09-مايو-2019

استعان البشير بالكرملين لإنتاج بروبغاندا مضادة للاحتجاجات (تويتر)

ربما لم يكن غريبًا أن يطالب المحتجون في السودان بالمسارعة بمحاكمة الرئيس المخلوع عمر البشير، أو رؤيته عيانًا على الأقل وهو مصفد اليدين، بشكل يهين تلك المهابة الجريئة التي طالما سخرت من ضعفهم، ليس وهو يؤدي رقصة الهياج التي أدمنها طوال عقود ثلاثة من سنوات حكمه القاسية، وإنما وهو حبيس هذه المرة خلف جدران سجن كوبر الذي كان يعتقل فيه خصومه السياسيين، وقرر المجلس العسكري أخيرًا أن يحتجزه فيه، قبل تقديمه إلى محاكمة، يأمل البعض أن تفتح جدارًا في الأزمة.

ليس للبشير من يكاتبه، أو يرغب في استضافته حتى الآن سوى الجارة الجنوبية أوغندا، والمملكة العربية السعودية، حيث طلبت الرياض من حلفائها في المجلس العسكري استقباله

لم يرد الجنرال أن يستسلم بسهولة حتى وهو تحت وطأة السخط العام، حين أفلح الثوار صبيحة السادس من نيسان/أبريل الماضي في الوصول إلى محيط مقر الجيش، الذي بدا وكأنه الحِصن الآمن لهم من عنف الأجهزة الأمنية، وهو غالبًا السبب الذي جعل البشير يفتي باستخدام المذهب المالكي في قتل ثلث المحتجين لعيش البقية، أو ربما ليعيش هو تحديدًا، حتى وإن استعان بقوات روسية خاصة لإنهاء صداع الاحتجاج الذي كان يستعر فوق رأسه.

اقرأ/ي أيضًا: المرحلة الانتقالية في السودان.. صراع الأجندة الخفية

تفاصيل المواجهة الأخيرة

كان نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، قد كشف عن تفاصيل المواجهة الأخيرة بين ضباط اللجنة الأمنية والبشير قبيل عزله بساعات، وهم يطلبون مشورته، فرد عليهم بالقول "نحن مالكية، ولنا فتوى تبيح قتل ثلث المواطنين المحتجين ليعيش البقية بعزَّة، بل إن المتشددين يبيحون قتل 50%" وفقًا لحميدتي، الذي زعم أنه ردد في سره "حسبنا الله ونعم الوكيل" من هول الصدمة.

وبالرغم من أن رواية حميدتي لم تكن الأخيرة، فإن عضو المجلس العسكري الفريق صلاح عبد الخالق قائد القوات الجوية، قال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، إن البشير فوجئ بالانقلاب عليه وشعر بخيانة الناس له، واتهم مدير المخابرات السابق صلاح قوش بتدبير المؤامرة. وكشفت تقارير صحفية عن إصابة البشير بحالة اكتئاب نفسي وتدهورت صحته بعد يوم واحد في السجن، حينما نقل إلى مستشفى الأمل في ضاحية الخرطوم بحري بعد أصيب بجلطة دموية خفيفة، قبل إعادته إلى زنزانة في كوبر أعدت له خصيصًا، ولا زال يقبع فيها.

ويرى قادة الانقلاب أن الثورة التي حفلت شهورها الأربعة بأكثر من مائة شهيد وملاحقات أمنية وضرب بالهروات ودهس بسيارات الدفع الرباعي، منحتهم فرصة عظيمة للتخلص من البشير، الذي كان يشكل عقبة كؤودة أمام التغييرات داخل النظام.

روسيا ومصير البشير

أكثر الدول التي كانت قلقة على نهاية نظام البشير هي روسيا، التي توجه الرجل نحوها طالبًا الدعم والحماية في سنواته الأخيرة، مفسحًا المجال لبناء قاعدة روسية في البحر الأحمر كما تعهد بذلك، وربما أدرك أنه في حاجة للدفاع عن سلطته المهددة بالزوال أسوة ببشار الأسد، حيث كان البشير أول رئيس عربي قرر زيارة سوريا وكسر عزلة نظام الأسد، وهو بالفعل ما جرى لاحقًا، حين حاول مصدر مقرب من الكرملين إبقاء البشير في السلطة من خلال نزع الشرعية والوطنية عن المعارضة.

تجلت الخطة الروسية في تشويه صورة المحتجين ودمغهم بالتفلت والعمالة لتبرير قتلهم، بالإضافة إلى ذلك، وكجزء من الحملة، اقترحت الأوليغارشية الروسية للبشير بروباغندا دمغت المتظاهرين بأنهم "أعداء الإسلام والقيم التقليدية"، وكجزء من هذه الخطوة زرع المسؤولون الحكوميون أعلام مجتمع المثليين بين المتظاهرين. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، ادعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاكروفا أن "روسيا تعرف أن هناك أشخاصًا وشركات خاصة تعمل مع نظام عمر البشير، لكن ليس لهم علاقة بالحكومة الروسية، ونفوذهم محدود".

وجبة طباخ بوتين

في السياق عينه أفادت وكالة "سي إن إن" الإخبارية أن المستشارين الروس في السودان المرتبطين بالأوليغارشية والحليف المقرب بيفن يفغيني بريجوزين، أو ما يعرف بـ"طباخ بوتين"، عملوا على مساعدة الرئيس السابق عمر البشير في محاولة لسحق الانتفاضة التي أدت في النهاية إلى عزله، وترتبط المستندات التي كشفت عنها صحف غربية بشركة Prigozhin ذات النشاط الإجرامي، ولها مكتب في الخرطوم، وسبق وأن ظهرت سيارات عسكرية بداخلها جنود روس وهي تجوب شوارع الخرطوم قبل الإطاحة بالبشير، بينما تزامن ذلك مع حملة قمع وحشية ضد المتظاهرين السلميين، ما يعني الشروع بالفعل وقتها في إعداد وجبة روسية مسمومة لإنهاء مظاهر الاحتجاج السوداني.  

حيثيات الادعاء

الشكوك حول تواجد البشير في السجن لم تكن مصدر القلق الوحيد في الشارع السوداني، وإنما بناء حيثيات الادعاء التي سوف يحاكم بموجبها، سيما وأن النيابة العامة المكلفة من المجلس العسكري فتحت يوم السبت الماضي تحقيقًا مع الرئيس السوداني المخلوع بتهمة غسل وحيازة أموال دون مسوغ قانوني، والعثور على مبالغ ضخمة في مقر سكنه تقدر  بنحو 351 ألف دولار و6 ملايين يورو إضافة إلى 5 ملايين جنيه سوداني.

اقرأ/ي أيضًا: حراك السودان ومعركة الحكومة المدنية.. تحولات حاسمة

وجرى بالفعل استجواب الرئيس السابق منتصف هذا الأسبوع حول اتهامات يدور معظمها حول الفساد المالي، وهو ما يمكن أن يمنح الرجل عقوبة مخففة، أو تسوية محتملة، كما أن اختزال سنوات حكم البشير بما فيها من قتل وسجون وحروب وهدر للموارد في شبهات فساد مالي أمر لا بد أنه سوف يثير الشكوك حول تواطؤ المجلس العسكري مع قائده السابق، بجانب التغاضي عن عنف الأجهزة الأمنية. ما يثير الشكوك أيضًا، هو أن جل إفادات قادة المجلس العسكري بما فيهم البرهان وحميدتي، ذهبت إلى رفض تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية، التي ظلت تلاحقه منذ سنوات بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور، وتحدثوا بصوت واحد عن ضرورة محاكمته بالداخل، وهو ما سيضع بالضرورة القضاء السوداني في اختبار حقيقي.

في ضيافة السعودية

ليس للجنرال من يكاتبه، أو يرغب في استضافته حتى الآن سوى الجارة الجنوبية أوغندا، والمملكة العربية السعودية، وقد ألمحت أوغندا إلى إمكانية منح عمر البشير حق اللجوء، وقال وزير الدولة للشؤون الخارجية الأوغندي، هنري أوكيلو أوريم، إنه "إذا تم الطلب من أوغندا منح البشير اللجوء، فيمكن التفكير في هذه المسألة على أعلى مستويات قيادتنا"، عازيًا السبب إلى دور البشير الرئيسي في التوسط لاتفاق سلام جنوب السودان.

يثير اختزال سنوات حكم البشير بما فيها من قتل وسجون وحروب وهدر للموارد في شبهات فساد مالي، الشكوك حول تواطؤ المجلس العسكري، بجانب التغاضي عن عنف الأجهزة الأمنية

 فيما كشفت صحيفة "اليوم التالي" السودانية عن عرض دولة خليجية لم تسمها، طلبت فيه من المجلس العسكري السوداني استضافة البشير، وقالت الصحيفة إن العرض شمل الإقامة الدائمة للمخلوع وأفراد أسرته، وقد وافق البشير بالفعل، ولربما كان لمدير مكتب البشير السابق والمستشار الحالي لولي العهد السعودي الفريق طه عثمان دور في ذلك التحرك الرامي إلى إنقاذ البشير من غضب السودانيين، عطفًا على علاقة وطيدة تجمع قادة المجلس العسكري في السودان بالمحور السعودي الإماراتي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشارع السوداني يستكمل انتفاضته بعد بيان الجيش

جنين ثورة يتخلق في رحم الكنداكة