الدنيا تعاقُب حياة وموت. هذا ما نراه واضحًا في النص المونودرامي "دنيا" للكاتب والشاعر المغربي المقيم في بروكسل طه عدنان، الصادر حديثًا عن "دار الفاصلة للنشر" في المغرب، بغلاف معبّر للفنان العراقي المقيم في بروكسل ستار نعمة.
الاهتمام بالجسد من أجل المتعة الجنسية فقط، دون أي إحساس بالآدمية، قد يدفع الشخص إلى التطرف أحيانًا سعيًا منه إلى الشعور بالأمان
تبدأ المسرحية بصورة الموت ممثلةً بجثة دنيا، ثم تأخذ البطلة في البوح وسرد قصتها، لتعيدنا النهاية إلى لحظة الموت التي بدأنا بها.
هذا النص المونودرامي هو الثاني لطه عدنان، بعد نصه الأول "باي باي جيلو". وإذا كنا عرفنا جيلو الذي يحاول الاختباء عن الأنظار كي لا يبقى بارزًا كأذى، وليتمكن من التحديق في وجه العالم دون الشعور بالإقصاء، فإننا نجد دنيا عكسه تمامًا، فهي فرضت وجودها عن طريق جسدها الأنثوي، إذ تعلن:
"أنا مدينةٌ له بكل شيء. فبَلاغةُ تضاريسِهِ هي التي جعلتني أعلن عن وجودي بوضوح.
أنا أُغْوي، إذن، أنا موجودة.
أنا أَعْوي من الشهوة معناه أنّني الوجود وقد تأجّج".
الدنيا.. كلنا وجِدنا فيها دون رغبة أو اختيار، كما تقول البطلة دنيا: "وصلْتُ إلى هذا العالم دون سابق تخطيط. وصلْتُ عَرَضًا مثل سهمٍ طائشٍ أو مثل شتيمةٍ مرتجلة." ومثلها أيضًا، نحاول أن نعيش حياتنا بشكل ممتع وجميل دون السقوط في المشاكل والنزاعات التي تجعل من الحياة مجرد "سوءِ تفاهمٍ وُجوديّ". لكننا نواجَه بالكثير من العقبات والحروب، صغيرة كانت أم كبيرة, من جميع الجهات: العاطفة، العائلة، الانتماء، الاختيارات.. الخ.
لكن، كي نتمكن من العيش في هذه الدنيا، علينا أن نلبّي بعض الاحتياجات الإنسانية الطبيعية لدى كلٍ منا، وإلا فإن الحياة ستتحول إلى شعور عميق بالوحدة، أو إلى ما يشبه الموت.
سطوة الجسد وبلاغة التواصل
للكلام دور في التعبير عن الاهتمام غير وظيفته التعبيرية، فهو صيغة لتوصيل المشاعر إلى الآخر بغض النظر عما يقال. أن أحدثك يعني أني أحب أن تعرفني. إنه، بشكلٍ ما، تعرٍ أمام الأخر. وأن أستمع إليك، يعني أني أحب أن أعرفك، وهي طريقة بسيطة للتعبير عن الاهتمام. فنحن لا نتحدث مع من لا نهتم بهم، ولا نستمع إلى من لا يعجبوننا، هذا هو المألوف. إذ يمكن أن يكون الصمت تعبيرًا عن التفاهم، لكنه لن يكون إلا بعد تواصل ناجح، وبعد أن يصل الطرفان إلى الإحساس بالآخر وفهمه دون الحاجة إلى الشرح عبر الكلمات.
كما أن عملية البوح تُشرك المستمع، فالمتحدث يجعل المنصت شاهدًا، وبالتالي متورطًا في الموضوع، كما عبّر طه عدنان في لقاء حواري في هلسنكي عن نص "دنيا".
لذلك، فحين لا نجد من نحدثه، نشعر بنوع من الوحدة وشيء من الإقصاء. عدم استماع الآخر إلينا، يوحي لنا بعدم اهتمامه بنا، وبأننا لسنا مرغوبين. تقول دنيا في بوحها: "أن تعيش وسط أسرة غفيرة وتشعر بالوحدة، شيءٌ له طعم نكتة مريرة. أن تشعر بأن لا أحد يفهمك، حتى المرأة التي لفظَتْك في هذا العالم، إحساسٌ يعادل الضياع". أما عن والدها، فتقول بحزن إنها كانت تتصور أن هناك الـ"بابا" الذي ينتظر أبناءه أمام باب المدرسة ويلاعبهم ويقرأ لهم القصص قبل النوم، وهناك والدها السيد ميمون بنعبد القادر، دائم التجهم.
أليس اهتمامنا بجسدنا هو في جوهره رغبة في خلق الاهتمام لدى الآخر؟
لكننا في التواصل عبر الكلام، قد نسقط في مشاكل أخرى، كأسلوب التعبير مثلًا، والذي قد يؤدي إلى انطباع سلبي لدى الآخر، خصوصًا في حالات اختلاف الثقافات، أو حتى في بعض أنماط التعبير المختلفة التي يكون الشخص قد تعوّد عليها من وسطه، خاصةً في مرحلة الطفولة والمراهقة، وهو ما نراه في الشرخ الذي حصل في علاقة دنيا بصديقاتها البلجيكيات، سواءً بسبب اختلاف الثقافة أو العرق ولون البشرة.
ومن المحزن أيضًا أنها خسرت حتى صديقاتها من بنات جاليتها لأسباب غريبة، إذ نجدها تروي بحزن كيف هجرت إحداهن المجموعة قاطبة بعد زواجها، إذ تتساءل دنيا: "لا أدري إن كُنْتِ تخشين عليه منّا، أم ربما هو من حذّركِ من مصاحبة عوانس متبرّجات؟".
وكيف أن نادية التي كانت الأقرب إليها لم تعد تتواصل معها. تقول: "حين لا نلتقي أصدقاءنا القدامى لمدة طويلة نَنْساهُمْ بكلّ بساطة. بل وقد نكرههم أيضًا". ونجد دنيا تتساءل كيف لنادية أن تسبب الأذى لكل من أحبها وكانوا مقربين منها.
لكن التواصل لا يكون عن طريق الكلام فقط، بل للجسد لغته الخاصة. ألا يتحقق وجودنا إلا عبره؟ وألسنا نهتم، وإن أنكرنا، برأي الآخر فينا جسديًا أيضًا، بتواصله الجسدي معنا على الأقل، باهتمامه الذي يظهر من خلال جسده؟ وإلا لماذا نحتاج المرآة؟ فهي الوسيلة التي تمكننا من مراقبة جسدنا، ومن التأكد مما نريد إبلاغه للآخر، والتي تسمح لنا بتحويل أنفسنا إلى موضوع، وتحويل الآخر إلى موضوع بدوره. ألم يقل سارتر ما معناه أن نظرة الآخر إلينا تحيلنا إلى موضوع؟ وبالتالي فنظرتنا إليه هي لعبة "موضوع" متبادل.
ولذلك تعتبر المرآة من أشهر وسائل الاهتمام بالجسد. إذ نجد في النص أن دنيا تهتم بها، بل وتتواصل معها كما لو أنها آخر/ هي، إذ نراها: "تتغنج ممعنة النظر إلى نفسها في المرآة. تخطف قبلة من صورتها. قبلة في الفم تترك أثرها على المرآة".
هكذا، تتعامل دنيا مع المرآة كما تحب أن يراها الآخرون... تتأكد من سطوة حضورها. إذ تقول: "هنا يمكن أن أتملّى بطلعتي وقوامي دونما عجل ولا وجل. آخذ الوقت لكي أتفحّص فتنتي عوض استراق النظر إلى الأبواب والحيطان الزجاجية، وواجهات المحلات التجارية، والمرايا المبثوثة في الأماكن العامة، حيث تحاصرني نظرات الآخرين".
وأليس اهتمامنا بجسدنا هو في جوهره رغبة في خلق الاهتمام لدى الآخر؟ وبالتالي التواصل معه؟ خصوصًا إن عاش الفرد تجارب تفضح مدى تأثير الجسد على المحيطين به، وهو ما حصل لدنيا التي كانت تحسد صديقتها نادية على والدتها التي تطبع قبلة على خد ابنتها. هذا بالإضافة إلى أنها خبرت مدى اهتمام من حولها بجسدها وبمناطق الإثارة به.
صارت الأغلبية ترى أن الأفعال الحسنة شبه مفروضة، يقومون بها خوفًا من العقاب وليس لذاتها
ثم إنها تتذكر كيف كان الرجال ينظرون إلى بائعات الهوى بانتباه شديد وأعصاب مشدودة، حتى أنها كانت تتمنى أن تكون مثلهن، قبل أن تكبر وتفهم معنى ذلك. تقول: "فأن تضطرّي لفتح رجلَيْكِ لأيّ عابر لمجرّد أنّه يدفع، يُحوّلكِ إلى سلعة رخيصة. أنا يعجبني أن أَفْتِن وأُثير، على أن أظلَّ سيّدةَ قراري... وأن تكون لي الكلمة الفصل: نعم أو لا. لكنني أكره أن يتمّ إلغائي لأتحوّل إلى موضوع جنسي". لذلك نجدها تؤكد بحزم أنها ليست عاهرة، بل هي من تختار عاهر ليلتها.
بل نراها تعترف أن البذاءة ليست هي ما يقرفها، فالغزل البذيء لا يخلو من إثارة، وبأنها تفعل كل شيء لكي تستفز شهوانية الرجل وحيوانيته. لكنها في المقابل تكره النزعة الافتراسية التي تحولها إلى مجرد شريحة لحم، كما حصل لها مع "الخوروطو" في المترو، الذي لمحته يتدافع لكي يحتل المقعد المقابل لها.
ومع أنها هي من لاعبته في البدء بتغيير وضع ساق على أخرى بطريقة مثيرة ومحاولة الانحناء قليلًا لجعل مقدّمة الصدر أكثر بروزًا، إلا أن تركيزه على منبع الشبق جعلها تحس بالإهانة كما جاء في تعبيرها: "الوغد ألغى جزئي العلوي من دائرة تركيزه. ألغاني تمامًا بعدما ركّز على منبع الشبق. بدا كما لو كان مُنْهمكًا في المباعدة ما بين ساقيّ بعينين كاسرتين متقدّمًا إلى حيث لا أدري بعزم غلادياتور موتور. أحسستُني أنْدحر أمام نظراته الفتاكة وتجاسره الوقح وقد انْتابني إحساس مريع بالانتهاك... كدتُ أبادره: اجْمَع عينَيْكَ قليلًا لو سمَحْت. أَعِدْهُما إلى مَحْجِرَيْكَ أو خبّئهما في جيوبك... المهم، أزِحْهما من على فخذَيّ".
فالاهتمام بالجسد من أجل المتعة الجنسية فقط، دون أي إحساس بالآدمية، قد يدفع الشخص التطرف أحيانًا سعيًا منه إلى الشعور بالأمان. تمامًا كما حصل لـ "عبديل" الذي وجد نفسه ينتمي إلى إحدى الجماعات الدينية المتطرفة، بعد تعرضه للاغتصاب على يد "فرانكي" الذي شاركه زنزانة السجن.
فهل كانت دنيا تحاول ولو بشكل غير واع أن تجد طريقة للتواصل والاهتمام بها؟ إذ تُحدِّثُنا عن امرأة بلجيكية التقتهما صدفة هي ووالدها مرة: "صادَفْنا سيّدة بلجيكية في عمر أمّي تقريبًا. ولو أنّها بدَتْ أصغر بكثير. كانت أنيقة، مثيرة وترتدي تنّورة بنفسجية قصيرة." وتستغرب دنيا من كيفية تصرف والدها على طريقة البلجيكيين بشكل مرح مع هذه السيدة التي تبادله القبلات وتدعوه "ميمو" على سبيل التدليل: "لكن ما لم أتخيّله قطّ، هو أنّ السيد ميمو سيُجيب... وسيَسْتجيب. بل سيذهب نحوها بعينين مشرقتين ووجه باسم". وهي تتساءل باستغراب، مسترجعة صورة الأب الصارمة التي ألفتها في البيت وداخل الأسرة: "أبي. ماذا كان علينا أن نفعل لكي نربح منك مثل هذه البشاشة؟".
ثم نراها بعد ذلك وهي تتزين أمام المرآة بعد أن: "اطمأنت إلى قصر التنورة البنفسجية بما يضمن لساقيها البروز المثير". فهل كانت تقلد نفس الأسلوب كي تحظى بنفس المعاملة؟ ولو من شخص آخر؟ أليست هي من تؤكد بأنها: "مستعدة لفعل أي شيء لكي تقول للعالم: أنا هنا؟".
للكلام دور في التعبير عن الاهتمام غير وظيفته التعبيرية، فهو صيغة لتوصيل المشاعر إلى الآخر بغض النظر عما يقال
حتى أننا نجدها تعلن: "أبحث عن عابر سرير يترك أثرًا راسخًا على جسدي، عن متعةٍ شرسةٍ تجعلني أتحسّسُ أطرافي بألم لذيذ.. أتوجّسُ من الحبّ الأملس، وأحتاج إلى شعورٍ حميمٍ بالفزع والرهبة... ذلك طريقي نحو اللذة". فهل هي ميول مازوشية؟ وأليست هذه الميول في جوهرها هي الرغبة في الإحساس بقوة رغبة الآخر؟ الشعور بعدم القدرة على المقاومة، بتملك الشهوة إلى حد الشراهة وبالتالي، سطوة الجسد، جسدها؟
بل إنها تعترف بكل وضوح: "أجمل شيء أن ترَيْ ذكرَيْن يتباريان لأجلك. مثل ديكَيْن يختال أحدهما على الآخر لعلّه يبدو أكثر جدارةً بك... أموت في هذا الوضع. شيءٌ مثيرٌ للغاية! (...) وأنا أشعر أنني سعيدةٌ بهما... وحتى بغيرهما ممّن يتحيّنُ الفرصة في صمت لعلّه ينخرط في المُناقرة."
وكأن هذا الأمر يزيد من إحساسها باهتمام الآخر/ الآخرين بها، هي التي عانت من وحدة رهيبة وإحساس بالتخلي. أن تلمس تسابقهم إليها، حتى لو كان لغرض الجسد، لا يهم. فالمهم ما يجعلها تطرد ذلك الشعور المرير بالعزلة. إذ نجدها في النص وكأنها تستغل محاولات التقرب منها لفتح الحوارات، فنجدها تحاول الظهور على أنها المرأة المثقفة والعارفة، أو تتحدث عن ذكرى لها. أو تنزعج من محاولة تحديد هويتها، إذ تقول محتدة: "أنا لا أنْكِر أصلي. أبواي مغربيان. لذلك، أنا أيضًا مغربية... (متردّدة) إلى حدٍّ ما. رغم أنّني لا أفاخرُ بذلك. إذ لا علاقة لي في الواقع بالمغرب. أنا ولدتُ هنا. وعِشْتُ هنا. وهنا قرّروا لي أن أموت وأُدْفَن. يعني أنا بلجيكيةٌ تقريبًا. أحيانا يسمّوننا البلجيكيّين الجدد. (ساخرة) حتى البلجيكيّون القدامى من أمثالكَ لا يعرفون ماذا يعني بالضبط أن تكون بلجيكيًّا".
لكن، هل دنيا هي مجرد شخصية في النص؟
قراءة مغايرة
ألا تكون دنيا البطلة هي الدنيا؟ وأن المؤلف طه عدنان قام بتشخيص مسرحي للدنيا؟ تقول البطلة في بوحها: "لكلِّ امرئٍ من اسمه نصيب. وأنا نصيبي هذه الدنيا التي يُطْلِق عليها الجميع لعناتهم. يعتبرونها عاهرة، ماكرة، وبنت كلب... لكنّهم لا يتوّقفون عن الجري وراءها مدى الحياة... دنيا يا دنيا... يلهثون وراءها عبثًا... لا أحد يستطيع الإمساك بها. لذا قرّرتُ أن أكون مثلها".
ألسنا نتصرف مع الدنيا طمعًا في الفرح والملذات كما يتصرف الرجال مع دنيا في النص؟ منا من هو خجول، ومنا الجريء، وهناك من يطمع إلى درجة غير إنسانية، حتى عبارة البطلة عن رغبتها في المتعة الشرسة، ألا يمكن فهمها بـ: "تؤخذ الدنيا غلابا؟".
لكن، أليست مشكلة الدنيا، كما في النص، هي نحن البشر؟ حيث نحولها إلى: "مجرد سوء فهم وجودي". كأننا نفعل كل ما يحد من الفرح والحياة. قوم يفرضون وجهات نظرهم كأنهم يملكون الحقيقة، وآخرون ينكرون الاختلاف وكأنهم الأصل، وفئة لا تتعامل إلا مع من يشبهونهم، إلا مع النسخ، وأخرى لا تنفك تبدي آراء جاهزة دون معرفة.
أليست المعرفة مرتبطة بالقدرة على فهم الآخر في اختلافه؟ على الاعتراف بأن الآخر آخر، مختلف ولكنه مقبول ومحترم في الوقت نفسه؟
وحتى المعرفة، أليست مرتبطة بالقدرة على فهم الآخر في اختلافه؟ على الاعتراف بأن الآخر آخر، مختلف ولكنه مقبول ومحترم في الوقت نفسه؟ فهل يحاول الناس عمومًا فهم الآخر ومعرفته؟ أم أنهم يهتمّون به انطلاقًا من الظواهر فقط؟ تقول دنيا: "لكن حتى هؤلاء لا يعرفونني، أو لِنَقُلْ إنّ كل ما يعرفونه منّي هو جسدي قبل الانفجار".
الناس يصرّون على التصنيفات، إما مغربية أو بلجيكية كما في حالة دنيا البطلة التي تقول: "عمومًا، أنا لستُ متشبّثة بأيّ لغة. هذه التي تجعلك تنتمي بالضرورة إلى شعب أو طائفة أو قبيلة. لا أهتمّ بكل هذا. وأفضّل أن أبقى خارج هذه الحسابات (...) كنت أفضّل التنقّل بين الألوان والأعراق. لديّ حساسية مفرطة من الانصهار ضمن بوتقة محدّدة".
وهذا ما نراه معبّرًا في لوحة الغلاف للفنان ستار نعمة، إذ نجد أن الوجه، كما لو أنه منقسم بتدرج بسيط جدًا للألوان، مع تداخل لبعض الألوان الأخرى بشكل واضح. وهذا ينطبق على الخلفية بلونيها لكي تكون اللوحة مدخلًا لما يمكن فهمه من النص. أي أن المسألة هي في كيفية جمع ومحاولة تنسيق كل التفاصيل أو التنوعات والتناقضات، كي نحصل على نتيجة ترضينا، كي تتمكن دنيا من أن تكون دنيا التي تريد وترتاح بكل ما فيها من نضارة وألق، ومن هشاشة وأسى.
وهذا لا ينطبق على الانتماء فحسب، مغربية / بلجيكية، أو على اللغة أيضًا، ولا على أسلوب التربية المختلف. إذ نجدها تقول:
"كان بإمكاني أن أفقد عقلي مبكرًا ما بين البيت والمدرسة.
المعلم (متقمّصة دور المعلم)
لماذا لا ترفعين رأسك وتنظرين إليّ وأنا أكلمك؟ إنها قلة أدب!
أبي (متقمّصة دور الأب)
كيف تبحلقين في وجهي هكذا؟!! اخفضي بصرك عندما أكلمك. ما هذه الوقاحة؟!!".
بل إنه ينطبق على كل التفاصيل الصغيرة التي تكون مؤثرة على حياتنا وأفكارنا واختياراتنا، إلى الدرجة التي صرنا نحس فيها أننا نقوم بما يناسب الناس، وكأن سعادتنا مرتبطة بهم ولا تتحقق إلا عبرهم... كما جاء في النص: "حتى هذه السعادة الشخصية الصغيرة يجرّمونها، لا يريدون للسعادة أن تتحقّق إلّا بما يرضي العائلة والمجتمع والدولة والله... أي بما يرضي الآخرين. سعادة مؤجلة على الدوام، تبدّد عمرك كاملا في رحلة البحث عنها، لينقضي العمر قبل أن ترى لها ظلًا على الأرض". وذلك في كل الأمور الحياتية حتى أكثرها حميمية، كاختيار شريك الحياة الذي يجب أن تتوفر فيه الصفات الدينية والثقافية والاجتماعية المطلوبة من الأهل والمجتمع الذي ننتمي إليه.
سعادة مشوهة بالأفكار والمعتقدات التي تكون في الغالب غير صادقة ولا حقيقية. وكأننا نُكَذّب أنفسنا وما هو طبيعي فينا لكي نعيش أفكارًا قد لا تلائم فطريتنا، تلك الحرب الدائمة بين الطبيعة والثقافة، التي تعبر عنها دنيا بقولها: "الأجساد لا تكذب يا أمّي كما نكذب نحن". فنحن من يُحوّر ويُخفي ويُموه. نحاول إسقاط الكثير من الأمور على ما هو طبيعي وفطري، كأننا غير مقبولين على حقيقتنا، أو كأننا نخاف تلك الحقيقة.
أما الأجساد، فإنها تعبّر عن الأمور بشكل مباشر، إما ترغب أو تنفر، إما أن تحس بالشبع أو الجوع ونحن من يغالط ويغيّر. مع أننا في واقع الأمر كلنا نشترك في ما هو طبيعي. كلنا نمرض، ونفقد السيطرة على أجسادنا. كلنا نخاف ونبكي، بالرغم من أن الأغلبية تزعم العكس! حتى صار الكل يكذب على الكل، وسائل الإعلام تختلق "الحقائق" التي تريد من الناس تصديقها. "التلفزيون سلطةٌ لا تُقاوَم". والمناصب العليا تكذب على البقية، والناس يكذبون حتى على أنفسهم.
تقول دنيا: "لِمَ لا نكون صرحاء مع أطفالنا، فنخبرهم بالحقيقة المُرّة؟ حقيقة أنّ الحياةَ طويلةٌ جدًّا، مثل سجنٍ مؤبّد، خاصة إذا كانت رديئة. وبأنّ العالم يمضي من سيّئٍ إلى أسوأ، وبأنّنا جزءٌ لا يتجزّأ من هذا السوء. بل نحن أسوَأُ ما فيه. حتى الحيوان لا يقتل إلّا لكي يعيش. أمّا نحن فنعيش لنقتل، أو لنساهمَ في القتل بكلّ تواطؤ وجبن".
أليس ما نلاحظه من حالات احتجاج وهياج لدى المراهقين هو بسبب اكتشافهم للكذب؟ بسبب رفضهم العيش ضمن نمط الممنوعات ورغبتهم في الاحتفاظ بحريتهم الطبيعية، وبصدق حياتهم الطفولية السابقة وبالقدرة على الخطأ أيضًا. إذ لا يتم التسامح مع الأخطاء، والأمرّ أنه لا يتم التشجيع على الفعل الحسن بنفس حدة التوبيخ على الفعل القبيح، حتى صارت الأغلبية ترى أن الأفعال الحسنة شبه مفروضة، يقومون بها خوفًا من العقاب وليس لذاتها.
لجأت دنيا أيضا إلى طريقة أخرى لمحاربة المرض والموت، أو ربما للهروب وهي القراءة
تتذكر دنيا: "الممسوسة اكتشفت بأنّ كل الأشياء العاقلة التي كانت تقوم بها لم تكن تحظى باعتباركم. وحدها الحماقات تسترعي اهتمامكم". وكأن هدف الناس، ومنهم العائلة أيضًا، هو البحث دون كلل عن "أخطاء" الآخر، أو ما لا يرونه هم مناسبًا كي يتخذوا دور المعلم القدوة. وكأنهم لم يرتكبوا أي غلطة في حياتهم. فبالرغم من أننا لا يمكن أن نتعلم ونتطور إلا من خلال أخطائنا البشرية، إلا أن الأغلبية تمثل دور الإنسان المثالي المنزه. ولذلك، تُردد دنيا: "لكنّني لستُ إلهةً وأريد فقط أن أعيش حياتي الدنيا كما يحلو لي".
فحتى بعض الشغب والجنون، يساعد على تحمل الحياة وأعبائها. لذا نجد طه عدنان يعنون أحد الفصول بـ "لسان الجنون"، وكأنها حالة سخرية فردية ضد الأنظمة الاجتماعية/ الثقافية الصارمة التي تحولنا إلى مجرد قطيع.
إذًا، كيف يمكن للناس أن يعرفوا قيمة الحب واحترام الاختلاف إن كانت العائلة، في الغالب، تقف عائقًا أمام أبسط الأمور العاطفية والإنسانية المجرّمة في مجتمعاتنا الشرقية؟ كم من عائلة لا تعبّر عن أبسط مشاعر المحبة بين أفرادها، خصوصًا بين الأب والأم؟ مع أنهم لا يرون أي ضير في النقاشات الحادة والمنازعات أمام الأبناء. هذا بالإضافة إلى تلك النزعة التملكية للأبناء كأنهم مجرد نسخ، يجب أن يكونوا مثل آبائهم. لذلك نجد دنيا تلح في حديثها عن والدتها: "وأنا لا أريدُ أن أشبهَكِ. فأنا نقيضُكِ.. هل تفهمين؟". وكأن كل ما له علاقة بالحب والفرح والرغبة هو ممنوع و"حشومة" في نظر العوائل، ثم يستغربون من محاولات الأبناء الانفلات من ذلك الجو.
كما أن أغلب الناس لا تعرف معنى العطاء أيضًا، وأن العلاقات بل والحياة برمتها لا يمكن أن تستمر بشكل جيد دون أن نعطي بدورنا. بل يبحثون عن الأخذ فقط، الأخذ بكثرة ودون تفكير في المقابل.
إلا أن المشكلة في عالمنا العربي الإسلامي تكمن في أننا لا نعترف بأخطائنا: "نحن مع ثقافة الستر. ضدّ ثقافة الاعتراف. هم علّمتهم الكنيسة أن يعترفوا بخطاياهم ليتخفّفوا منها.. ونحن نصمت على رزايانا، ونذهب إلى المسجد نصلي وندعو الله أن يستر علينا. هم يعترفون ويريحون ضمائرهم ونحن نظلّ نتستّر على أفعالنا إلى أن يقتلنا الإحساس بالذنب". نحن ندّعي الكمال، ولا نغفر الأخطاء مهما كانت بسيطة، وننسى أن: "اللااكتمال دليلُ آدميتنا" كما تؤكد دنيا.
كلنا نخاف ونبكي، بالرغم من أن الأغلبية تزعم العكس! حتى صار الكل يكذب على الكل
البشر مستعدون لأي شيء كي يحدّوا من الدنيا، حتى لممارسة القتل. وإلا فما معنى العمليات الإرهابية التي نجد لها صدىً في النص أيضًا؟ فيما يشبه الاستدعاء غير المباشر للذكرى المؤلمة لعملية تفجير محطة مترو "مالبيك" في بروكسل يوم 22 آذار/ مارس 2016. وأليست مثل هذه الحوادث هي بسبب طرق تأويل الدين الخاطئة في الأساس؟ وعدم التمكن من قبول اختلاف الآخر عنا؟
تقول دنيا في هذا السياق: "كنتُ أردّدُ بعض محفوظاتي القرآنية على ندرتها أمام كيفن، إيزابيل، كاتي، وألكس. ونقلتُ لهم بإسهاب مريع بعض ما تناهى إلى علمي من أصناف العذاب التي تنتظرهم هناك في الجحيم. صحيحٌ أنّهم كفّارٌ صغار، لكنهم أصدقائي.. ولا أريد لهم أن يعيشوا، أو بالأحرى يموتوا، أغبياء. لذا لم يكن مقبولًا أن أخفي عنهم حقائق بتلك الخطورة".
لكن، يوجد ما هو أفظع من الموت، وهو الصمت، كما تعبّر دنيا: "أخشى أن تكونوا أكثر موتًا منّي". أو كما يقول دوستويفسكي: "أشنع ما في الأمر، هو أن الفظاعات أصبحت لا تهز نفوسنا، هذا التعود على الشر، هو ما ينبغي أن نحزن له!".
وتتنوع طرق الهرب من الحياة، كمحاولة الانتحار التي أقدمت عليها دنيا وفشلت في وضع حد لحياتها، أو الاكتفاء بالعيش افتراضيًا فقط، وكأن البشر يهربون من واقع هم السبب في كونه بهذا الألم. دنيا أيضًا كان لها حساب على الفيسبوك، قبل أن تقرر إلغاءه ومغادرة: "هذا المستنقع الافتراضي برمته". تضيف: "أنا عمومًا أفضّل العلاقات الحيّة والتواصل المباشر على الأرض".
أهذه دعوة للعيش واقعيًا؟ ثم ألسنا كلنا نحاول الهرب من الواقع كلٌّ على طريقته؟ نهرب من الموت، نتحدّاه؟ هناك من يلجأ إلى الخيال، أو إلى غياب الوعي كما تفعل دنيا عبر الحشيش: "أصبحُ فوق العالم والأشياء، فوق كل التطاحنات الصغيرة التي تشكّل حركة الوجود، فوق هذه التمثيلية الرّكيكة التي نتبادل خلالها الأدوار بطريقة سمجة على مسرح الحياة التافه. الماريخوانا تعطيك الحقَّ في الانسحاب من خشبة المسرح والتسلل إلى الشرفة الملكية بقاعة الأوبرا، حيث تتفرّج على الجميع: جمهورًا وممثلين".
البشر مستعدون لأي شيء كي يحدّوا من الدنيا، حتى لممارسة القتل. وإلا فما معنى العمليات الإرهابية التي نجد لها صدىً في النص أيضًا
ألا يمكن القول إن أغلب حالات لجوء الناس إلى الحشيش أو بعض أنواع المخدرات هي في جوهرها رغبة في التحرر؟ حتى أننا نجد العموم يتسامحون مع بعض الأفعال التي تصدر في لحظات غياب الوعي لدى المدمن، مع أنهم قد ينتقدونها بشدة في حالة الإدراك.
وقد لجأت دنيا أيضا إلى طريقة أخرى لمحاربة المرض والموت، أو ربما للهروب وهي القراءة: "كنت أهرب من الصمت لأدخل في حوار صاخب مع المؤلف وشخوصه. أشعر أن القراءة أكسبتني أعمارًا أخرى وجعلتني أرى العالم والأشياء بمنظور مختلف".
وجاء في كتاب "التفسير النفسي للأدب" للدكتور عز الدين إسماعيل، ما معناه أن اختيار الكاتب لنوع النص الأدبي له دلالة. ومن هنا نرى أن اختيار طه عدنان لنص مونودرامي هو اختيار ذكي، ويساعد البطلة دنيا التي كانت تعاني من الصمت وعدم وجود تواصل، على أن تُسمع صوتها وحده لكل المشاهدين/ القراء.
يقال: "من يلد لا يموت"، والولادة قد تكون بمعناها الطبيعي، أو بترك إنتاج ما. فهل هذا ما كانت تريده دنيا التي نجدها تتساءل في بداية النص: "كيف لجُثّةٍ أن تنتفض ضدّ النسيان؟". هل كان بوحها هربًا من الموت، أو بمعنى آخر، من النسيان؟
ومن المعروف أن الفن والأدب من أعمق طرق الحياة ومحاربة الموت، وهذا تمامًا ما يقوم به طه عدنان. فالنص المونودرامي يجمع كما هو معروف بين الأدب والفن المسرحي، أي أنه تجلٍ أو تمثلٌ للدنيا.
وكأن المؤلف يدعونا إلى أن نُقبل على الحياة رغم كل الموت، إذ يجعل البطلة تصر: "أريد أن أُدْفَنَ في ثوب العرس. لا أريد كفنًا غيرَه". أليس فستان الزفاف رمزًا للفرح؟ ولبداية حياة أخرى جديدة؟ وكما انبعث مع أغنية محمد عبد الوهاب :"يا دنيا يا غرامي... يا دمعي يا ابتسامي... مهما كانت آلامي... قلبي يحبّك يا دنيا". هناك تعبير عن حبنا والتصاقنا ورغبتنا الشديدة بالدنيا، رغم كل شيء.
في الختام
يعلّمنا التحليل النفسي أن كل ما يصدر عن الفرد ليس سوى محاولة للتعبير عن الذات. فهل يمكن لنا، كقرّاء، أن نفكر ونتساءل: ألا يكون الكاتب طه عدنان قد اختار دنيا الأنثى ليتخفى خلفها حتى يتمكن من البوح بما في نفسه هو؟ أن يقول لنا ما قالته دنيا، بأننا لا نعرفه؟ نقرأ نصوصه ونعرف شكله دون النفاذ إلى جوهر القلق الوجودي الذي يميّزه؟ ودون التورط في إسقاطات ذاتية تحول دون التفاعل العميق مع النص وصاحبه؟
نحن في الغالب الأعم لا نتحاور، بل ولا ننصت، بالكاد نستمع وبشكل آلي للآخر
لكن، من منا تجرأ على الإنصات العميق إلى النصوص والتحاور معها؟ بل من حاول تجاوز عتبة النص للتعرف ربما على المؤلف كإنسان. فطه عدنان هو من جعل دنيا تبوح وتحكي لنا عن أفكارها/ أفكاره. والصوت الفردي، مهما تعدد داخل المونودراما، قد يحيل إلى المؤلف ويورطه في الحوار ولو بشكل غير مباشر مع المتلقي قصد التعرف على ما يشغله من أفكار وأحاسيس.
وهذا يضعنا إزاء سؤال الحوار. نحن في الغالب الأعم لا نتحاور، بل ولا ننصت، بالكاد نستمع وبشكل آلي للآخر. في نوع من التمركز على الذات والانكفاء الأناني على القضايا الشخصية الذي يشبه الإلغاء للآخر بل البحث عن ذاتنا. ولهذا ربما ألغت دنيا حسابها في الفيسبوك، لأن الناس يتفاعلون بنفس الكلام المكرور، والعبارات المسكوكة، والصيغ المستنسخة، دونما تفاعل حقيقي وصادق.
لكن، لا مشكلة، فلنغنّ مع دنيا، أو مع طه عدنان، أغنية إديث بياف "لست نادمة على شيء".
Non ! Rien de rien
Non ! je ne regrette rien
Ni le bien qu’on ma fait
Ni le mal tout ça m’est bien égal !