لماذا فجأة تصدّر ملفّ عودة المقاتلين من بؤر التوتر إلى تونس ساحة الجدل السياسي في البلاد خلال الفترة الأخيرة، فبات يسارع كل طرف لإبداء موقفه ليعلن رفضه لهذا الموقف أو دعمه لذاك بل وانتظمت وقفات احتجاجية وعقدت الحكومة مجلسًا وزاريًا مخصّصًا لهذا الملف؟
قدّرت صحيفة التيلغراف البريطانية وجود 6500 تونسي يقاتلون في صفوف الدولة الإسلامية في سوريا والعراق
كانت للقصة بداية، وهو تصريح لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي قبل أسبوعين لوكالة الأنباء الفرنسية أكد خلاله أن "العديد من المقاتلين يرغبون في العودة لتونس ولا يمكن منعهم من العودة إلى بلدهم". كما أوضح السبسي خلال الحوار نفسه، أنه لا يمكن وضع كل الإرهابيين في السجون التونسية بسبب اكتظاظها وهو ما أثار جدلًا واسعًا لتقوم رئاسة الجمهورية لاحقًا بإصدار بيان توضيحي بخصوص هذا التصريح.
وجاء الحديث عن انطلاق الترتيبات لوقف شامل لإطلاق النار في سوريا وبالتالي عودة المقاتلين لبلدانهم بالتوازي مع الهزائم المتتالية لتنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وليبيا، وذلك بالإضافة للحديث المتواتر في تونس عن "قانون التوبة" رغم عدم إعلان أي جهة رسمية مبادرتها بطرح هكذا قانون، فإن ملفّ عودة المقاتلين يستلزم ضبط رؤية وخطة محدّدة لمعالجته.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تجتذب داعش المجرمين السابقين والمسلمين الجدد؟
المقاتلون التونسيون في بؤر التوتر... الرقم الصعب
وإنه لا يوجد تحديد نهائي لعدد المقاتلين التونسيين في مناطق النزاع وبالخصوص في سوريا، فإن مصادر متعددة ومتطابقة تؤكد على أهمية العدد التونسي. ويبدو، وضوحًا، أن حصر عدد للتونسيين المشاركين في القتال في سوريا وغيرها من مناطق النزاع يمثل خطوة محورية في تبيان أهمية تناول ملف العودة في الداخل التونسي ورهاناته.
نهاية سنة 2012، تحدثت مصادر صحفية على إعلان الأمم المتحدة بأن 40% من المقاتلين في سوريا هم تونسيون، ليتبيّن لاحقًا أن مصدر هذه المعلومة هو قناة الدنيا السورية مع غياب مصادر موثوقة حول وجود رقم رسمي معلن من الأمم المتحدة. فالحديث عن عدد التونسيين المنتمين لجماعات مسلحة في مناطق النزاع عرف خلال السنوات الفارطة تهويلًا إعلاميًا خاصة من الآلة الدعائية للنظام السوري.
وتختلف من ناحيتها تقديرات الأجهزة الأمنية التونسية رغم إجماعها على أن العدد يقدّر بالآلاف. فقبل سنتين، أعلن لطفي بن جدو وزير الداخلية حينها عن رقم مفزع وهو منع سفر 8 آلاف عنصر تونسي إلى سوريا كانوا يخططون للمشاركة في النزاع المسلّح.
وقدّر فريق عمل تابع لمفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، كلف بمتابعة ملف المرتزقة في بؤر التوتر، عدد التونسيين الملتحقين بمنظمات إرهابية ببؤر التوتر موزعين على سوريا وليبيا والعراق ومالي واليمن، بأنه بين 5300 و5800 وذلك وفق تقرير صادر في شهر يوليو/تموز 2015. وفي الربيع الفارط، قدّرت صحيفة التيلغراف البريطانية وجود 6500 تونسي يقاتلون في صفوف الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، لتتصدّر بذلك تونس قائمة الدّول المصدّرة للإرهابيين في هذا التنظيم. وجميعها أرقام يعتبرها وزير الداخلية الحالي الهادي مجدوب بأنها "مبالغ فيها".
وقبل بضعة أيام، كشفت صحيفة الصريح التونسية استنادًا إلى ما وصفتها بمعطيات رسمية أنه يوجد 3600 تونسي يقاتلون ضمن مجموعات إرهابية في بؤر التوتر في كل من العراق وسوريا وليبيا. وهو نفس الرقم الذي تداوله مسؤولون تونسيون من بينهم مستشار لرئيس الجمهورية.
لم تقدم وزارة الداخلية، من جهتها بالنهاية، رقمًا رسميًا حول عدد التونسيين في بؤر التوتر ولكنها أعلنت في المقابل أن 800 مقاتل تونسي عادوا من هذه المناطق إلى تونس وقد تم اتخاذ الإجراءات اللازمة بحقّهم.
مخاوف العودة
"لا لعودة الإرهابيين" هذا الشعار رفعه نواب حزب نداء تونس الحاكم في البرلمان للتعبير عن رفضهم لعودة التونسيين من بؤر النزاع، بيد أن هذا المطلب يتعارض تمامًا مع الدستور التونسي الذي يحظر منع تونسي من العودة إلى بلاده. إضافة لذلك، تطالب قوى سياسية ومدنية بسحب الجنسية من هؤلاء التونسيين وهو ما يتعارض كذلك مع الدستور الذي يمنع بصفة مطلقة سحب الجنسية عن أي مواطن تونسي. وهو ما جعل نواب من الحزب الحاكم يطالبون بتعديل الدستور بخصوص هذه النقطة.
لا يُنتظر أن تتجه الحكومة لرفض عودة المقاتلين لتونس، أو تتجه لسحب الجنسية منهم، وذلك ليس فقط التزامًا بالدستور، بل كذلك بالمواثيق الدولية ذات العلاقة. ولذلك فالمسألة الحقيقة المطروحة ليست حول العودة من عدمها بل حول كيفية التعامل مع العائدين.
حيث يتمتع غالبيتهم بكفاءة قتالية في صفوف التنظيمات المسلحة، فهم "قنابل موقوتة" قد تزيد من الخطر على الأمن القومي في البلاد التي بالكاد شهدت أوضاعها الأمنية تحسنًا خلال السنة الجارية مقارنة بالسنوات الفارطة، وهو ما يفترض مواجهة تحديات هذه العودة.
لا يُنتظر أن تتجه الحكومة لرفض عودة المقاتلين لتونس، أو سحب الجنسية منهم، وذلك ليس فقط التزامًا بالدستور، بل كذلك بالمواثيق الدولية
حيث تظلّ الخشية من مواصلة العائدين لنشاطهم القتالي في تونس وإسناد المجموعات الإرهابية الناشطة خاصة مرتفعات الشعانبي وسط البلاد. ويمكن حوصلة سيناريوهات نشاط العائدين بعد العودة كالتالي:
- القيام بمهمة التجنيد: حيث قد يتكفل عدد من العائدين من سوريا تحديدًا بتجنيد وتعبئة الجماعات الإرهابية وبالتالي مزيد تفريخ عناصر إرهابية في الداخل التونسي. حيث قد تتمتع العناصر المكلفة بالتجنيد بشكل من "الهيبة الجهادية" بحكم نشاطها السابق وهو ما قد يمثل عنصر جذب للشباب المتحفّز للقتال والذين قد يكونون من جملة 8 آلاف تونسي الذين تم منعهم سابقا من السفر إلى سوريا وفق الأرقام الرسمية المعلنة.
- الانضمام للمجموعات القتالية الناشطة:
قد ينضم عدد من المقاتلين في سوريا مباشرة إلى النشاط الجهادي المسلح في تونس بتعليمات من المراكز الجهادية. حيث يتمتع هؤلاء المقاتلون بكفاءة قتالية وقد تكون قد تشكلت دوائر تونسية إرهابية في بؤر التوتر حددت خططًا لاستئناف نشاطها القتالي في تونس فهو تحول لـ"الجهاد" ضد "الطاغوت" المحلّي. وهو السيناريو الأكثر خطورة بالنسبة للأجهزة الأمنية التونسية.
- العمل الدعوي:
قد يسبح عدد من العائدين من سوريا في العمل الدعوي بعيدًا عن العمل المسلح وذلك وعيًا منهم بتبني النهج الدعوي السلمي في تونس. وعموما، تبقى هذه الفئة ممثلة للخطر بسبب التجربة القتالية التي اكتسبتها في سوريا بحيث قد لا تمثل إلا قنابل موقوتة في الواقع. وتظلّ الخشية أن يتأسس العمل الدعوي على "التطرف الديني" وذلك بما هو أرضية لتأسيس العنف المسلّح لاحقًا.
قد يسبح عدد من العائدين من سوريا في العمل الدعوي بعيدًا عن العمل المسلح وذلك وعيًا منهم بتبني النهج الدعوي السلمي في تونس
- الانسحاب من التيار الجهادي:
يتعلق الأمر أساسًا بالمقاتلين الأقل وعيًا بأدبيات التنظيم وصغار السن، والذين أبدوا ندمًا على التحاقهم بالتنظيمات المسلّحة ويريدون استئناف نشاطهم داخل المجتمع التونسي. بحيث لا يكون انضمامهم السريع إلى التيار الجهادي والسفر إلى سوريا إلا من قبيل "فلتات المراهقة". ولا يمكن الحديث عمومًا عن مراجعات فكرية كونهم في الأصل غير متمكنيّن من الأدوات التأصيلية للفكر السلفي الجهادي بحيث يغلب "العاطفي" على "الفكري" لديهم. وقد تشكل العائلة، في هذا الجانب، عنصرًا فاعلًا في تشجيعهم على "التوبة".
اقرأ/ي أيضًا: كيف يتواصل الجهاديون عبر الانترنت؟
كيفية مواجهة جحافل العائدين
يجب في البداية التأكيد أن عدة دول قد اتخذت إجراءات للتعامل مع مواطنيهم المشاركين في النزاع المسلح في سوريا. ففي بريطانيا، تم تكثيف التوقيفات منذ سنوات في صفوف المواطنين الذين يتوجهون إلى سوريا أو يعودون منها.
ولعلّ المؤشر البارز حول الخشية من الكفاءة القتالية للجهاديين بعد عودتهم لبلدانهم، يتجلى مع قرار ملكي أصدره ملك العربية السعودية سنة 2014 ينصّ على معاقبة المواطنين الذين يقاتلون في الخارج بالسجن بين 3 سنوات و20 سنة. ويبدو أن العربية السعودية، بالنظر لهذا القرار، تخشى تكرار سيناريو العائدين من الساحة الأفغانية في التسعينيات الذين شكلوا لاحقًا نواة تنظيم القاعدة.
فيما يتعلق بالشأن التونسي، فوزارة الداخلية أعلنت عودة 800 مقاتل تونسي وأنه تم اتخاذ الإجراءات بحقهم، ويظلّ السؤال حول الخيارات المطروحة للتعامل معهم، والتي يمكن حوصلتها في:
التتبع القضائي:
يفترض هذا الخيار معاقبة كل عائد على أساس قانون مكافحة الإرهاب الذي يعاقب في الفصل 32 منه على بالسجن من ستة أعوام إلى اثني عشر عامًا وبخطية مالية كل من انضمّ عمدًا داخل تراب الجمهورية أو خارجه، إلى تنظيم أو وفاق إرهابي له علاقة بالجرائم الإرهابية أو تلقى تدريبات داخل تراب الجمهورية أو خارجه بقصد ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابية.
هذه المقاربة القضائية تواجه صعوبة تتعلّق بالإثبات فجزء هامّ من المقاتلين في سوريا لا يحملون إلا ختم الدولة التركية كدولة وصول بما أنهم دخلوا لسوريا عبر الحدود بطريقة غير شرعية، وبالتالي يستلزم إثبات وجودهم في سوريا وكذلك إثبات انتمائهم لتنظيم إرهابي. قد تكون عملية الإثبات ممكنة بالنسبة للتونسيين الذين تولوا مصادر قيادية داخل التنظيمات الإرهابية، أو الذين ظهروا علنًا في مقاطع مصوّرة للتنظيم الإرهابي بوجه مكشوف، أو الذين كانوا يتواصلون عبر مواقع التواصل الاجتماعي وينشرون صورهم وغير ذلك، ولكن على الدولة عبء إثبات فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وخلاف ذلك، هذه المقاربة تعني تعاملًا أحاديًا تجاه كل المقاتلين وبالتالي إيداعهم جميعًا في السجن، لتظلّ الخشية من عدم تحقيق العقوبة السجنية هدفها الرئيسي وهو الإصلاح بعودة المقاتل كعنصر صالح في المجتمع. حيث قد تمثل "محنة السجن" مركبًا في مزيد تأسيس الفكر الجهادي خاصة بالنسبة للعناصر التي لم تكن عودتها لتونس في البداية إلا انسلاخًا من هذا الفكر. وهل سيقع إيداع آلاف العائدين في سجن خاصة أو في غرف خاصة أو سيقع دمجهم مع سجناء الحق العام؟ ..فالخشية تظلّ من التجنيد في السجون. تحدث رئيس الجمهورية السبسي أن السجون التونسية لا تكفي لإيداع كل العائدين في السجن، فبالنهاية المسألة لا تتعلق بمجرد الاكتظاظ بل هي أكثر تعقيدًا.
المراقبة الأمنية:
هي مقاربة وقائية تفيد وضع العائدين من بؤر التوتر تحت المراقبة الأمنية ويتم تحديد مستوى هذه المراقبة بعد فرز للعناصر العائدة وتحديد مدى خطورتها إثر استجوابها. حيث يمكن وضع عناصر تحت المراقبة الأمنية اللصيقة أو عناصر أخرى تحت مراقبة أقل متابعة، كما يمكن وضع بعضها تحت رهن الإقامة الجبرية. ولا تعني هذه المراقبة عدم تفعيل التتبع القضائي كلما اقتضى الأمر خاصة بالنسبة للعناصر ذات الكفاءة القتالية.
يبدو أن الحكومة التونسية اتجهت لتطبيق هذا الخيار إلى حدّ الآن بالنسبة للعناصر التي عادت من مناطق النزاع، وذلك بوضعهم في قوائم خاصّة واتخاذ الاحتياطات الأمنية اللازمة تجاههم.
مقاربة قانونية خصوصية:
يسميه البعض قانون التوبة، وقد سماه رضا صفر، الوزير المعتمد لدى وزير الداخلية المكلّف بالأمن في حكومة جمعة قبل سنتين، بقانون الرحمة، وهو يعني وضع مقاربة قانونية خصوصية للعائدين من بؤر التوتر ممّن لم يتورّطوا في العمليات الإرهابية، وذلك بهدف إعادة إدماجهم في المجتمع التونسي.
تتأسس هذه المقاربة على ضرورة الفرز بين التونسيين الذين سافروا إلى مناطق النزاع وتحديدًا إلى سوريا، حيث يوجد عدد هامّ خاصة من فئة الشباب ممّن وقع التغرير بهم، وأبدوا ندمهم على سفرهم ويريدون استئناف نشاطهم في المجتمع التونسي. وتترافق هذه المقاربة بوضع برامج إصلاحية خصوصية للعائدين خاصة باستلهام تجربة مساهمة الدولة على غرار التجربة الجزائرية والمغربية في التحفيز للمراجعات.
إصدار هكذا قانون يستلزم مروره عبر البرلمان الذي ترفض عدة مكونات داخله وتحديدًا من الائتلاف الحاكم اعتماد مقاربة قانونية خاصة لمواجهة المقاتلين العائدين، حيث تطالب هذه المكونات بتطبيق قانون مكافحة الإرهاب لا غير.
اقرأ/ي أيضًا:
بعد اغتيال الزواري..الشارع التونسي يضغط ويحتج
في تونس..هل اغتالوا الزواري مرتين؟