كان ذلك عام العودة، تحقّقت أمور كانت في عداد المستحيلات، توحدت الشعوب والدول، ونبذت معظم الخلافات جانبًا، كان هنالك فائض في القدرات الإنتاجية والموارد، ونقص شديد في الخامات البشرية، حتى صار الصراع الأساسي على اجتذاب البشر للعيش عندك والعمل في بلدك أو منطقتك، وصارت غزّة إحدى أهم المدن التي يتم طلب ودّها وود أهلها.
لا شك أنك مستغرب عزيزي القارئ كيف حدث ذلك؟ الأمر بسيط، لقد احتاج الأمر أن تكاد البشرية أن تفنى حتى يحدث ذلك.
احتاجت البشرية بضعة سنين لتنسى موضوع فيروس الكورونا تمامًا، خصوصًا بعد اختراع التطعيم المضاد له، ولتعود إلى مصائد الجرذان القديمة، من ركض مستمر وراء عجلة الاقتصاد، لكن بالمقابل فالفيروسات كانت بالمرصاد حيث يبدو بالنتيجة أنها أذكى المخلوقات الكونية، فقد وجد العلماء لاحقًا أن فيروسًا جديدًا قد تطور، فيروسًا جديدًا معديًّا أكثر من الكورونا، فيروسًا انتشر بين معظم البشر ولكنه أسوة بالهربس، رقد حرفيًا في مخّ البشر ودخل في سبات عميق، لم يحدث أي ضرر ولم ينتبه إليه أحد، مجرد فيروس خامل بدأ في الانتشار لسبب غير معروف، وغير معروف أيضًا كيف جمع الفيروس الجديد صفات من فيروسات أخرى، كأنها التقت في اجتماع قمة لتنتج أفضل ما لديها، انتقلت عبر البقر والخرفان إلى البشر، وهنالك بدأت بالتضاعف مرة كل بضعة أيام، وكما أسلفت لم تكن هنالك أية أعراض جانبية فلم ينتبه أحد، ولم تتأثر سوق الأسهم بذلك، وفي خلال ذلك العام، "عام العودة" استطاع الفيروس التواجد في 95 % من سكان المدن في العالم، وعند 90 % من سكان الريف، وحدها بعض القبائل المعزولة في أفريقيا والبرازيل لم يتغير عليها شيء .
ولكن في كلّ هذا الجنون وفي خضمّ الانتشار، كانت غزّة وإسرائيل مشغولتان في أمر آخر تمامًا، كانت طبول الحرب تقرع، فبعد هدنة طويلة الأمد، احتاجت إسرائيل إلى تجربة أسلحتها الجديدة، واحتاج الفلسطينيون اللاجئون في غزة إلى العودة، كما احتاجت قيادتهم إلى تحوير توقهم وغضبهم وجوعهم إلى عدوّ.
بدأ حصار هو الأشدّ في تاريخ هذه المدينة المنكوبة، حتّى الماء أصبح ترفًا، تجده كيف تشرب في أفضل الأحوال مع قليل من الملوحة، والحمّام فقط بمياه البحر المجبولة بمجاري المدينة، كانت جولة طويلة، فالشاب الفلسطيني الذي لم ير جبلًا في حياته، كان مستعدًا أن يقطع السياج فقط كي يدعس هناك ويموت، وإسرائيل غير مستعجلة في ميزان قوة مستحيل يجعلها تختار معادلة القتلى وعدد الجنازات وأسعار الأسلحة المجرّبة حديثًا، كي تبيعها لسفاحي أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
هكذا بينما كان الفيروس يتمدد بهدوء وسلاسة عبر أطراف هذه الكرة، كانت غزّة – كعادتها – تعدّ قتلاها وتدفنهم جماعيًّا بينما تُحاصر برًا وجوًّا وبحرًا.
استمر الحال ستة أشهر كاملة، ستة أشهر من الموت، أصبحت ستة أشهر من الحياة، لو قدّرت لك قدرات التحكّم بالموت والحياة، وفوضناك في مصائر البشر. ولكن وضعنا أمامك خيارًا، إما أن يموت الجميع، أو يموت البعض ليحيى البقية، أو لربما يموت الباقي لتحيا عائلتك، كم شخص أنت مستعد أن تقتل حتى تحافظ على الباقي؟ هذه هو تمامًا منبع قدرة البشر على أن يصعدوا صباحًا على طائرة، يضغط زرًا صغيرًا يقتل عددًا عشوائيًا بين واحد ومائة ألف، ويعود ليتناول العشاء مع أطفاله ويحكي لهم قصة قبل النوم.
المهم أن تلك الأشهر الستة كانت إغلاقًا كاملًا، أخّرت هذا الفيروس من دخول غزة بينما كان يتضاعف كل عدة أيام تقريبًا في عقول البشر. تلاها أيضًا حصار شديد وتحكّم كامل في نوعية وكمية الطعام والأدوية الداخلة، لقد مات عشرات الآلاف من الشباب في أسوأ حرب عرفتها غزة، أسلحة أوتوماتيكية وكيميائية وآلات محوسبة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تحديد من سيموت ومن سيدفن قتلاه.
لم ينتبه البشر إلى قتيل هنا وهناك في معامل الطاقة الذرية، تبين لاحقًا أن إشعاعًا نوويًّا بكمية معينة يطلق هذا الفيروس المحسّن ليصبح قنبلة، ويلتهم عقلك التهامًا فتسقط ميتا خلال أقل من أسبوع، وحينما يحدث ذلك يكون الوقت متأخرًا أن تشفى، حدث ذلك في روسيا وإسرائيل وإيران، ثم تلتها تقريبًا كل الدول التي تملك مفاعلات ذرية، سواء سلمية أو بهدف الإبادة الجماعية، حيث تعدّت كما يبدو هنالك عدادات الإشعاع في المفاعلات النووية المنطقة الدنيا بقليل ورغم أن كان ذلك يعد إشعاعًا مسموحًا به، لكن الفيروس امتلك معادلات أخرى وهكذا مات بضعة علماء الذرة وعمال النظافة في عشرين دولة تقريبًا، في ما بدا كمؤامرة لتنظيف العالم من أسلحة الدمار الشامل، حاولت منظمات البيئة استثمار ذلك لتحفيز الدول على التخلص من مفاعلاتها، بينما حال التكتم الشديد لتلك الدول من معرفة العامّة للأسباب الحقيقية للوفاة، التي بدت كأعراض جانبية للتعرض للإشعاع الزائد، لم يستغرق الأمر كثير حتى وضح لكل من هم في المناصب العليا سبب هذا الموت، وبدأوا حقًا بتطوير عقار يقضي على الفيروس، وهو أمر يتطلب عامًا كاملًا في أقل تقدير، ولكنهم لم يتصورا حقًّا أن هذا الفايروس كان قد استولى تقريبًا على البشرية كاملة، ما عدا المحاصرين منهم .
ثمّ جاء النيزك، تزامنٌ قاتل غريب، نيزك بحجم مدينة صغيرة، انحرف عن مساره ليتوجه مباشرة إلينا، ينظر في أعيننا ويبتسم كأنه يقول لكل مريديه: ها أنذا جئتكم أخيرًا.
اجتمعت الدول العظمى، وحضرت أيضًا الدول النووية لكي تتشاور في إرسال صواريخ بالستية تدحض هذا الشرّ العظيم القادم. تم تجهيز صاروخين، كان احتمال فشل الأول أقل من واحد بالألف، فتكنولوجيا القتل الحديثة تطورت جدًا، وقد مرّ حوالي القرن منذ أطلقت للولايات المتحدة مشروعها "حوض السمك"، عندما فجرت قنبلة نووية في الفضاء أسمتها مشروع "نجم البحر"، ومنذ ذلك الحين صار بإمكان الصواريخ الموجهة الدخول من شبّاك المنزل، فكم بالحري إصابة نيزك بحجم مدينة يتوجه إلينا بمسار شبه مستقيم، حتّى لو كان يتوجه بمائة ضعف لسرعة الصوت.
تم تحديد نقطة اللقاء على مسافة ألف كيلومتر تقريبًا من الأرض، مزيج من الوقت اللازم للتجهز مع النقطة المثلى لنجاح الصاروخ، مع إبقاء مكان للصاروخ الثاني لإكمال مهمة ما فشل به الأول. خرج الصاروخ الأول يليه بثوانٍ قليلة الصاروخ الثاني، وفي ساعة الصفر حدث الانفجار تمامًا في المكان المفروض، ورغم النجاح شبه الكامل للصاروخ الأول، فقد تم تفجير بقايا النيزك على ارتفاع خمسمئة كيلومتر من باب الحيطة، ولو كان "الثمن" هو دفقة حميمية من الإشعاع استلمها كل سكان الكرة الأرضية في الأيام اللاحقة.
تلك الدفقة أخرجت الفيروسات في مكمنها لتقضي على 9 من كل 10 أشخاص من سكان الكرة الأرضية قاطبة، معظم الناجين لسبب غير واضح كانوا في العقد الرابع من عمرهم، ولم يتبقّ تقريبًا لا أطفال أو شباب ولا شيوخ.
وحدها غزّة نفضت الغبار الكوني، لتكتشف فجأة أن قتلى الحرب كانوا أكثر من قتلى هذا التحالف النيزكي الفيروسيّ. وأنها أصبحت المدينة الوحيدة التي يعيش فيها الأطفال والشيوخ، بل باتت من أكبر مدن العالم في عدد السكّان.
استغرق الأمر أشهرًا قليلة لاستكمال الأبحاث غير المركّبة، المتروكة في أروقة عدة دول لاستخلاص تطعيم سهل (بإيحاء من دواء زوفيراكس الذي يعالج الهربس) يتخلص تمامًا من الفيروس، ولكن بعد ما وقعت الواقعة.
فجأة لم يعد معنى للكثير من الأمور، أصبح البشر جنسًا موحّدًا لا يعير اهتمامًا كبيرًا لكل ما كان مرّة تابوهات العرق والدين والتاريخ، ولكنّ الأهم من كل ذلك أن أطفال غزّة صاروا فجأة كنزًا، بل صاروا هم "الكنز" ومقابل كل طفل كان بإمكان عائلته الهجرة إلى أي مكان والحصول على كل التسهيلات الممكنة، من سكن ومساعدات مادّية مقابل "إحياء" تلك المدن الميّتة.
في البداية شعر الناس برغبة ملحّة بالعودة، كل ما عليهم الآن هو عبور ذلك السياج غير المحروس، فحتّى دولة إسرائيل تنازلت فجأة عن تلك العنجهية الدينية والرغبة في الخوف من الآخرين، مقابل الرعب في دفن وحرق تسعة ملايين قتيل خلال أيّام.
فقدت الأرض رونقها، أصبحت خرابًا، مجرد تراب، والكثير من الباطون المسلح الفارغ يجثم عليه، كشواهد قبور على ما كان.
أما أنا كغيري من الشباب بدأت بالتجول في أرض فلسطين الموعودة، طفتها من جنوبها لشمالها، مررت بأسدود بلد أجدادي، بحثت فيها عما حلمت به أجيال عديدة قبلي، لم أجد شيئًا، فأكملت رحلتي شمالًا، قطعت لبنان وسوريا وتركيا إلى أوروبا، أوروبا العجوز ماتت، صارت أثرًا بعد عين، أمعنت في مسيرتي حتى وجدت سفينة صغيرة مسافرة إلى آيسلاندا، دولة بمساحات فارغة أصلًا، لولا تيّار الخليج الذي يجلب الدفء لعاصمتها لما كانت بها حياة، منظر الطبيعة الخالية من مخلفّات البشر وحده الذي جلب لي الطمأنينة، لأسكن في قرية هنا في البراري وأتزوج امرأة في العقد الرابع لعمرها أملًا أن تستطيع الإنجاب حتى نعمّر هذه الخرابة.
اقرأ/ي أيضًا: