في الساعات الأولى من صباح الأربعاء الماضي، أفادت شرطة باريس أن سيارة صدمت جنودًا فرنسيين مشاركين في عملية "سانتينيل" لمكافحة الإرهاب، في ضاحية لوفالوا بيريه، شمال غرب العاصمة الفرنسية، فيما عرف فيما بعد بـ"اعتداء لوفالوا"، وقد نتج عنه إصابة ستة عسكريين، اثنين منهم يعانون إصابة خطرة، بينما هرب السائق بسيارته من تلك المدينة "الهادئة، الفقيرة، التي لم تقعْ بها أي أحداث"، وفق قول رئيس البلدية باتريك بالكاني، لقناة "بي إف إم تي في" الفرنسيّة، مُضيفًا أنّ "العمل الإرهابي كان متعمَّدًا، ومقصودًا به الضباط، فقد اندفعت (السيارة) بعنف تجاههم".
منذ الهجوم على شارلي إبدو في 2015، تشهد فرنسا عمليات إرهابية راح ضحيتها 239 قتيلًا، واستهدفت بعضها قوات أمنية
وتشهد فرنسا عمليات شبيهة متتالية، بعد حادث الهجوم على صحيفة شارلي إبدو في 2015. وهي عمليات نفذها جهاديون متطرفون، أوقعت في مجملها 239 قتيلًا، واستهدفت آخرها قوات الأمن في مواقع وصفتها "فرانس 24" بأنها "ذات رمزية وقيمة".
ما الرمزية في الأمر؟
تستهدف تلك العمليات الإرهابية جنود ما يعرف بـ"عملية سانتينيل" المخصصة لمكافحة الإرهاب في فرنسا. منفذوها ممن يطلق عليهم "الذئاب المنفردة"، التي تطلق الرصاص أو تدهس بسيارة قبل أن تفر هربًا وقد أخذت نصيبها من الدم.
اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح الدهس بالسيارة سلاحًا مفضلًا لدى الإرهابيين؟
وقد وقعت خمس عمليات إرهابية بخلاف اعتداء لوفالوا استهدفت جنود العملية، التي استمرّت لعامين، وكل الأدلة تشير إلى فشلها في تحقيق أي شيء ممّا انطلقت لأجله.
ما هي "سانتينيل".. وما تكلفتها؟
"سانتينيل" عملية لمكافحة الإرهاب، تقوم بها قوات أمن فرنسية، دشنها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، ونُشرت في الأراضي الفرنسية بعد هجوم صحيفة شارلي إبدو في كانون الثاني/يناير 2015، بهدف تأمين المواطنين والمواقع الحساسة كالمراكز الدينية والأماكن العامة والسياحية وكذا الفعاليات الرياضية.
بعد اعتداء نيس في تموز/يوليو 2016، جدّد هولاند ثقته في عملية سانتينيل لتأمين الأراضي الفرنسية بكامل قوتها، وأضاف لها قوات الشرطة والدرك، وعزّز قدرتها مرة أخرى بعد اعتداءات 13 تشرين الثاني/نوفمبر في منطقة "أيل دو فرانس"، ورفعها من سبعة آلاف عسكري إلى عشرة آلاف، مع تذليل حالة الطوارئ لها وتمديد العمل بها حتى الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
وتكلّف عملية سانتينيل خزينة الدولة في فرنسا 400 ألف يورو يوميًا، ارتفعت مؤخرًا إلى مليوني يورو يوميًا. وبلغت تكلفة العملية الإجمالية خلال 2016 فقط 270 مليون يورو نتيجة تعبئة 70 ألف جندي.
شهادة فشل عملية سانتينيل
يدلّل فرنسيون على فشل عملية سانتينيل بوقوع عدّة هجمات بلغ عددها ستة، استهدفت عسكريين وشرطيين فرنسيين، وتعرض جنود مشاركون في عملية سانتينيل لاعتداءات عدّة، من بينها واحدة في نيس عام 2015، وأخرى بمطار أورلي في نيسان/أبريل، والثالثة والرابعة في آذار/مارس 2017 قرب متحف اللوفر، إضافة إلى سبع محاولات اعتداء فاشلة، وفق قول وزير الداخلية الفرنسي جيرار كولومب بداية آب/أغسطس الجاري.
أدّت تلك الهجمات إلى وقوع مئات العسكريين، ومثلهم من المدنيين، فجنود العملية العابرة للرؤساء تحوّلوا من أداء دور الحماية، إلى البحث عن الحماية لأنفسهم، من الذئاب المنفردة، بعد أن أصبحوا هدفًا لهم.
انقلب دور قوات عملية سانتينيل من حماية المواطنين إلى البحث عن حماية لها، بعد أن أصبحت هدفًا للعمليات الإرهابية
آخر الهجمات، التي كانت فاضحة لاستراتيجية العملية الأمنية، قام بها شاب فرنسي من أصل موريتاني في الثامنة عشرة من عمره الأسبوع السابق لاعتداء "لوفالوا"، حين اقتحم مركز مراقبة أمني لبرج إيفل قبيل منتصف الليل، وشهر سكينًا وهو يصرخ "الله اكبر". توجه إليه عسكريو دورية أمنية في المنطقة، واستطاعوا السيطرة على الموقف، واعتقال الشاب.
اقرأ/ي أيضًا: عن الهجمات الأكثر دموية في تاريخ فرنسا
تبين أن الشاب سبق وأن دخل قبل بضعة أشهر مستشفى للأمراض العقلية، حيث أخضع للعلاج قبل أن يُؤذَن له بالخروج. وكان غريبًا الضعف الأمني الذي سمح للشاب باقتحام برج مراقبة أمني، مرورًا على كافة البوابات الأمنية وحراساتها، دون توقيف!
تغطية على فشل المخابرات الفرنسية
في تصريح لـ"فرانس 24"، علّق لويس كابريولي، مدير مكافحة الإرهاب بالاستخبارات الفرنسية سابقًا، على استمرار العمليات الإرهابية، رغم وجود عملية مقابلة لمواجهتها يُنفَق عليها مبالغ طائلة؛ قائلًا إن هناك تضخيم من السلطة الفرنسية لعملية سانتينيل، لافتًا إلى جنود سانتينيل لم يمنعوا وقوع هجمات إرهابي لأن دورهم يأتي بعد وقوع الهجمات، من خلال التمشيط وتطمين أهالي المناطق إلى أنه لا حادث آخر سيقع. وربما يفسر ذلك حادث اقتحام شاب لمركز مراقبة أمنية دون أن يتعرّض له أحد، فهم ينتظرون وقوع الحادث أولًا. واعتبر كابريولي أنّ سانتينيل ليست إلا "محاولة للتغطية على فشل المخابرات في تتبع الإرهابيين ومخططاتهم".
ويثير نشر جنود بصورة مكثفة على الأراضي الفرنسية جدلًا بين نواب ومسؤولين وسياسيين وأصحاب رأي؛ إذ يتساءل البعض، وخصوصًا من اليمين والعسكريين، عن جدوى استمرار العملية الفاشلة، التي تستنزف أموال المواطن الفرنسي، ولا ينال منها إلى حصة من قتل مواطنيه من الجيش والشرطة، الذين أصبحوا هدفًا مباشرًا للإرهاب "كيدًا في العملية"، ولا تحمي المدنيين، ففي رأي البعض إنها "دعاية لتجميل وجه السلطة الفرنسية".
وتدليلًا على فشل إيمانويل ماكرون في الحرب على الإرهاب، رغم علو صوته عنها، نشرت وكالة الأنباء الفرنسية "أ.ف.ب"، رسمًا توضيحيًا يُبين الهجمات التي تعرض لها رجال الشرطة والعسكريين خلال عام 2017.
بينما جاءت معالجة صحيفة "لو فيغارو" الفرنسيّة للهجوم على الشرطة والعسكريين، مقاربة لما ترمي إليه "فرانس 24" و"أ.ف.ب"، فقالت في العدد التالي لاعتداء لوفالوا: "أصبح الجنود ورجال الشرطة الفرنسيين هدفًا رئيسيًا للجهاديين، واستهدافهم ضربٌ في صميم الجمهورية الفرنسية".
ووفقًا لـ"لو فيغارو"، فإن بعض المحللين يرون في نشر القوات الفرنسية واستهدافها استنزافًا للأمن الفرنسي، ويستفسرون عمَّا سيفعله إيمانويل ماكرون، لأنه وعد أثناء حملته الانتخابية بأخذ تطور الهجمات الإرهابية في عين الاعتبار، متسائلين عن جدوى نشر القوات في الشارع، والذي "يجعلها صيدًا سهلًا"، بتعبيرها.
ودعا الجنرال المتقاعد، فنسنت ديسبورتيس، ماكرون والحكومة إلى إعادة النظر في العملية، تشكيكًا في جدواها، قائلًا، في تصريحات لمحطة "بي إف إم تي في"، الفرنسية إن هذا الانتشار لقوات الأمن في إطار العملية "يوفر أهدافًا سهلة للحماقة الدموية التي يرتكبها تنظيم داعش، ويمثل عبئًا على كاهل القوات المسلحة".
حيال تلك التصريحات من جانب خبراء بالمجال نفسه، لم تجدْ فلورانس بارلي، وزيرة القوات المسلحة الفرنسية، في حديثها عن اعتداء الأربعاء الماضي، قولًا غير: "لا يوهن (الهجوم الإرهابي) إطلاقًا من عزيمة العسكريين في صيانة أمن الفرنسيين"، ولكن السؤال هو: إلى متى؟!
تكلفة باهظة وبطالة مرتفعة
من وجهة نظر قطاع عريض من الفرنسيين، فعملية سانتينيل لمكافحة الإرهاب،لا جدوى من ورائها، وجنودها يسقطون ضحايا بشكل مُستمر، فين حين أنه من المفترض أن يمنعوا وقوع العمليات الإرهابية من الأساس. وعلى مدار عامين لم تُؤتي العملية أُكلها، في مقابل أنها تستنزف أموال البلاد التي تعرف بطالة وصلت نسبتها إلى 9.5%، وفقًا لإحصائيات نيسان/أبريل الماضي.
وبالجملة، فإن حالة الطوارئ التي تشهدها فرنسا من أشهر طويلة، لم تُجدي نفعًا يُذكر إلى الآن، إلا مزيدًا من النقود المصروفة هدرًا، ومزيدًا من الصلاحيات لرجال الشرطة، ما يُحوّل البلاد بالتدريج إلى بلاد يُسيطر عليها الحس الأمنيّ، ربما لا تختلف كثيرًا عمّا عليه الحال في الكثير مما تسمى بدول العالم الثالث، وهو الأمر الذي يُحذّر منه حقوقيين.
270 مليون يورو تمثل تكلفة باهظة لعملية أمنية فاشلة، في حين تعرف فرنسا نسبة بطالة تصل إلى 9.5%
وجهة النظر، التي تبدو أكثر وجاهة في فرنسا، تتبنى كون عملية سينتينال ليست الأمثل في مكافحة الإرهاب في تلك الفترة؛ بعد أن تحوّلت ما يشبه المقبرة لجنودها، فهي تزيد العمليات الإرهابية من باب رد الفعل الغاضب، العلامة المميزة للذئاب المنفردة، ومن باب إثبات فشل الجهود الأمنية للدولة، وهي من بعض استراتيجيات التنظيمات الإرهابية.
اقرأ/ي أيضًا: فرنسا.. أرض المظلوميات المهملة
النقد الأخير، الموجّه للحكومة الفرنسية جراء تلك العملية، هو استهدافها المناطق الأكثر فقرًا في فرنسا. ويتبنى ذلك القطاع سؤالًا مفاده: ماذا لو وُجّهت اهذه لأموال الطائلة (270 مليون يورو حتى الآن) إلى التعليم أو البطالة، أو سد احتياجات الفقراء في نفس المناطق، أو حل مشكلات اللاجئين وإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع الفرنسي؟
تحوم شكوك تجميل الوجه السياسي بتلك العمليات الشكلية حول ماكرون، فيواجهها إعلاميًا، لكن الذي يطارده فعلًا ويهدّد باستمرار تلك الحملات التي أثبتت فشلها بمرّ الوقت، هو دماء وجثث العسكريين الفرنسيين، الذين سقطوا ضحايا العملية الأمنية.
اقرأ/ي أيضًا: