تواجه المرأة السودانيّة، كما قريناتها العربيات في مجتمعاتهنّ، مجموعة من القيود المعنوية التي تؤطر صورتهنّ وتحددهنّ في قوالب جاهزة، إلى جانب أسباب كثيرة تساعد في بقاء المرأة العربية معزولة ومبعدة عن كل ما يحدث في مجتمعها، متأثرة ومؤثرة بحدود معينة.
عملت الفنانة السودانية آلاء ساتر على تقديم صورة ثوريّة عن شخصية المرأة السودانيّة، معتمدةً على مفهوم "نحن الثورة"
إن العرف الجديد الذي رسمت أبعاده المرأة السودانيّة خلال الثورة في بلادها غيّر القاعدة وبدلها، عبر تواجدها الدائم في واجهة المظاهرات التي دعت لإسقاط النظام في كانون الأول/ديسمبر من العام الفائت.
اقرأ/ي أيضًا: معرض أسامة بعلبكي.. شراكة شخصية مع العزلة
بالطبع تعرفنا على آلاء صلاح التي صارت أيقونة الثورة السودانيّة، وصورة تختزل دور المرأة في ثورة السودان، إلى جانب نساء أُخريات لعبنّ أدوارًا مختلفة، كُل واحدة في مجالها ومهنتها، منهنّ من كتبنّ الشعر ومنهنّ من تواجدن في ميدان الاعتصام، هتفن وتجمعن، كنّ حريصات على استمرار الاعتصام من خلال تواجدهنّ الدائم ودورهنّ المؤثر في ديمومته، لولا العنف الذي كان لهنّ منه نصيب كبير.
عملت نساء السودان خلال الثورة على بناء ذهنية جديدة يمكن من خلالها إعادة النظر إلى شخصية المرأة السودانيّة، وتحصيل اعتراف من المجتمع بوجودها، والنظر إلى أهمية دورها عند التفكير بالتحرر وتشكيل ملامح العدالة في المجتمع السوداني.
واحدة من كنداكات الثورة السودانية، كما باتت تُعرف النساء السودانيات المشاركات في الحراك، هي الفنانة التشكيلية آلاء ساتر، 25 عامًا، ترسم شخصيات كرتونية وكاريكاتيرية تعبّر من خلالها عن أفكار الثورة، وتعتمد في أعمالها على شخصية المرأة، بالإضافة لمشاركتها في الغرافيتي المعروف لشباب السودان في ميدان الاعتصام.
صورة المرأة التي تدعو للثورة
عملت آلاء ساتر على تقديم صورة ثوريّة عن شخصية المرأة السودانيّة، معتمدةً على مفهوم "نحن الثورة" We Are The Revolution، وقدمت سلسلة من الرسومات التي تعبر من خلالها عن حضور المرأة الضروري في أيّ صورة متخيلة عن الحراك الشعبي الثوري، كما لم تختزل الجملة صورة الثورة بالنساء، وإنّما أكدت على أحقية المرأة أيضًا بالتواجد في الميدان والمشاركة في الثورة، ظهر ذلك من خلال جداريات ورسومات وأعمال فنية متزامنة مع الثورة وخلال الاعتصام وحين فضه.
آلاء ساتر: "الشارع هو المكان الحقيقي الذي يختبر فيه الفنان ردة فعل المتلقي على عمله"
تقول آلاء ساتر لـ"ألترا صوت": "المرأة السودانية موجودة في الذهنية الشعبية في السودان على الرغم من أنها كانت مقموعة لوقت طويل، وهنا كان التحدي بالنسبة لها، أن تتواجد بشكلٍ دائم في الشارع وتثبت شرعية هذا التواجد، حتى يبدو عاديًّا ومقبولًا. إن الأمر الطبيعي أن يكون للمرأة دور في المظاهرات، على الرغم من أن المجتمع لا يقبل ذلك، ولكن هذا يتطلب التواجد الدائم في الشارع والقيام بمهام متعددة، هذا الأمر كسر الصورة النمطية للمرأة في المجتمع، حين صار يراها في كل مكان يخص الثورة".
اقرأ/ي أيضًا: هجار عيسى ولوحة المجاز
عند تقديم صورة المرأة وربطها بمفهوم الثورة، تُطرح الكثير من الأسئلة الإشكالية من قبيل لماذا النساء؟ وماذا يعني وجودهنّ؟ لذلك قد تستفز المجتمع أيّ محاولة لتكريس تلك الصورة وقد ظهر ذلك في وجوه عديدة. إحداها كانت جدارية لآلاء بالقرب من ميدان الاعتصام، تصور امرأة سودانية بأقراط ذهبية كبيرة، كُتب فوقها "المرأة مكانها المقاومة". تخبرنا آلاء بأنه تم التدخل في جداريتها والتعدي عليها من قبل رافضين لتلك الجملة، حيث قاموا بمسح كلمة مقاومة وكتبوا بدلًا عنها كلمة مطبخ، تعبيرًا عن أن الكلمة حملت بعدًا استفزازيًّا للشارع.
تكمل آلاء: "من هنا جاءت أهمية الجداريات التي تقدم شخصية المرأة، من خصوصية حضور المرأة فيها، ولأنها تستفز الناس فهم يرون من خلالها أفكار غير اعتيادية، في مكان غير اعتيادي مثل الشارع، كما أنها تساعدنا على طرح رأينا وموقفنا من كل ما يحدث في السودان".
المساحات المخصصة للقول اليوم صارت بين وسائل التواصل الاجتماعي وساحة الاعتصام، وهذا ما يجعل تلقي الأعمال الفنية أمرًا إشكاليًّا وغير متفق عليه، تقول آلاء ساتر، وتتابع: "الشارع هو المكان الحقيقي الذي يختبر فيه الفنان ردة فعل المتلقي على عمله، هو مؤقت ولكنه صادق أكثر، تعبيرات الناس حقيقية أكثر من تعليقاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن أن نختبر مدى تقبل الناس للأفكار النسوية التي نضعها في رسوماتنا، أكثر من انتظار عدد المشاركات والتعليقات، وهذا ما يحدث فارق كبير في علاقة المجتمع مع الفن".
جماليات الجسد الثائر
كل الرسومات والجداريات الخاصة بآلاء تندرج تحت مفهوم "نحن الثورة". فقد عملت من خلاله على إظهار الجانب الثوري وكسر البعد النمطي في تعاملها مع الجسد الأنثوي في اللوحات. حضرَ جسد المرأة السودانية في لوحات آلاء ساتر بشكلٍ أساسي، الأمر الذي أثر على قراءة لوحاتها وحرّض على التفكير في قراءة جديدة لحضور المرأة في المجتمع وأثرها في الثورة.
لوحة "ثوري" عبارة عن بورتريه أظهر ملامح الشخصية الأفريقية عبر الخطوط العريضة ودورها في تشكيل ملامح الوجه والفراغ الذي يحيط به. عملت الفنانة من خلال اللعب على الخطوط العريضة لتكبير التفاصيل المميزة للوجه، وهذا ما يميّز رؤيتها لشخصية المرأة السودانية، فقد أبرزت رسوماتها ملامح سودانيّة خاصة في تصوريها شخصية المرأة، ومنحتها خصوصية في تركيزها على ثيمة جسد المرأة الحاضر دومًا، ساعدها ذلك في الابتعاد عن التنميط، ومحاولة خلق تصور جديد لجسد المرأة يتماهى مع خصوصية المكان وأهمية الحدث الحاصل على الأرض.
لذلك تشربت رسومات آلاء ساتر عن المرأة السودانية الثائرة روح الثورة الواقعة، واستطاعت أن تجعل منها أيقونة مجردة.
تعتمد آلاء ساتر في لوحاتها على تكوين خاص للجسد عبر المبالغة في إظهار حجمه وإبراز ملامحه، فصار الجسد يشغل حيزًا كبيرًا من الفراغ، يمنحه هذا التصميم بعدًا بطوليًّا، معتمدةً على الخطوط المتداخلة لتشكيل نوع من أنواع الترابط والتضامن الذي تقدمه اللوحة عبر التأكيد على رسم الجموع وإظهار مدى قوة الجسد المكون من خطوط عريضة وبلون غامق. المبالغة بالشكل، شكل المرأة أو الرجل، وتصوريه بشكلٍ طويل وممدود يذكرنا بشخصيات الرسام غوستاف كليمنت، الشخصية السودانية تملأ الفراغ بجسدها، تحتوي قوة يبرزها تكوين الخطوط، وتقدم انطباع عن الترابط بين الشخصيات الذي يعكسه التكوين، بهدف محاولة الخروج من تنميط صورة الجسد والتركيز على تفاصيل أخرى تجعل من الشخصيات أقرب إلى الواقعية، تشبه الحالة السودانية حد التطابق.
تشربت رسومات آلاء ساتر عن المرأة السودانية الثائرة روح الثورة الواقعة، واستطاعت أن تجعل منها أيقونة مجردة
أنسنة الشعارات عبر اللعب بالخطوط، كان تصورًا فريدًا لعبت من خلاله الفنانة آلاء ساتر على تكوين الكلمات وعلاقتها بالحدث والشخصية. مثل شعار "حرية، سلام، عدالة"، أهم شعارات الثورة السودانية، إذ صورته من خلال نسج روابط بين تكوين الكلمة، وشكل الجسد، معتمدة على وجود الجسد في كل ما تريد قوله أو التعبير من خلاله إن صح القول.
اقرأ/ي أيضًا: معرض فهد الحلبي.. البحث عن الخط العربي في المراسلات الإلكترونية
لم ينتهِ كسر التنميط عند هذا الحد، بل مضت آلاء ساتر مع فكرتها عن الجسد إلى مكان عميق مشبع بالأفكار المعادية لكيان المرأة، نرى ذلك في عدة رسومات معنونة بـ"حركات نسوان" وما يحمله هذا التعبير من اختزال لأفعال النساء، ونعتها بصفات سلبية.
ظهرت "حركات نسوان" في الرسومات على أنها خصوصية تميز المرأة السودانية أكثر من كونها صفة سلبية، هذا الانطباع الذي قد يتولد لدينا إثر رؤيتنا لمجموعة كبيرة من النساء مجتمعة في مكان ما، إلاّ أن اجتماعها في لوحات آلاء ساتر أعطاها البعد الثوري عبر ربطها بالحدث الاجتماعي الذي تعبر عنه وهو المظاهرات. كسر هذا التصور نمطية العبارة، حيث إن الفعل الوحيد الذي تقوم به هؤلاء النساء هو التواجد في المكان، وهو بحد ذاته يعتبر فعلًا ثوريًّا تقول من خلاله آلاء ساتر أن المرأة السودانية موجودة، ويجب التأكيد على وجودها.