بدلًا من غابة العواء التي تنبح بداخلنا.
*
مسرفون نحن في التفكير بأنفسنا أكثر من في أي شيء آخر، هل هذا ما يسمونه حب النفس؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا كان القدسيون يحثوننا دومًا على إيثار الغير عن النفس، وأن للفاعلين منا مفازًا حدائق وأعنابًا، ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة ونعيم خالد!
نحن فطرنا على حب الذات، ولهذا أحببتكِ أنتِ. فصارت روحي عاريةً من أي رداءٍ يسترُ شوقها، حتى إذا طارت صارت فراشةً وصرتِ رحيقًا، صارت ريحًا وصرت مطرًا، صارت سماء وصرتِ كوكبًا.
لو لم يحدثونا عن حرمة الملذات لكنت صنعت من لعابكِ خمرًا، واحتفظت بمنديل مطبوع بحواف شفتيكِ العريضتين، حتى إذا مسحتُ به وجعي صار المنديل مرهمًا. كنت خبئت تعرق يديكِ في زجاجة عطري، حتى إذا دُعيتُ إلى حفلةٍ خاصة أسكنتك في مسامات عنقي، فإذا جاءت إحداهن لمشاركتي رقصة التانجو، نفرت واشمأزت وخلفتني أنفث دخان الضجر وحدي.
*
أنا أعرف مسبقًا أنهم سيقولون إنني مجنون، وأن ثمة رجلًا يشبهني أجّرَ قلبه لكل اللواتي التقينه صدفة أو على موعدٍ، وأنني ما زلتُ واقعًا تحت تأثير صدمة الغياب وأن حضور أمرأه أخرى إلى سريري سيمحو خطايا الحب الأول العبقة في الملايات البيضاء. أعرف مسبقًا كل هذا، ولا يهمني أن أنعت بصفة الجنون، لطالما كنت متيقنًا أن الله آتاني الحكمة حينما أحببتكِ.
ليس شرطًا أن أكون قد مثلت في مسرح الجريمة، حتى تثبت التهمة في حقي بأني قاتل. ثمة عاشق لم يرى الشمس منذ زمن مثلي تمامًا، لم يرتكب جرمًا لكنه صدر بحقه حكما بالإعدام، لأنه لم يقدم أوراق براءته الكافية، وخذله محاموه. كل الأدلة كانت ضده، الهدايا، وصناديق البريد، وأقلام الروج الحمراء، وأعقاب السجائر المتراكمة في قاع كأس النبيذ الأخير.
*
الإعدام يا سيدتي لا يعني بالضرورة استخدام المقصلة أو إطلاق الرصاص الحي على الصدر، كما كنا نعتقد، نحن نُعدم فقط بالوحدة، ولا شيء قادرًا على قتلنا سوى الوحدة! أنا ميت الآن واستثمر وقت موتي بتأدية شعائر الغياب. البكاء، الصمت، الاكتئاب، الكتابة، وبئس أولئك رفيقًا.
اقرأ/ي أيضًا: