مثلما كان الفنّ تجربةً مركزيةً للإنسان، كان أيضًا تجسيدًا للشهوانية السياسية التي تظلّ -بكامل جبروتها- هشّةً قبالة الشّعوب المقهورة إلى أن تتمكّن من تسلّقِ الفنّ الذي يحوّله الدكتاتور من محفّزٍ على رفض المفروض إلى مثبّطٍ للسّؤال والتأويل ومن سؤالٍ يطالب بالبحث والتّقصّي والإجابة إلى جوابٍ وحيدٍ مُعَلّبٍ وجاهز.
مع الموسيقى لن تكفينا مفاهيم الشّر والخير المطلقة في إدراك أبعاد العمل الجماليّة والأخلاقيّة معًا
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأتْ الدعاية السياسية تبني مؤسّساتها في الأنظمة الدكتاتورية فارتبطت التّوجهات الاقتصادية والجماهيرية بأفكارها بشكلٍ متينٍ لا يُفكّك بعد ذلك عنها. فكان الاستغلال المنهجيّ للفنّ الدّعائي الحديث بخلق سلاحٍ "ثقافويٍّ" بشعٍ بحجم قوّته المؤثرة على الجماهير المعذّبة والمتروكة والمغيّبة عن عوالم السّاسة، مثل مشهدٍ سريعٍ يمثلّ سنينًا سوداء لأقسى ما حوت الأنظمة السّياسيّة على مرّ حروبها وهزائمها وانتصاراتها.
اقرأ/ي أيضًا: هندسة الطبيعة البشرية.. تاريخ وتلاعب
لم يفوّت هتلر ذلك وكان من أوائل من أكدّوا على هذه العلاقة عندما صرّح بأن دعاية الحرب العالمية قد أخطأت في شيءٍ أساسيّ؛ ألا وهو الشرط الأوّل لنجاح أيّ نشاطٍ دعائيّ بشكل عام: "الرأي أحاديّ الجانب"، وبالفعل كان ذلك، فاجتاح الرأيّ أحاديّ الجانب السّينما والأدب والموسيقى والأساطير والخرافات وامتهن التّنميق في صورة الشهداء وتأليه الأبطال الوطنيين. ثم أخرجَ مطبّلو النازية الألمان أكثر من 1200 فيلمًا سينمائيًّا، وذلك فقط بين عامي 1933– 1945 لتبقى هذه الأفلام محفوظةً حتى يومنا هذا في دائرة الأرشيف السينمائي الألماني تحت مُسمّى "سينما البروباغندا"، التي تتواجد في غرفٍ مقفلةٍ وتحت حراسةٍ مُشدّدة، فتُعامل وكأنّها موادٌّ متفجّرةٌ طويلة الأمد.
لا يجرؤ الألمان على ترك تلك الأفلام للمشاهد الرّاهن، لعدم امتلاكهم أيّة فكرةٍ عن مدى تأثيرها بالمتلقّي العادي؛ عدا عن سماحها في بعض الفعاليّات السّينمائية ذات الأهداف الأكاديمية أو التّجريبيّة. لكنهم على خلاف ذلك لا يخشون موسيقى العسكر، موسيقى ريشارد فاغنر.
ريشارد فاغنر (1813 – 1883) ملحّنٌّ وكاتبٌ مسرحيٌّ ألمانيّ اختلف واقتتل عليه أبناء جلدته ولم يتوصّلوا منذ أكثر من مائتي عام لأيّ سلامٍ قطعيّ حول أعماله، لأن الكثير من متذوّقي الموسيقى لم يرغبوا -من منظورٍ أخلاقيّ- في التّسليم أمام أعماله التي خلق وزيّن فيها هوسه بالعقاب والانتقام ومحق الأقليّات قبالة ما يُسمّى بـ"العرق الآري" الألماني.
جذبَتْ موسيقا فاغنر الشّعب الألماني المنهزم والتّواق للإمبراطوريّة الألمانية المفقودة، فوثّقَتْ ذاتها بالعسكريّة والقوميّة والبرجوازيّة داخل المجتمع وتبنّاها الحزب النازي في مؤتمره في نورمبرغ وفي "مهرجانات الحرب" الموسيقيّة الضّخمة في بايرويت عام 1943.
بل وقبل عدة سنوات احتفلت دار أوبرا بايرويت بمناسبة الذّكرى المئويّة الثّانية لولادة ريتشارد فاغنر عدا عن المهرجانات الموسيقيّة السنويّة التي يقيمها الألمان بإخراجٍ مسرحيٍّ معاصرٍ لأعماله، آخذًا ما يُسمّى بـ"الأوبرا الكلاسيكيّة" إلى نهج ما بعد الحداثة وذلك بإلحاق الأرشيف الموسيقي بحبكة تاريخيّة ألمانيّة معاصرة تضيف سياقات دراميّة بأبعادٍ جديدةٍ تتمايزُ باختلاف قابلية تأويل وتفسير المتلقّي، الذي قد تنأى -عند بعضه- بنفسها عن الصّورة العامة لمُجمل أعمال فاغنر، متجنّبةً أيدولوجيا الاستبداد في شخص فاغنر.
لا شكّ أنّ إحدى نقاط القوة في الأعمال الموسيقيّة قدرتها على عبور الفجوة بين المفهوم الجماليّ والتّحليل الأخلاقي للعمل، بالمقابل قد يكون ذلك أكثر تعقيدًا في مجال الرواية. ومن يعرف موسيقى فاغنر والدراما المتجدّدة حولها يعرف أن هناك خيطًا رفيعًا جدًا بين الاستبداد في شخص المُلحّن والكاتب وبين الإخراج ما بعد الحداثي لأعماله. وهذا ما تسعى إليه دور الأوبرا الألمانية اليوم وذلك من خلال التّقييم النّقدي للهيكل الموسيقي لا غير.
ظلّ هذا الخيط الرّفيع واضحًا حتى تنازل المعارضون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عن التفسيرات المسندة إلى رتبة فاغنر الأخلاقية، والسمات الرئيسية لموسيقاه الحماسية ذات الرّداء المخملي بكونها ليست فقط تجسيدًا للهيمنة السياسية ونصرة أيدولوجيا "العرق الآري" بل تحديًّا جماليًّا وسياسيًّا.
بذلك أصبحت مناقشة أعمال فاغنر مرارًا وتكرارًا مع مرور الوقت أسهل من كسر صورته نهائيًا، وربما يعود ذلك إلى ميل الألمان في رغبة إبقاء التّناقض عنصرًا لاحتواء الكثير من احتمالات تحديد الهوية الألمانية في صورتها ماقبل الحرب العالمية الثانية.
إذًا مع الموسيقى لن تكفينا مفاهيم الشّر والخير المطلقة في إدراك أبعاد العمل الجماليّة والأخلاقيّة معًا. لكن هل يدعو ذلك للتّنازل عن تقصّ يقينٍ ما بينهما؟
قد يعمّق عملٌّ فنيٌّ ما الفهم الأخلاقي للقضية التي يناقشها أو يساعد في فهمها، لكنه لا يُلزِم نفسه بجعل الأخلاق قضيّةً جوهريّة فيه
بالمجمل قد يعمّق عملٌّ فنيٌّ ما الفهم الأخلاقي للقضية التي يناقشها أو يساعد في فهمها، لكنه لا يُلزِم نفسه بجعل الأخلاق قضيّةً جوهريّة فيه. في ذات الوقت، قد يعارض البعض اعتبار الطّابع الأخلاقيّ لعملٍ ما خاصيّةً فنّيّةً بالدّرجة الأولى وبذلك معارضة التّصنيفات اللاأخلاقية أيضًا. لكن ماذا لو أخذنا بعين الاعتبار أن السّمة اللاأخلاقيّة هي وسيلةٌ لتقديم موقفٍ معرفيٍّ للجمهور يتحيح له فرصة فرزِ اللاأخلاقي عن الأخلاقي؟ أي أن يكون للسّمة اللاأخلاقيّة في الفنّ أهميّة فلسفية لا غنى عنها. هل نسمّي الفنّ بذلك فنًّا -بالمعنى الجمالي والأخلاقي للكلمة- إن رأيناه لحظة النّصر خلف الدكتاتور لا قبالته؟ وهل يكون ذلك انتصارًا على أيّة حال؟ وإن كان فلأي طرفٍ؟ أو لأيّ شيء؟ لذاته أم للأخلاق؟
اقرأ/ي أيضًا: ضد الأنوار.. الأصول الفكرية للشرور النازية
إنّ اليقين بانتصار الشّر هو هاجس الأدباء والفنّانين حول قضايا المستضعفين في الأرض، كما لو أنّ الفنّ أضعف من أن ينفكّ من يديّ الدكتاتور. فليس له إلا أن ينسلّ من صورته الأكبر إلى مساحاتٍ أصغر تحتويه، مكثّفًا هناكَ في سماءٍ شعبويّة ليس لأهلها سوى الأصابع والحجارة والحناجر والبكاء.
هذه الجماهير التي تكون -بغريزتها الجماعية- بحاجة إلى شخوصٍ تقودها وفكرٍ تؤمن به؛ تكون على استعدادٍ دائمٍ لتسليم المسؤوليّة والعمل والأداء إلى أيّ قائدٍ يقدّم نفسه على هيئة المُخلّص والمحرّر.
يقودنا الدافع الغرائزيُّ أحيانًا إلى الوعي الذّاتي والفوريّ أيضًا، فتنشأ الانشقاقات عن مسار الجموع المشحونة بالعاطفة والغضب. بالطّبع لن تؤثّر الانشقاقات الشّبه معدومة -كمًّا- بالجموع، لكنها قد كون الفارق الوحيد لصالح الفنّ كي ينجو من سذاجة العاطفة وشِباك القتلة وحلبة التّطبيل ويُلزَم نفسَه بالأخلاق ويحرص على أن تبقى رسالته تفسيريّةً وبذات الوقت قابلةً دومًا لأنّ تُناقض ويُعاد تفسيرها في كلٍّ زمانٍ ومكان.
القتلةُ أنّى كانوا لا يتشابهون، وذلك يعودُ لفرديّة ضحاياهم، لا لفرديّتهم.
للقتلةِ رطلٌ من الكتّاب والفنّانين يطبّلون لهم وهؤلاء هم من يتشابهون، ليس فيما بينهم فقط، بل أيضًا فيما يصنعون في كلّ زمانٍ ومكان.
اليوم أسأل نفسي: تُرى بعد خمسين سنة، لو غُسّل تاريخ سوريا قليلًا من لوثة من يكتب اليوم، تحتَ أي مُسمّى سيوضع "الفنّ" السّوري الهازئ بآلام الثكالى والأرامل؟
اقرأ/ي أيضًا:
لماذا كرهت إسرائيل موسيقى ريتشارد فاغنر؟
3 أسباب جعلت ريتشارد فاغنر أقل شهرة من سواه.. منها إعجاب هتلر به