كُتبتْ هذه القصيدة بعد زيارة لمدة أسبوعين لمدينة إيبر تزامنت مع ذكرى مرور مئة عام على أول هجوم بالسلاح الكيمياوي في التاريخ جرى في حقول الفلاندرز خلال الحرب العالمية الأولى، والنص كُتبَ لصالح مشروع كتاب المدينة "سيتي بوك" الذي يقام بالتعاون مع البيت الفلامنكي الهولندي "ديبورين" الجيران.
إيبر:
في مدينةِ إيبر التي تتوسطُ حقولَ الفلاندرز كما تتوسطُ إصبعٌ وسطى مرفوعةٌ في وجه العالم كف اليد، في مدينةِ إيبر التي مُسِحَتْ في الحربِ العالميةِ الأولى عن الخارطةِ كما مُسحَ الشعبُ الفلسطينيُّ من كتبِ المدارسِ وسجلاتِ التاريخ، في مدينة إيبر ولستُ متأكدًا أيُّهما أكثر شاعريةً ومناسبةً للسياق، القولُ بعدَ مائةِ عامٍ على دمارها، أم بعدَ مائةِ عامٍ على إعادةِ إعمارها، في مدينةِ إيبر حيثُ تستطيعُ أنْ تضعَ يدكَ على التاريخِ الممدَّدِ أمامكَ كجثةٍ، أنْ تلمسَ الجرحَ لتكتشفَ أنَّه لا يزالُ ساخنًا كحلمة امرأةٍ تذوبُ بين شفتيكَ، أتمشى أنا اللاجئُ الفلسطينيُّ الذي كان حتى فترةٍ وجيزةٍ محذوفًا من جميعِ الكتبِ والأخبارِ والأكاديمياتِ والتحقيقاتِ، فجميعنا يعلمُ أنَّ فلسطين أرضٌ بلا شعبٍ… هههههه …
على أيةِ حال، أنا اللاجئُ الفلسطينيُ الذي لم يكنْ له وجودٌ في هذا العالمِ المتحضرِ، أتمشى مثل أركولوجيٍ جاءَ برفقةِ بعثةِ استكشافٍ استعماريةٍ من وراءِ المحيطِ، قاطعاً نصفَ الكرةِ الأرضيةِ ليلمسَ عن كثبٍ وحشيةَ الهوموسيبيان، وليستمتعَ بنشوةِ إثباتِ أنَّ حنه أرندت كانت على حقٍ حين أكدتْ على عاديةِ الشرِّ. أنا اللاجئُ الفلسطينيُّ السوريُّ السويديُّ، أرتدي جينزًا ماركة ليفايز ابتكرَهُ مهاجرٌ يهوديٌ من ألمانيا في سان فرانسيسكو، وأملأُ كاميرتي بالصورِ كما تملأُ فلاحةٌ من روسيا سطلَ الحليبِ تحتَ بقرتها، هازًَّا رأسي بالإيجابِ كمن استوعبَ الدرسَ، درسَ الحربِ، أنا الفلسطينيُّ الموزعُ على عدةِ مجازرَ، أقفُ هنا عاريًا، محاولًا أنْ ألبسَ قصيدتي علَّها تُخفي جراحي، متلبكًا ألملمُ قطعي من هنا وهناك، لكي أكونَ شاهدًا، أنا الفلسطينيُّ العنيفُ حسبَ الكليشيهات والصور النمطية، القادمُ من بلادٍ مشهورةٍ بالحروبِ كما يدَّعي المستشرقون، ها أنا أجدُ نفسي واقفًا أمامكم، ينتابني شعورٌ بالخجل الشديدِ، نعم، بالخجلِ الشديدِ من ضآلةِ الحروبِ التي وقعتْ في بلادي أمامَ الحروبِ العظيمةِ التي وقعتْ في بلادكم، حروبُ بلادي الصغيرةُ التافهةُ أمامَ آلةِ حروبكم الضخمةِ المتطورةِ التي تطحنَ الأخضرَ واليابسَ، أمامَ أسلحتِكم المبدعة التي حولتِ الحربَ إلى فنٍ، أمامَ حروبِكم الملونةِ التي لا تبقي ولا تذر، أمامَ مجازرِكم الرائعةِ أيُّها الرجالُ البيض.
في مدينةِ إيبر التي تتوسطُ حقولَ الفلاندرز كما يتوسطُ الشرقُ الأوسطُ المشاكلَ، يتحولُ إرثُ الحربِ الثقيلِ إلى سياحةٍ ناجحةٍ، كلُّ شيءٍ يسقطُ بالتقادمِ، إلا في إيبر، هنا ذاكرةُ الحربِ تنمو مع مرورِ الوقتِ، حيثُ ذكرى الحربِ تأكلُ السياحَ وتكبرُ، تأكلُ المحاربين القدماءَ وتكبرُ، تأكلُ الحكائين وأحفادَ الرجالِ الذين قُتلوا هنا وتكبر، تأكلُ ذاكرةَ الذين لم يولدوا بعدُ وتنمو مثل عريشةِ عنبٍ، بقايا الأسلحةِ التي وُجدتْ في الحقولِ تُعرضُ على واجهاتِ المحلاتِ والمقاهي، صورُ المقاتلينَ بالأسود والأبيضَ بشواربَ مدببةٍ تشبهُ نصلَ السكين تجدُها في كلِّ مكانٍ، كلُّ شيءٍ في المدينةِ متصلٌ بالموتِ، قبرُ الجنديِّ المجهولِ يشبهُ جُرحًا مفتوحًا، الموسيقى التي تُعزفُ كلَّ مساءٍ منذُ أكثر من ثمانين عامًا تشبهُ نزفاً لا ينقطعُ، الحقولُ التي تحوي ذكرياتِ رجالٍ قتلوا هنا لأسبابَ لا يعرفُونها، وهؤلاء المساكينُ الذين ولدوا بعدَ الحربِ ولم يشهدوا روعتها، الذين تلاحقهم حكاياتُها لكثرةِ ما سمعُوها، الذين تَرى في عيونهم ـ إنْ أنتَ دقَّقتَ قليلًا ـ أملًا كبيرًا أنَّ حربًا أُخرى ستقعُ، ويقينًا أنَّ ذلك سوفَ يحدثُ، يقينًا قاطعًا حصلوا عليهِ من خلال معرفتهم بالجنسِ البشريِّ، وذلكَ هو الشيءُ الوحيدُ الذي يبقيهم متوازنين.
هامش 1:
سُميتْ في الولاياتِ المتحدةِ بالحربِ الأوروبيةِ، فماتَ فيها إلى جانبِ الأوروبيينَ آسيويونَ وأفارقةٌ وأمريكيون، وسُميتْ في أوروبا الحرب العُظمى، لكنْ لم يكنْ أيُّ شيءٍ فيها عظيمًا، ولم يتوقعوا أنَّهم سيضطرون إلى تبديلِ الاسم لاحقًا من الحربِ العظمى إلى الحربِ العالميةِ الأولى حين تبدأُ الحربُ العالميةُ الثانية، فحتى تلكَ اللحظة كانَ العالَمُ رومانسيًا ساذجًا، لم يكن أحدٌ يتوقع أنَّ هنالكَ ديسكو جماعي سيبدأُ بعدَ عقدينِ من نهايةِ هذه الرقصةِ العشوائيةِ، ولم يكنْ أحدٌ يصدقُ ماركس حين أكَّد أنَّ التاريخَ يكرِّرُ نفسَهُ، في المرةِ الأولى يكونُ على شكلِ مأساةٍ، وفي الثانيةِ على شكلِ ملهاة، وهو يشبهُ كثيرًا ما حدث في أوروبا: مأساةُ الحربِ العالميةِ الأولى، وكرنفال الحربِ العالميةِ الثانية.
في مدينة إيبر، حيثُ يستطيعُ التاريخ أنْ ينظرَ إليكَ بعينين حديديتين، ويمسكَ طرفَ قميصكَ بيدٍ مرتخية، حيثُ تختلطُ عليكَ المائةُ سنةٍ الأخيرةُ فلا تعودُ تَعِي أين أنتَ، حيثَ سارَ رجالٌ بشواربَ تشبهُ أجنحةَ الطيرِ إلى حتفهمْ قانعين، ستمائة ألفِ رجلٍ تناثروا في الحقول، ذابوا في الأرضِ، تسربتْ ذكرياتُهم عن طريق التحلُّل إلى الترابِ، تسلَّلُوا إلى الخضارِ وحليبِ الأبقارِ وزهورِ الخشخاشِ، لوَّثُوا السهولَ بالاكتئابِ وبشعورٍ مُبْهَمٍ يُصيبُ النساءَ العابراتِ بشهوةٍ مفاجئةٍ، فسَّرَهُ أزواجُهُنَّ على أنَّهُ الحساسيةُ من الربيعِ، وفسَّرَهُ الشعراء على أنَّه الديجا فو، رجالٌ بشواربَ تشبهُ أجنحةَ الطيرِ، قرأُوا قصيدتي قبلَ أنْ أكتبَها، والتهوا بلفِّ سجائرهم، رأيتُ أحدَهُم يضعُ إصبعهُ في جرحِ صديقهِ فتذكرتُ توما، ورآني فتذكرَ نفسَه، رجالٌ بشواربَ تشبهُ أجنحةَ الطيرِ لا يزالون هناكَ، مرَّ قرنٌ ولا يزالون هناك، أمهاتهم شبعنَ موتًا وهم لا يزالونَ هناكَ، حبيباتهم هرمنَ وحيداتٍ مع رجالٍ آخرين، ولا يزالون هناكَ، عالقين في الزمكانِ، أحذيتُهُم عالقةٌ في الطينِ، بنادقُهُم صدئتْ، ذخيرتُهُم أفسدَهَا الماءُ، وغازُ الكلورين لا يزالُ يتمدَّدُ ويتمدَّدُ إلى أنْ وصلِ إلى دمشقَ، في مدينةِ إيبر، يستطيعُ التاريخُ أنْ ينظرَ إليكَ بعينينِ حديديتين، فيختلطُ الماضي بالحاضرِ بالغازِ، يختلطُ الغازُ في رئاتِ الذين ماتوا هنا، بالغاز في رئاتِ الذينَ ماتوا في ضواحي دمشقَ بعدَ مرورِ قرنٍ، لم يتعلمْ أحدٌ الدرسَ، لن يتعلمَ أحدٌ الدرس.
هامش 2:
فريتز هابر، عالم الكيمياء اليهودي الألماني، اكتشفَ السمادَ مرتين، الأولى حين خلطَ النيتروجين والهيدروجين ليصنعَ المتفجراتِ، محاولاً اكتشافَ وسيلةٍ جديدةٍ لقتلِ أكبر كميةٍ ممكنةٍ من الناسِ، فاكتشفَ الأمونياك، التي استخدمتْ في تسميدِ الحقولِ، فأنقذَ ملايين الناسِ من المجاعةِ، وحصلَ على جائزةِ نوبل في الكيمياءِ، هههههه، والثانيةُ حين اكتشفَ غازَ الكلورين، فتسببَ بقتلِ آلافِ الجنودِ اختناقًا وجعلَ أجسادَهُم سمادًا لحقولِ الفلاندرز.
هامش 3:
في الثاني والعشرين من أبريل 1915، ضرب الألمانُ بحضور فريز هابر 5730 اسطوانة من غازَ الكلورين على جنودِ الحلفاءِ في حقولِ الفلاندرز، قُتِلَ آلالافُ اختناقًا. انتحرتْ زوجةُ هابر كلارا إيمرفار التي كانتْ كيميائيةً يهوديةً ألمانيةً أيضًا بعد أيام من الهجوم بالغاز لمعارضتها الشديدة لدور زوجها المخزي في صناعة السلاح الكيميائي. في الصباح التالي لانتحارها، قام هابر بمغادرة منزله للتجهيز لأول هجوم بالغاز الكيمياوي ضد الروس في الجبهة الشرقية.
هامش 4:
لاحقًا أكملَ هابر بحوثَهُ، كان يحاولُ أنْ يُثبتَ للألمان أنَّه ألماني، ومن ضمن بحوثهِ عمل على فتح الباب إلى واحدٍ من أسوأ الأشياء في التاريخ، غازَ الزيكلون A، الذي طُوِّرَ لاحقًا إلى زيكلون B، والذي استخدمَهُ النازيون خلالَ الحرب العالمية الثانية لإبادة أكبر كميةٍ ممكنةٍ من اليهودِ في غرفِ الغازِ، من بينهم بعض أقارب فريتز هابر.
هامش 5:
في عام 1933 غادر فريتز هابر ألمانيا إلى بريطانيا بسبب القوانين النازية ضد اليهود، في عام 1934 وحين كان في طريقه إلى فلسطين ليعمل لحساب معهد بريطاني للعلوم، توفي أثناء الرحلة في فندق في مدينة بازل.
في إيبر، يخدَعُكَ جمالُ الطبيعةِ للوهلةِ الأولى فتأكلُ الطُعمَ، يخدعكَ السلامُ الممزوجُ بأعشابِ الحقلِ الممتدِّ على طولِ الخنادقِ، السلامُ العادلُ، ها هو يزحفُ إليكَ، يَدُهُ التي تحملُ السكينَ يخفيها تحتَ معطفهِ، لنْ تُفاجئكَ الطعنةُ الأولى، إنَّما ستفاجئكَ الطعنةُ الثانيةُ، ستفاجئكَ رتابةُ الموتِ، التكرارُ المملُّ المملُّ لرجالٍ يسقطون خلالَ الركضِ متعثرينَ برصاصةٍ، ستفاجئكَ رتابةُ الدروسِ التي لم يتعلمْها أحدٌ سوى الذين ماتوا، سيفاجئكَ جمالُ المعركةِ، الإيقاعُ الذي تعزفُهُ المدافعُ، الألوانُ التي تتطايرُ مع كلِّ قذيفةٍ تُقَبِّلُ الأرضَ، طنينُ الأذنِ، موسيقى المعادن وهي تعزفُ النشيدَ الوطنيَ للموتِ، أوركسترا ضرباتِ القلبِ، هنالكَ فرصةٌ كبيرةٌ لتكتشفَ قسوةِ الإنسانِ، ورقَّة الحديد.
إيبر، أيَّتُها المدينةُ التي تُخفي قبرًا كبيرًا، أيَّتُها المقبرةُ الجماعيةُ التي تلبسُ قناعَ مدينةٍ، حقيقةً، لا أعرفُ ماذا أقولُ، ولكنَّني واثقٌ أنَّنا لا نحتاجُ لقبرٍ آخرَ للجنديِّ المجهولِ، صدقيني، نحتاجُ قبرًا لسائقِ الباصِ المجهولِ، ذلك المهاجرُ من تشيلي، ذلك الذي ماتَ وحيدًا في فراشِهِ، ولم يفتقدْهُ أحدٌ، أو قبرًا لبائعِ الفلافلِ المجهولِ الذي وُلدَ شبعانًا في الجنوبِ وماتَ جائعًا في الشمالِ، نحتاجُ قبرًا كبيرًا للنساءِ المجهولاتِ، النساءُ اللواتي تَنِزُّ دماؤُهُنَّ من بين شقوقِ جدرانِ المنازلِ فنحاولُ أنْ نُخفيها بالطلاءِ، اللواتي نسمعُ أنينهنَّ الخافتَ في ليالي الصيفِ الهادئةِ فنتظاهرُ بالشرودِ، اللواتي عَبَرنَ التاريخَ على أطرافِ أصابعهنَّ كي لا يُوقظنَ الوحشَ، اللواتي تألمنَ بصمتٍ مصدقاتٍ أنَّ اللهَ سيغضبُ إنْ قُلنَ لا، اللواتي أكلَهُنَّ البطركُ فاكتفينا بالصمتِ المطبقِ لأنَّنا جُبناء.
إنَّها الرقصةُ العالميةُ الأولى، الدعوةُ عامةٌ، صالةُ الرقصِ مفتوحةٌ على الهواءِ الطلْقِ، كانَ عزفًا عشوائيًا، سقطتْ سبطانةُ البندقيةِ، سوفَ يجدُهَا فلاحٌ بعد مائةِ عامٍ فيظنُها نايًا، سقطتْ أسنانُ جنديٍ شاب بشظيةِ فراشةٍ، لنْ يجدَهَا أحدٌ، سقطتْ قذيفةٌ على مقبرةٍ فقُتِلَ الجنودُ ثانيةً، سقطتْ أحلامُ الذين ظنُّوا أنَّهُم سيعودون فعادتْ قطعُ حديدٍ صغيرةٌ نُقِشَتْ عليها أسماؤُهُم، الرقصةُ العالميةُ الأولى، سقطتْ مدينةٌ برصاصةٍ طائشةٍ، سقطَ الراقصونَ جميعًا، جميعًا، سقطَ العازفُون، سقطَ الطائرُ الواقفُ على الشجرةِ، سقطتْ الشجرةُ، وبقيتْ تفاحةُ نيوتن معلقةً في الهواء، لا جاذبيةَ هنا، ما يُمسكُ أحذيةَ الجنودِ هو الطينُ فقط، وأنا الناجي الوحيدُ من هذه المجزرةِ الرائعةِ، أنا الشاهدُ الذي وصلَ متأخرًا، أراقبُ شواهدَ القبورِ بهدوءٍ، صدمتي أمامَ عاديتها يشبهُ صدمتَها أمامَ زائرٍ غير متوقعٍ، شاهدٌ من بلادٍ غير مسموحٍ لأبنائِها بالإدلاءِ بشهادتهم، ضحيةٌ تزور قبور ضحايا.
ـ هل أتيتَ هنا لتستفيدَ من دروسِ الحضارةِ الغربيةِ عن كيفيةِ قتلِ أكبرِ كميةٍ ممكنةٍ من الرجالِ بأحدث ما توصلتْ إليهِ الحضارةُ؟
ـ لا.
هل أتيتَ لتتعلمَ من تجربةِ الموتِ المجانيِّ لستمائة ألفِ رجلٍ أصبحوا سمادًا لأزهارِ الخُشخاش؟
ـ لا.
هل عليكَ أنْ تكتشفَ طريقةً جديدةً لإعادةِ تدويرِ الجنودِ، حيثُ يمكنُ إعادةُ استعمالهم مرةً أُخرى، في حروبٍ أخرى؟
ـ لا.
ـ هل أنتَ هنا لتتعلمَ القتلَ؟
ـ لا، أنا هنا لأتعلمَ الموت.
دمشق:
كنت ذاهبًا للموتِ حين أوقفني المقاتلون، فتشوني فوجدوا قلبي معي، مرَّ وقتٌ طويلٌ لم يشاهدوا فيهِ قلبًا مع صاحبِهِ، صرخَ أحدُهُم: لا يزالَ حيًا، فقرروا أن يحكموا عليَّ بالحياة، كنتُ أرى نساءَ متشحاتٍ بالبياض يُشبهن الممرضات ولكنهنَّ يُحلقنَّ في الهواء، كانتْ حُقَنُ المورفين تأخذني إلى معاركَ من نوعٍ مختلفٍ، حيثُ الأشجارُ زرقاء، والمياهُ خضراء كالبرتقال، كنتُ أرى نساءَ متشحاتٍ بالبياض يرمقنني ويدخلنَّ في الغيابِ، كانتْ حُقَنُ المورفين تدخلني في الدهاليز التي تقع بين دمشقَ وستوكهولم، فأجدُ نفسي جالسًا بانتظار الباص، أفكرُ في بلادٍ يموتُ فيها الناسُ في فراشهم محاطين بالأهلِ، حيث لا يوجدُ إعلاناتٌ لكوكا كولا ولا صورٌ لنساءَ نحيلاتٍ عارياتٍ في كلِّ مكانٍ، أحلمُ أنَّني أُمسكُ قمرًا أزرقَ في يدي، وأنَّ الطريقَ خضراءَ، أنَّني أشربُ ماءً باردًا في تموزَ في شرفةِ شقةٍ تطلُّ على دمشقَ من جبلِ قاسيون، أنَّ قلبي معي، وأنَّ أصدقائي لا يزالون على قيدِ الحياةِ، أنَّنا سنلتقي مساءً في مطعمِ النورماندي، ثم سنتسكع في شوارع المدينة القديمةِ حين نُفلسُ، أنَّني جامحٌ والقصيدةُ تقفُ إلى جانبي ضدَّ التاريخ، أحلمُ بالنساء، يا الله كم أحبُّ النساءَ، لقد تعلمتُ من النساء أكثرَ مما تعلمتُ من المدارس، وتعلمتُ من الحربِ أكثرَ مما تعلمتُ من السلم، وأستطيعُ أنْ أؤكدَ لكم، أنَّ كثيرًا من الجنودِ يتحولون إلى مجرمي حربٍ، وكثيرًا من الشعراء يتحولون إلى مجرمي سلمٍ، وأنَّ الأخبارَ الجيدةَ في الحربِ هي أنْ لا يكونَ هناكَ أخبارٌ سيئةٌ، وأنَّ الذين خسروا الحربَ هم الذين ماتوا، من الطرفين، وأنَّ الحربَ في طفولتها ترضعُ دَمَ الجنودِ، وحين تكبرُ تشوي بساطيرهم على نارٍ هادئةٍ، وأنَّها تموتُ حينَ يعيشون.
هامش 6:
أُفكرُ بفلسطين، البلادُ التي اخترعتْ اللهَ فتسببتْ بسفكِ ملايين الأرواحِ باسم الله، بلادُ الحليبِ والعسلِ، التي لا يوجدُ فيها لا حليبٌ ولا عسلٌ، البلادُ المقدسةُ، التي خُضنا من أجلها حروبًا مقدسةً، وهُزمنا فيها هزائمَ مقدسةً، وهُجِّرْنَا منها تهجيرًا مقدسًا، وسكنًا من أجلها في مخيماتِ لجوءٍ مقدسةٍ، ومُتنا من أجلها موتًا مقدسًا، أفكرُ فيها فيلاحقني صوتُ الشيخِ الذي كلما سألتُهُ ردَّدَ سطرًا من القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، ولا زلت أتساءَل: أيُّهما أبعدُ عن الأرض؟ كوكب المشتري؟ أم حل الدولتين؟ أيهما أقربُ إلى روحي؟ جنديٌ من بلدي؟ أم شاعرٌ من أعدائي؟ ما هو أسوأُ شيءٍ قامَ به ألفريد نوبل؟ الديناميت؟ أم جائزةُ نوبل؟
ستوكهولم:
حسنًا، أنا الآن في ستوكهولم، أتمتعُ بالرفاهيةِ في بلدٍ لم يخضْ حربًا منذ مائتي عام، حيث كلُّ شيءٍ يحدثُ بصمتٍ، الفرحُ، الحزنُ، الجنونُ، حتى العنفُ يحدث بصمتٍ، ولكنَّني عوضًا عن أن أصابَ بستوكهولم سيندروم، أصبتُ بدمشق سيندروم، وهذهِ حكايةٌ أُخرى، تحتاجُ قصيدةً أُخرى لروايتها، لأنَّها غيرُ موجودةٍ أصلاً، المهم أنَّني لم أعدْ أهتمُ بالتفاصيلِ الجانبيةِ، رقمُ الباصِ المؤدي إلى بيتكِ لم أحفظْهُ حتى اللحظة، رغمَ ذلكَ أَصِلُ في كلِّ مرةٍ إليكِ وأتسلَّلُ بجانبكِ في الفراش، لم أعدْ أتذكرُ كيف غيَّر جَسَدُكِ فهمي للمواقعِ والاتجاهاتِ، أساسًا أنا لا أعرفُ أين يقعُ هذا المنزلُ بالضبطِ، إنَّه في مكانٍ ما على الخريطةِ، لا أستعملُ الـ GPS في العشقِ، تزعجُنِي حقيقةُ أنَّهُ يعرفُ الطريقَ إلى بيتكِ أكثرَ مني، أحبكِ بهدوءٍ قاتلٍ، وأسقطُ إليكِ من ارتفاعٍ شاهقٍ، ولكنْ ببطءٍ، ببطءٍ شديدٍ، كما لو أنَّني أستعملُ خاصيةَ الـslow motion، أسقطُ في حبِّكِ، هكذا، كما يسقطُ الجنودُ برصاصةٍ، كما تسقطُ الأسعارُ في البورصة، كما تسقط جدرانُ الفصلِ العنصريِّ، كما تسقطُ المدنُ المحاصرةُ.
أتذكرُ البداياتِ، حينَ أكلتُكِ في المسرحِ، حين ضِعتُ فيكِ فأشفقَ عليَّ المارةُ، حين وقعتْ من حقيبتكِ شجرةُ تفاحٍ فانفضحَ أمرُنَا، حين أصبحَ الجنسُ سيِّدَ الموقفِ وأصبحتُ أنا عدائيًَّا مثلَ ساعةِ حائطٍ في قاعةِ انتظار.
لم أغيرْ المصباحَ المحروقَ في مدخلِ بيتكِ كما وعدتُكِ قبلَ سنةٍ، لكنَّني غيَّرتُ معتقداتي حول الحضارةِ الغربيةِ، سوف تُغيرني امرأةٌ أُخرى مرةً أُخرى في المستقبلِ إنْ شاءَ الله.
أتسلَّلُ بجانبكِ فتتظاهرين بالنومِ، لكنَّني أشمُ رائحةَ الجنسِ بانتصابةِ حلمتيكِ، فأعرفُ أنَّكِ كاذبةٌ، كاذبة، وأنَّكِ ترغبين أنْ أُبادِرَ أنا بالتهامِكِ، فذلك يُرضيْ النظرةَ الاستشراقيةَ والصورة النمطية التي خلفتْهَا سنواتُ الاستعمارِ الطويلةُ عن الشرقِ عمومًا، وعن شابٍ عربيٍ على وجهِ التحديدِ، ولكنَّني بكلِّ ما أملكُ من خبثِ البدويِّ الذي يسكنني، أخيِّبُ آمالكِ، وأُطلِقُ خرافي المسكينةَ لترعى أمامَ ذئبكِ الجائع، وأنتظرُ، وأنتظرُ، وأنتظر... لا يخيِّبُ ذئبُ شهوتِكِ توقعاتي، ممزقًا لحمَ خرافي فوقَ فراشِكِ الأبيضَ الذي يُشبهُ صحراءَ سويديةً من الثلجِ، رائحةُ نهديكِ تتفاعلُ مع ضوءِ غرفتكِ الأصفرَ فيتولَّدُ ثاني أوكسيد النعاس، أتعرَّقُ حتى تختلطَ عليَّ القصائدُ العربيةُ بالسويديةِ، لم أعدْ أهتمُ بالتفاصيلِ الجانبيةِ، لا تهمُنِي مدينةٌ لستِ تعيشين فيها، لا يهمُنِي وطنٌ لست فيه.
هامش 7:
الطريقُ إلى دمشقَ مليئةٌ بالذكرياتِ، وأنا متعبٌ منذُ أرضعني المخيمُ حليبَ الأممِ المتحدةِ المجفَّفَ، وأثقلَ كاهلي باللجوء، الطريقُ إلى دمشق التي هجَرْتُها عام 2008 لم تعدْ تُغريني، فبعدَ أنْ تذوقتُ طعمَ الحريةِ لم أعدْ قادرًا على التخفي خلفَ المجازِ لكي أنجو من المخبرين.
الطريق إلى إيبر معبدةٌ بالجثث، وأنا متعبٌ منذ قتلني أولاد عمي، وتركوني لتأكلني الطير.
الطريقُ إلى ستوكهولم مغلقٌ بسببِ تراكمِ الثلوجِ.
الطريقُ إلى الحرب هادئة، فيها استراحةٌ صغيرةٌ ينزلُ بها المتجهونَ إلى المجزرةِ، يرتاحون قليلاً ويتزودونَ بالماءِ، يشربونَ الشايَ، ويتحدثونَ عن أسبابِ الموتِ الممنهج، في الصباحِ يكملونَ طريقهم كي يتناقشوا بالرصاصِ، وأنا أظلُّ عالقًا بين المتناقضاتِ، أنا الشاهدُ الذي وصلَ متأخرًا والشهيد الذي لم يصلْ، القاتلُ والقتيلُّ، الجاني والضحيةُ، أنا الهنديُّ الأحمرُ، أنا الهنديُّ الأزرقُ، أنا الهنديُّ الأخضرُ، أنا الفلسطينيُّ الأسودُ، وهذهِ الحربُ تنقُصُهَا قصيدةٌ كي لا يُولدَ المجازُ ميتًا، كي لا يصبحَ الموتُ ثقيلاً كمدفأةٍ برونزيةٍ تجثمُ على الحكاية، لا يستطيعُ الموتُ أنْ يمنَحَنِي وطنًا، وإنْ استطاعَ فإنَّني لا أريدُهُ، إيبر كانتْ كابوسًا انتهى منذُ مائةٍ عامٍ، ودمشقُ كابوسٌ يحدث الآن، وأنا عالقٌ في ستوكهولم، القصائدُ التي كتبتُها في دمشقَ أعدمَهَا الجنودُ، والقصائدُ التي كتبتُها في إيبر لم تصعدْ معي إلى الطائرةِ، والقصائدُ التي تسكنُ معي في ستوكهولم مصابةٌ بنقصٍ حادٍ في فيتامين د.
إيبر:
الحربُ خلفَ البابِ.
دمشق:
في الثالثة فجرًا، تسقطُ صواريخُ محملةٌ بغازِ السارين في عدةِ أماكنَ في ضواحي دمشقَ المكتظةِ بالسكانِ، تضيقُ حدقاتُ العيونِ، تتَّسِعُ الرؤيةُ، تهتزُّ أجسادُ الأطفالِ بطريقةٍ منظمةٍ، تهتزُّ بشدةٍ، إنَّها هزةٌ أرضيةٌ من نوعٍ مختلفٍ، حيثُ البيوتُ ثابتةٌ والأجسادُ هي التي ترتجفُ، إنَّها هزةٌ أخلاقيةٌ تُصيبُ هذا العالم.
ستوكهولم:
المدينةُ هادئةٌ.
اقرأ/ي أيضًا: