دخلت فنزويلا منذ أكثر من ثلاثة أشهر في أزمة سياسية بعد خطاب لرئيس الجمعية الوطنية وزعيم المعارضة خوان غوايدو، نصّب خلاله نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد بدعم من أكثر من 50 دولة بينها واشنطن، ورفض الرئيس الحالي نيكولاس مادورو التنحي عن منصبه، بينما وجه الاتهامات للولايات المتحدة بزعزعة استقرار البلاد، دون الإشارة للأزمة الاقتصادية التي تشل عصب الحياة في البلد الذي يملك أعلى احتياطي للنفط في العالم.
لا تقتصر أهمية الدعم الروسي لمادورو على الجانب الاقتصادي، إنما تشمل الجانب الجيوسياسي، حيث تسعى موسكو لنشر قواتها في منطقة البحر الكاريبي
سيرتان متناقضتان.. مادورو أم غوايدو؟
يعتبر مادورو (57 عامًا) واحدًا من أكثر الأشخاص المقربين للرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز، فقد ساهم عام 1992 بحملة سياسية للإفراج عن تشافيز بعد محاولة انقلابية فاشلة، وفي عام 1998 كان المنسق السياسي الإقليمي لحملة تشافيز الانتخابية. ثم تدرج عقب ذلك بالمناصب السياسية حتى انتخب في عام 2013 رئيسًا للبلاد خلفًا لتشافيز الذي توفي متأثرًا بمرض السرطان، وفي عام 2018 انتخب مرًة ثانية رئيسًا للبلاد رغم مقاطعة واسعة شهدتها الانتخابات من المعارضة الفنزويلية، وتقارير تشير لحدوث عمليات تزوير في عملية الاقتراع.
اقرأ/ي أيضًا: شوارع كاراكاس تشتعل.. خبز قليل قمع أكثر
وفي 23 كانون الثاني/يناير الماضي خرج غوايدو (35 عامًا) لتأدية قسم رمزي أمام حشد من المتظاهرين قرب الجمعية الوطنية الفنزويلية التي تسيطر عليها المعارضة الفنزويلية، وأعلن نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد، مطالبًا مادورو بالتنحي عن منصبه، وداعيًا في الوقت نفسه لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. سرعان ما لاقى إعلان الزعيم الشاب دعمًا من واشنطن، فيما أكدت موسكو على استمرار دعمها لمادورو.
تختلف السيرة السياسية لغوايدو عن مادورو في عدة تفاصيل لكنها تتشابه في كونه كان مؤيدًا للمعارضة الفنزويلية ضد النظام القائم، ففد برز للمشهد السياسي الفنزويلي عام 2009 عندما أسس بالاشتراك مع زعيم المعارضة ليوبوردو لوبيز حزب الإرادة الشعبية، وانتخب عام 2009 نائبًا في الجمعية الوطنية، وفي 2016 أصبح ممثلًا عن ولاية فارغاس المصنفة كواحدة من أكثر الولايات فقرًا، واختير رئيسًا للجمعية الوطنية مطلع العام الحالي بعد توافق المعارضة الفنزويلية عليه بالإجماع، ثم اعتقل على إثر ذلك لعدة أيام قبل أن تطلق سراحه السلطات الفنزويلية.
لا يفرق منهج بوتين التدخلي بين دعم أقصى اليمين أو أدعياء الاشتراكية واليسار بقدر ما يهمه فرض نفوذ الكرملين وقمع الإرادة الشعبية، بل وعدم الاعتراف بشرعيتها
تلخص هاتان السيرتان المتناقضتان أسباب اندلاع الأزمة السياسية التي تشهدها فنزويلا منذ مطلع العام الجاري، ما أدى لتصاعد الأزمة بين المعارضة الفنزويلية وحكومة مادورو، لكن بالنظر إلى جذورها فهي تعود لأكثر من عشر سنوات حيثُ يشهد اقتصاد كاركاس انهيارات متتالية فاقمت من معدلات التضخم، والبطالة بين الشباب، وارتفاع معدلات الفقر.
أزمة مادورو الاقتصادية منذ 2013
عندما انتخب تشافيز رئيسًا لفنزويلا كانت نسبة التضخم في البلاد لا تتجاوز 20 % خلال عام 2000، لكن هذه النسبة بدأت بالارتفاع تدريجيًا لتتخطى جميع المقاييس مع انتخاب مادورو لولاية ثانية بوصولها لنسبة 1,300.000 بالمئة خلال عام 2018 وفقًا لدراسة أعدها المجلس الوطني الذي تسيطر عليه المعارضة، ومع نهاية العام تضاعفت أسعار السلع كل 19 يوم بالمعدل، ما ساهم بارتفاع معدلات الفقر، وانهيار قيمة العملة المحلية مقابل الدولار.
كما أن الاقتصاد الفنزويلي شهد انهيارًا سريعًا منذ تولي مادورو لمنصبه على خلفية ارتفاع أسعار النفط مطلع الألفية الثانية، ما شجع تشافيز على اقتراض مبالغ كبيرة، لكن انهيار أسعار النفط منذ عام 2016 نتيجة عدة عوامل من بينها صعود واشنطن كمصدر للبترول، وفشل منظمة أوبك بضبط ارتفاع وإنتاج النفط بين أعضائها ساهم بدخول الاقتصاد الفنزويلي مرحلة انهيار اقتصادي تدريجي، وتشير تقارير إلى أن فنزويلا تعتمد على واردات النفط بشكل أساسي في اقتصادها، حيث يشكل النفط الفنزويلي 18 % من الاحتياطي العالمي.
ولا يقف الأمر في الأزمة الفنزويلية عند أزمة النفط العالمية فقط، فبحسب شبكة بي بي سي البريطانية يواجه الفنزويليون أزمة في تأمين أهم السلع الغذائية والدوائية بالاستناد لدراسة صادرة عام 2017، فقد أشارت الدراسة إلى أن 8,2 مليون يتناولون وجبتين أو أقل يوميًا ما دفع بهم باللجوء إلى أطعمة تقليدية تعرف في فنزويلا باسم "طعام الفقراء"، وتقول تقارير صحفية إن نحو ثلاثة ملايين فنزويلي لجؤوا إلى دول أمريكا اللاتينية خلال السنوات الماضية نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية.
لكن الأزمة الاقتصادية التي بدأت تتفاقم منذ وصول مادورو للسلطة لا تقتصر على سوء إدارة حكومة تشافيز ومن بعده مادورو لمعالجة الأزمة الاقتصادية، إنما يشملها العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2017 على ثمانية أشخاص لهم صلات بمادورو نفسه، واتجهت لتضييق الحصار الاقتصادي على كاركاس مع دراستها لتوسيع العقوبات لتشمل قطاع الطاقة، كما شهد العام عينه فرض حزمة عقوبات مالية وصفها البيت الأبيض بـ"القاسية".
وفي كانون الثاني/يناير الماضي فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات اقتصادية على شركة النفط الوطنية الفنزويلية لحجب عائدات النفط عن حكومة مادورو، وأمس الثلاثاء أعلنت كندا فرضها حزمة عقوبات اقتصادية جديدة على 43 شخصية فنزويلية قالت إنها مسؤولة عن تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية.. هل تعود الحرب من جديد؟
اتخذ الصراع الروسي – الأمريكي منحىً مختلفًا خلال الأزمة الحالية، ففي الوقت الذي تقوم واشنطن بالإضافة لدول الاتحاد الأوروبي بتقديم كافة وسائل الدعم الممكنة لزعيم المعارضة غوايدو، وفعليًا تجاوز عدد الدول الداعمة للمعارضة الفنزويلية 50 دولة، فإن مادورو لا يزال يلقى دعمًا من مجموعة دول من بينها روسيا وإيران.
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب قد دعمت عام 2002 محاولة انقلاب فاشلة نفذها رئيس غرفة التجارة بيدرو كارمونا ضد حكومة تشافيز لكنها لم تصمد لأكثر من 72 ساعة، ومنذ انتخاب تشافيز رئيسًا، شهدت العلاقات بين واشنطن وكاركاس فتورًا، وانتقادات متبادلة نتيجة الأفكار الاشتراكية التي اتسمت بها حكومة تشافيز، وصلاته القوية مع الرئيس الكوبي الراحل فيديل كاسترو.
وفي محاولة للوقوف في وجه الدعم الروسي المقدم للحكومة الفنزويلية، تقوم واشنطن بإجراء اتصالات مباشرة مع ضباط من الجيش الفنزويلي لحثهم على الانشقاق والانضمام إلى صفوف المعارضة الفنزويلية، وكان الجنرال فرانسيسكو جانيز عضو القيادة العليا لسلاح الجو، أول جنرال من بين ألفي جنرال في الجيش الفنزويلي يعلن تأييده لزعيم المعارضة غوايدو، كما تعمل على دراسة فرض حزمة عقوبات جديدة تستهدف الحكومة الفنزويلية لكنها لن تؤثر كثيرًا على المسؤولين المتنفذين في السلطة بقدر ما ستضاعف من الأزمة الاقتصادية التي تؤثر بشكل مباشر على الطبقة الوسطى والفقيرة.
تحاول واشنطن أن تضغط على حكومة مادورو من خلال رفع حزمة العقوبات الاقتصادية على كاركاس إلى أقصى درجاتها، فهي تهدف بذلك لإضعاف الاقتصاد الفنزويلي بشكل أكبر عما سبقه لزيادة الاحتقان الشعبي ضد الحكومة الفنزويلية، وتصعيد المظاهرات المطالبة بتنحي مادورو عن الحكم، على الرغم من أن هذه العقوبات لن تؤثر على الطبقة المقربة من مادورو التي لا تزال تحتفظ بأنشطتها السرية التي تدر عليها الأموال.
يبدو أن محاولات واشنطن المتصاعدة منذ مطلع الألفية الثانية لدعم المعارضة الفنزويلية كانت السبب الرئيسي وراء إرسال موسكو مقاتلين روس لحماية مادورو، فقد أشارت تقارير صحفية إلى أن موسكو أرسلت مجموعة من مرتزقة فاغنر الروسية– التي توازي في نشاطها مرتزقة بلاك ووتر الأمريكية– إلى كاركاس لحماية مادورو من قوات الأمن الموالية للمعارضة الفنزويلية، ووفقًا للتقارير فإن عدد المقاتلين الروس الذين يتواجدون في كاركاس يصل إلى 400 مقاتل، وكانت موسكو قد أرسلت نهاية الشهر الماضي طائرتين عسكريتين تحملان 99 خبيرًا عسكريًا، وشحنة مساعدات تتجاوز 35 طنًا من المعدات الطبية والغذائية.
وتشير تقارير صحفية إلى أن الاستثمارات الروسية في الاقتصاد الفنزويلي بلغت قرابة 10 مليارات دولار، وكضمانة لقرض بقيمة 1,5 مليار دولار قدمته موسكو للحكومة الفنزويلية في وقت سابق، حصلت شركة "روس نفط" المملوكة من الحكومة الروسية على حصة بنسبة 49,9 بالمئة في مصفاة سيتجو المملوكة من قبل شركة النفط الحكومية الفنزويلية، بالإضافة إلى أن فنزويلا تعتبر بوابة لتصدير الأسلحة الروسية إلى أمريكا اللاتينية.
لا تقتصر أهمية الدعم الروسي لحكومة مادورو على الجانب الاقتصادي، إنما تشمل الجانب السياسي لأن موسكو تدرك في دفاعها عن مادورو أن المكاسب الجيوسياسية ستكون مرتفعة، حيث تسعى لنشر قواتها في منطقة البحر الكاريبي، لكنها ستكون خطوة تعيد المتابع لمنتصف القرن المنصرم عندما نشبت الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو وتصاعد أزمة الصواريخ الكوبية.
اقرأ/ي أيضًا: فنزويلا.. مخاوف من حرب أهلية بعد تمرد عسكري فاشل
بالإضافة إلى ذلك فقد اعتبر محللون أن الدعم الروسي المقدم لحكومة مادورو نابع عن الكره الذي يبديه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لـ"الثورات الملونة" وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، إذ يرى بوتين أنه لا يمكن عزل أي نظام سياسي حتى لو كان غير فاعل من قبل المواطنين، كما أن الكرملين يعكس في تعامله مع الأزمة الفنزويلية السياسة الخارجية التي كان يتسم بها الاتحاد السوفييتي سابقًا حين كان يقدم الدعم الاقتصادي والعسكري لأي بلد يقف في وجه واشنطن. اللافت في منهج بوتين أنه لا يفرق بين دعم أقصى اليمين أو أدعياء الاشتراكية واليسار بقدر ما يهمه فرض نفوذ الكرملين وقمع الإرادة الشعبية، بل وعدم الاعتراف بشرعيتها.
عندما انتخب تشافيز كانت نسبة التضخم في فنزويلا لا تتجاوز 20%، لكن هذه النسبة ارتفعت مع انتخاب مادورو لولاية ثانية ووصلت لنسبة 1,300.000 بالمئة
على ضوء ذلك، فإنه لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تصل إليه الأزمة الفنزويلية نتيجة الدعم الروسي–الأمريكي لطرفي الصراع السياسي في كاركاس الذي يحمل في مضمونه بعدًا اقتصاديًا وسياسيًا يزيد من قوة الطرف الفائز على الساحة الدولية، ما يشير لإمكانية عودة الحرب الباردة بطرق جديدة، بالأخص أن روسيا باتت تتحكم بالعديد من الملفات الدولية من بينها الملف السوري الذي يظهر أن واشنطن أصبحت خارجه ما دفعها لاستخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلة أخيرة للضغط على الدول المتحالفة مع موسكو.
اقرأ/ي أيضًا: