بث التلفزيون العربي مساء الإثنين مقابلة مع المفكر العربي عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تطرق فيها إلى ثلاثة ملفات رئيسية، هي على التوالي ملف الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها على شكل النظام العالمي وتحالفاته، وملف العمليات الإسرائيلية ضد إيران وما قد تؤدي إليه من تصعيد في المنطقة، وأخيرًا ملف الديمقراطية التونسية في ظل توجهات قيس سعيد الدكتاتورية.
اعتبر عزمي بشارة أن الحرب الدائرة في أوكرانيا تمثل مرحلة فاصلة في التاريخ الأوروبي، حيث إن ما يميزها أن أي طرف لم يحاول تجنبها
واعتبر عزمي بشارة أن الحرب الدائرة في أوكرانيا تمثل مرحلة فاصلة في التاريخ الأوروبي، حيث إن ما يميزها أن أي طرف لم يحاول تجنبها، علمًا بأن المؤشرات الدالة على اندلاعها كانت واضحة، وكانت التأكيدات الأمريكية بإعداد بوتين العدة للحرب متواترة. ورأى بشارة أنه كان بإمكان حلف شمال الأطلسي "الناتو" تجنب الحرب لو دخل في حوار مع روسيا حول الشروط التي طرحتها ولا سيما الشرط المتعلق بانضمام أوكرانيا للحلف.
وكما كانت الاستجابة الغربية لغزو روسيا لأوكرانيا قوية، حسب بشارة، كانت الحرب أيضًا بالنسبة للولايات المتحدة أحد الأمور الرئيسية التي جعلتها "تقف على قدميها الخلفيتين وفقًا للتعبير الأمريكي الشائع". فمع أن روسيا عبّرت عن نزعتها نحو التمدد في شرق أوروبا منذ فترة من خلال ضم القرم والتدخل في سوريا، فإن الاستجابة الأمريكية الغربية إزاء هذا التمدد كانت ضعيفة ورمزية. لكن ما شكّل منعرجًا حاسمًا في الاستجابة الغربية كان أساسًا ما أثير حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، والحرب التي شنتها على أوكرانيا.
وحول ما يثار حول فرضية المواجهة الأمريكية الروسية في مقابل المواجهة الأمريكية الصينية، رجح بشارة أن ينصب التركيز الأمريكي هذه المرحلة على بوتين بدلا من بكين، في ظل صعوبة تحييد الصين التي تتفق مع روسيا على ضرورة إنهاء العالم ذي القطب الواحد. فقد وجد بايدن في حرب روسيا على أوكرانيا فرصة مناسبة لهزيمة بوتين والانتصار عليه، لكنّ رغبة بايدن الشخصية في تحطيم بوتين اصطدمت بوجود اختلافات في الاستراتيجية الأوروبية، فموقف فرنسا وألمانيا يميل إلى التسوية السياسية والديبلوماسية للوصول إلى حل سياسي. وبالتالي فإن بوتين ذا التوجه الإمبراطوري بنزعته القومية لم يهزم بعد حسب بشارة، لكنه في المقابل لم ينجح في تحقيق أهدافه التي رسمها أيضًا، بل كلفه غزو أوكرانيا ثمنًا باهظًا بسبب حجم العقوبات غير المسبوق والدعم الأوروبي المستمر لأوكرانيا. أمام ذلك، قلص بوتين أهدافه إلى السيطرة على مناطق محدودة شرق أوكرانيا على غزار دونباس. وهي سيطرة غير مسلّم بها أوروبيًا.
واعتبر بشارة في هذا الصدد أن بوتين أساء التقدير باعتقاده أن الديمقراطية الأوروبية في حالة ضعف، بعد التعاطي الأوروبي الخجول مع ضم القرم والاغتيالات التي اتّهمت روسيا بتنفيذها، والاختراق الذي حققته روسيا في سوريا. فخلافًا لما سبق، شعرت أوروبا أن حرب بوتين على أوكرانيا بمثابة تهديد حقيقي لأمنها وخطر جيو استراتيجي محدق ببلدانها. ونبه بشارة في هذا السياق إلى أن الرئيس الروسي يعد أحد الزعماء القلائل الذين يدخلون عناصر أيديولوجية في خطاباته تتعلق بمعاداة الديمقراطية بشكل منهجي.
لم يشن بوتين حربه على أوكرانيا دون حساب عواقبها، فقد كان يعرف أن بعض العقوبات ستؤدي إلى عواقب وخيمة عالميًا، خاصة في ظل الاعتماد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية، كما أن عدم تصدير القمح الأوكراني سيؤدي لرفع صادرات روسيا من القمح، فأوكرانيا لم تستطع تصدير سوى %30 من قمحها عبر البر.
وتفاعلًا مع سؤال على صلة بالهيمنة الأمريكية عالميًا وصعود الصين وروسيا كمنافسين، اعتبر المفكر العربي اعتمادًا على مؤشرات نوعية تتعلق بحجم الإنفاق العسكري، والتعليم، ودخل الفرد الذي يصل 63 ألف دولار في الولايات المتحدة، مقابل 10 آلاف دولار في الصين، أن الولايات المتحدة ستبقى لفترة طويلة القوة التي لا تضاهى عسكريا واقتصاديا وعلميا.
وحول استفادة المنطقة العربية من الأوضاع التي قادت إليها الحرب في أوكرانيا، قال بشارة إنها "ممكنة لو كان هنالك فاعل عربي موحّد، فما يوجد حاليًا هو دول عربية متباينة في مواقفها، لا يميز قادتها بين مصلحة النظام ومصلحة الدولة، فلأول مرة تسنح فرصة منذ سنة 1973 ليكون العرب فاعلين في المشهد الدولي في ظل ارتفاع أسعار النفط، وتوجه الدول الغربية نحو الدول العربية النفطية والطاقوية لموازنة الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية. حيث الفرصة الآن مواتية وذهبية لطرح قضية القدس والحصول على نتائج فيها، بالتزامن مع زيارة بايدن للمنطقة، وهي زيارة قد تضيع كسابقاتها لأن الرؤساء الأمريكيين أثناء زيارتهم للمنطقة لا يواجهون بأجندة عربية.
التصعيد الإسرائيلي ضد إيران وزيارة بايدن للمنطقة
نفّذت إسرائيل 400 غارة في سوريا منذ اندلاع الثورة السورية، واستهدفت تلك الغارات في الغالب مواقع إيرانية، لكن الجديد، حسب بشارة في الاستهداف الإسرائيلي لإيران، هو مهاجمة إيران مباشرة، كاستراتيجية إسرائيلية معلنة. واعتبر بشارة أن التكثيف الحاصل حاليًا في استهداف إسرائيل لأهداف إيرانية حصل بضوء أخضر أمريكي، فتكثيف العمليات الإسرائيلية حدث بالتزامن مع فشل مسار فيينا وانسحاب إيران من مباحثات الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة والغرب. وقد فهم الإيرانيون الرسالة حسب المتحدث، ولذلك عادوا للحوار في الدوحة رغم فشله. واعتبر مدير المركز العربي للأبحاث أن الإيرانيين معنيون بحل في حال شمل رفع العقوبات المفروضة على الحرس الثوري الإيراني الذي هو جزء من الجيش الإيراني.
وحول التقارب مع إيران، اعتبر المفكر العربي أن الحوار السعودي الإيراني والحوار المصري القطري والمصري التركي جيد للمنطقة، وأنه ينبغي التفاهم مع إيران حول قضايا محددة، فمنذ الثورة الإيرانية تحول التوتير الطائفي إلى وسيلة لتعطيل الدول العربية، وبالتالي يجب أن تكون المصالح المشتركة في صدارة التفاهم مع إيران، وكذلك الاتفاق على عدم التوتر الطائفي. فيمكن لهذه الدول أن تختلف سياسيًا دون أن تدخل في حرب أو في توتر طائفي.
وحول التطبيع مع إسرائيل الذي تحول إلى تحالف، وما يثار حاليًا عن تشكيل تحالف ثلاثي أمني عربي مع إسرائيل بإشراف أمريكي، فقد اعتبر بشارة أن هذا التحالف جار بغض النظر عن زيارة بايدن، فتطبيع المغرب والإمارات والبحرين قائم، ودافعه الرئيسي هو تشكيل قوة مؤثرة لهذا التحالف في واشنطن، لكي لا يتكرر ما حدث في 2011 والموقف الأمريكي حينها من الثورات، فأكثر شيء مرعب بالنسبة لإسرائيل وحلفائها في المنطقة هو نجاح التحول الديمقراطي عربيًا.
أي مصير ينتظر الديمقراطية التونسية؟
خصص بشارة الجزء الأخير من حواره مع التلفزيون العربي للحديث عن مشروع الدستور الجديد الذي كشف بشكل لا لبس فيه نية قيس سعيد للانفراد بالسلطة وتأسيس دكتاتورية جديدة في تونس والانقلاب على الديمقراطية التونسية، مستفيدًا من دعم القطاع الأمني والجيش والتذمر الشعبي من فشل البرلمان والحكومة.
وصف بشارة مشروع الدستور الجديد بأنه دستور الرئيس ويمثل مهزلة حقيقية، وكان ذلك واضحًا بتسمية الهيئة التي عهدت إليها مهمة كتابته بهيئة استشارية عكس الهيئة التأسيسية التي كتبت دستور 2014. كما كان واضحًا أنه دستور الرئيس من خلال تبرؤ أعضاء الهيئة الاستشارية منه بعدما تصرف قيس سعيد في المسودة التي قدموها إليه. واعتبر بشارة، الذي قدم قراءة معمقة في فصول دستور قيس سعيد، أنه يتجه لتأسيس نظام رئاسي سلطوي، خاصة الفصل 96 الذي وضح أنه "يتوافق مع نظريات الرئيس صاحب السيادة وليس الشعب وإعطاء الرئيس الحق في اتخاذ التدابير الاستثنائية". هذا فضلًا عن تقزيم دستور قيس سعيد السلطة التشريعية وشلها، وإعطائه صلاحية تشكيل المحكمة الدستورية بواسطة قضاة معينين.
كما أشار عزمي بشارة في غضون ذلك إلى الدور السالب للاتحاد التونسي للشغل من المسألة الاقتصادية ومن انقلاب سعيد. ولفت النظر إلى أن دستور قيس سعيد حول النقاش من الموقف من الانقلاب على الدستور إلى مسألة دين الدولة الذي هو محاولة مدروسة لإحداث انقسام على غير موضوع الديمقراطية. فإذا كانت الدولة شخصية معنوية فالأمة أيضًا كذلك. وما دام سعيد يقصد الأمة التونسية وليس الإسلامية فلماذا يزايد على بورقيبة في مسألة دين الدولة؟
أما حول ادعائه أن السلطة للشعب والبقية وظائف. فهذا تمويه لعملية تركيز السلطات كلها في أيدي الرئيس. فالشعب لا يحكم مباشرة (عدنا إلى الشخصية المعنوية)، الشعب ليس السلطة بل مصدر السلطة في الجمهوريات. فمن يحكم إذًا؟ فرد واحد يستولي على جميع السلطات، أم مؤسسات مختلفة توازن وتراقب بعضها؟
كشف مشروع الدستور حسب بشارة نية قيس سعيد الانفراد بالسلطة وتأسيس دكتاتورية جديدة في تونس والانقلاب على الديمقراطية التونسية
ويتساءل المفكر العربي في حديثه، عندما علق الرئيس البرلمان وقام بحله وأقال مجلس القضاء وعزل قضاة وأصدر مراسيم تسيّر البلاد وكأنها في حالة حرب: هل قام بهذا كله بوصفه موظفًا؟! مؤكدًا أنه قام بهذا كله بوصفه سلطة صادرت بقية السلطات، بمساندة أجهزة الأمن. أما القضاء، فكان دائما سلطة، بل من أهم سلطات الحاكم (الملك، الإمام إلخ). وسمي حاكمًا أصلا بسبب سلطاته القضائية، فأصل الحكم هو الحكم بين الناس. أما السلطة التشريعية فهي السلطة الأقرب إلى مفهوم السيادة أصلًا. والتهوين من أمر مصادرتها بتسميتها وظائف، كما يشير المفكر العربي، لا يغير من حقيقة مصادرتها من طرف الرئيس.