استوجبت الثورة في تونس، وفي إطار عملية التحول الديمقراطي، إحداث ثورة بالتتابع في المشهد المؤسساتي، وهو ما أدى لإرساء نظام سياسي جديد هو النظام النصف برلماني، كما تم إرساء مجلس أعلى للقضاء يتمتع بالاستقلالية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وكذلك محكمة دستورية، كما أحدث الدستور صنف الهيئات الدستورية المستقلة، التي تتولى مهامًا تنفيذية ورقابية خارج إطار السلطة التنفيذية.
هاجم السبسي الهيئات الدستورية المستقلة، التي هي نتاج الثورة وإحدى ضمانات الانتقال الديمقراطي في تونس
ولم تعرف تونس طيلة زمن ما قبل الثورة هذا الصنف من المؤسسات الدستورية، حيث كانت تستأثر السلطة التنفيذية بمختلف السلطات، وتتمتع بكل الصلاحيات، فلم يكن رئيسها، وهو رئيس الجمهورية، إلا الحاكم الأول والأخير في البلاد. ويأتي إحداث هذا الصنف الجديد من المؤسسات في إطار تكريس مفهوم جديد للسّلطة يتجاوز الأطر الكلاسيكية للمفهوم القديم للفصل بين السلطات.
اقرأ/ي أيضًا: 5 مؤشرات على عرقلة الرئيس التونسي لمسار العدالة الانتقالية
ولكن بعد مرور قرابة أربع سنوات منذ إقرار الدستور، لا تزال الهيئات القضائية والمستقلة غائبة عن المشهد، إذ لم يُنشأ أغلبها، إما بسبب عدم إصدار القوانين المنظّمة لها، أو بسبب تخاذل مجلس نواب الشعب في تركيزها، إضافة إلى أنه تعمل الهيئات الوقتية الموجودة منها في ظلّ حصار بسبب محدودية الموارد المالية وتعطيلات من مختلف أجهزة الدّولة.
وقبل أيام، وفي حوار له، هاجم رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، الهيئات المستقلة، متهمًا إياها بأنها تغوّلت على الدولة وأضحت تهدد استمراريتها. والحال أن غالبية هذه الهيئات إما غير موجودة وإما أنها تعاني من صعوبات من قبل السلطة التنفيذية نفسها، وهو ما جعل أحزاب المعارضة تعلن ناقوس الإنذار من مغبّة نسف الهيئات القضائية والدستورية، إحدى ضمانات الانتقال الديمقراطي في البلاد، حيث أوكل الدستور للقضاء مهمة "حماية الحقوق والحريات"، كما أوكل للهيئات الدستورية مهمة "دعم الديمقراطية".
صراع استقلالية القضاء
أعلن المجلس الأعلى للقضاء قبل أيام، عزمه مقاضاة رئيس الحكومة ووزير المالية بسبب عدم توفير الموارد المالية لتسيير أعماله، وهو ما يكشف عن مدى التوتر بين المجلس الناشئ والضامن لاستقلالية القضاء من جهة، والسلطة التنفيذية التي تتلكأ في توفير ظروف مناسبة لعمل المجلس من جهة أُخرى.
وبالعودة قليلًا للوراء، تعود بوادر نوايا إضعاف السلطة القضائية لداخل قبة البرلمان، قبل زهاء سنة، بمناسبة المصادقة على قانون المجلس، حيث أسقطته هيئة مراقبة دستورية القوانين بعد طعن المعارضة، قبل أن تعيد الأغلبية الحاكمة تمريره، ليتم الطعن فيه مرة ثانية، ولم تفصل الهيئة في دستوريته لتحيله إلى رئيس الجمهورية. وقد اعتبرت جمعية القضاة، والتي قادت نضال استقلالية القضاء زمن الاستبداد، أن قانون المجلس الأعلى للقضاء ظلّ مشوبًا بعدم الدستورية.
ولم يكن لاحقًا تركيز المجلس مفروشًا بالورود، إذ تعطّل لأشهر طويلة، مع رفض السلطة التنفيذية تسمية القضاة الساميين الذين تم اقتراحهم من قبل الهيئة الوقتية للقضاء العدلي.
كما كُشف مؤخرًا عن قرار هيئة دستورية القوانين بإحالة قانون المصالحة لرئيس الجمهورية لتعذرها مجدّدًا الحسم فيه، ولا ينحصر المشكل في وقوع الهيئة في فخ إنكار العدالة، بل في تعرضها لضغوطات من السلطة طيلة الأسابيع الماضية، إذ زادت تسريبات قيادات حزب نداء تونس الحاكم، حول قرار الهيئة قبل ساعات من إعلانه رسميًا؛ من كشف مدى اختراق السلطة للهيئة.
وكان من المفترض أن تحسم المحكمة الدستورية في قانون المصالحة ودستوريته، غير أنها لم تتركز بعد، رغم أن الدستور ينصّ على إنشائها بعد سنة واحدة من الانتخابات التشريعية. وبالتزامن مع تعطيل المجلس الأعلى القضاء، عطّل البرلمان إنشاء المحكمة الدستورية!
أين الهيئات الدستورية؟
نصّ دستور 2014 على إحداث خمس هيئات دستورية مستقلة، إضافة لهيئات مستقلة أخرى أنشأتها قوانين أساسية مثل "هيئة الحقيقة والكرامة" التي تتولى تنفيذ قانون العدالة الانتقالية، و"الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب"، إلا أنه رغم مرور قرابة ثلاث سنوات على إقرار الدستور، لا زال إرساء أو عمل هذه الهيئات، يشهد عراقيل حالت دون وجودها أو قيامها بمهامها، وذلك في ظل اتهام السلطة التنفيذية والتشريعية على الحد السواء، بعدم القيام بالتزاماتها.
رغم وجود وزارة مختصة بإعداد قوانين لهذه الهيئات، لكن الحكومة لم تقدم إلا مشروع قانون وحيد وهو الخاص بهيئة حقوق الإنسان
وتتمثّل الهيئات الخمس التي وردت في الدستور في "هيئة الانتخابات"، و"هيئة الاتصال السمعي البصري"، و"هيئة حقوق الإنسان"، و"هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة"، و"هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد". وعدا "هيئة الانتخابات" الموجودة بطبعها منذ سنة 2011، لم تر أي من بقيّة الهيئات النّور إلى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: عامان في عمر الدستور التونسي.. والتفعيل منقوص!
ورغم وجود وزارة من مهامها إعداد القوانين المنظمة لهذه الهيئات الدستورية، لم تقّدم كل الحكومات بعد إقرار الدستور إلا مشروع قانون وحيد بخصوصها، وهو يتعلق بـ"هيئة حقوق الإنسان"، ولم تقع بعد المصادقة عليه، فيما لم يقع تقديم مشاريع قوانين بخصوص بقية الهيئات. وقد أشارت منظمة بوصلة في وقت سابق، وهي جمعية مدنية تراقب أداء البرلمان، إلى غياب خارطة طريق للتطبيق التشريعي للدستور وسن قوانين الهيئات الدستورية.
في الأثناء، قدمت الحكومة مشروع قانون يتضمن أحكامًا عامّة للهيئات المستقلّة، وصادق عليه البرلمان في الصيف الفارط، غير أنه عمل على تحجيم الهيئات واستقلاليتها، فكان طعن المعارضة في دستوريته وجيهًا، ليقع إسقاط العديد من فصوله منها منح البرلمان حق إعفاء الأعضاء، وإعطاء البرلمان صلاحية المصادقة على تقاريرها المالية. ليمثل هذا القرار مجدّدًا شاهدًا على سعي السلطة التشريعية في المسّ من استقلالية الهيئات المستقلّة.
هيئات موجودة لكن معطلة
تنشط حاليًا هيئات وقتية، اُحدثت بعد الثورة، تمارس نشاطها ريثما يتم إرساء الهيئات الدستورية القارة. ومن بين الهيئات الوقتية هناك هيئة مختصّة بالاتصال السمعي البصري، وتعاني من صعوبات في أداء مهامها، وفي عدم قدرتها على بسط سلطتها التعديلية بالشكل المطلوب على المشهد السمعي البصري في ظلّ الانتقادات الموجّهة للنصوص القانونية المنظّمة للقطاع الإعلامي بعد الثورة. وهي نصوص يكاد يُجمع المختصون على ضرورة مراجعتها، إذ لازال ينتظر أهل القطاع إرساء الهيئة الدستورية القارة لتعويض هذه الهيئة الوقتية وتعديل القانون المنظّم للقطاع.
كما تنشط حاليًا الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي يترأسها العميد السابق للمحامين شوقي الطبيب، إلا أنّها تعاني من صعوبات نتيجة محدودية مواردها المالية واللوجيستية، وهو ما جعل رئيسها دائمًا يطالب بتوفير الإمكانيات الضرورية للقيام بمهامه.
كما تعاني هيئة الحقيقة والكرامة التي تتولى تنفيذ مسار العدالة الانتقالية من صعوبات جسيمة في أداء مهامها، بسبب محدودية تعاون أجهزة الدولة، وتحديدًا وزارة الداخلية، التي رفضت التمكين من النفاذ إلى أرشيفها رغم أن قانون العدالة الانتقالية يمنح هيئة الحقيقة والكرامة صلاحيات استثنائية للنفاذ للأرشيف بدون أي قيود، وذلك بهدف كشف انتهاكات حقوق الإنسان.
والحال نفسه بالنسبة لهيئة الوقاية من التعذيب، والذي تتولى مهام مراقبة أماكن الاحتجاز والسجون، حيث ظلت دون إمكانيات إدارية ومالية للقيام بمهامها، لتبين في حال شلل تامّ حتى أعلنت رئيستها الحقوقية حميدة الدريدي استقالتها بسبب العراقيل.
تهديد للديمقراطية الناشئة
يكشف عدم التزام السلطتين التشريعية والقضائية بتطبيق أحكام الدستور من حيث إحداث الهيئات القضائية والدستورية، وعدم توفير ضمانات استقلاليتها وتسيير أعمالها؛ عن رفض انخراط المنظومة الحاكمة بشكل جدّي في النظام السياسي الجديد، والذي يقوم على فكرة محورية، هي عدم تركيز كل شيء في يد سلطة واحدة، على غرار السلطة التنفيذية في عهد ما قبل الثورة، الذي كانت تسيطر فيه السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وتستحوذ على صلاحيات الهيئات الدستورية في مجالات الانتخابات والإعلام وغيرها.
التصريحات الأخيرة للسبسي تؤكد عدم التزامه بإنفاذ ضمانات الديمقراطية الناشئة في تونس، ما يزيد مخاوف الانتكاسة لعصر ما قبل الثورة
وتؤكد التصريحات الأخيرة للرئيس السبسي عن عدم التزامه بإنفاذ ضمانات الديمقراطية الناشئة، لتزيد من مخاوف انتكاسة الانتقال الديمقراطي الذي يسير ببطء. ولعلّ بعض القوى لم تستوعب أن قوّة الدّولة وهيبتها لا تُقاس بسيطرة السلطة التنفيذية عليها، بل تُقاس بضمان التوازن بين السلطات وتوفر آليات رقابية فيما بينها تكفل عدم تغوّل سلطة منها على الأخرى. ففي هذا الجانب، تأتي بالخصوص الهيئات الدستورية التي تمثل جدار صدّ ضد انحرافات السلط التقليدية، وضمانة لتدعيم الديمقراطية التونسية.
اقرأ/ي أيضًا:
4 نقاط تشابه بين عهدي بورقيبة والسبسي.. فهل يكرر التاريخ نفسه؟