31-مايو-2017

من المسلسل

الذين اهتموا يومًا ما بمتابعة ما تيسر من الأفلام السينمائية حول النازيين، سوف يعرفون أن هنالك صورة ما سعت السينما الغربية في ترسيخها حولهم. بالعادة يظهر الضابط النازي بليد المشاعر، شديد الأناقة، ذا بشرة بيضاء أو صفراء باهتة، ويتحدث بطريقة عملية جدًا، ومقتضبة وشديدة التبسيط، تمامًا كالآلة. في أحد الأفلام المشهورة، يظهر أحد هؤلاء الضباط في معرض تبريره للاسامية شارحًا لأحد المتعاطفين مع اليهود لاعقلانية الناس في تعاطفهم مع السناجب وكرههم للجرذان، مع أن كيهما، برأي الضابط النازي في الفيلم، قوارض.

منذ الحلقةِ الأولى، يبدو "أمير الخليّة"، في مسلسل "غرابيب سود"، كمتعاطٍ للمخدرات

الذين يقرأون عن النازية يعرفون أيضًا أن النازيين هم بالتمام عكس الصورة المتخيلة أعلاه، ويعرفون أيضًا الجذور المشتركة بين النازية وأغلب التيارات الرومانسية الأخرى. وببساطة، يعرفون أن النازيين كانوا مثل أغلبنا: ناسًا عاديين، دفعتهم حكايةٌ ما، وظروف اجتماعية وثقافية ورمزية مختلفة ومتناقضة، في مرحلة تاريخية محددة، لأن يفعلوا ما فعلوه. ولولا الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها، ودفع الناس بعضهم بعضا، لكانوا ناسًا عاديين ولما لاحظ أحد عليهم شيئًا مريبًا. لماذا؟ لأنهم ببساطة كانوا عاديين.

وجه نازي من فيلم "Inglourious Basterds"

هكذا بدون "لت وعجن". إنَّ أفضل من وصفهم، ربما، كانت حنة أرندت، حينما اعتبرت هذا النوع من السلوك شكلًا من أشكالِ "الشرّ العاديّ". والحقيقة أنه كان شرًا لأنه كان عاديًا. ولو أنّه لم يكن عاديًا لما كان شرًّا، بل كان جنونًا. أمّا الجنون فله تاريخه الآخر كما تعرفون.

اقرأ/ي أيضًا: نماذج من "الحرب الناعمة" ضد الإرهاب

أستطيع أنْ أقول، بقليلٍ من الثقة، أنَّ مسلسل "غرابيب سود"، والذي تعرضه حاليًا مجموعة الـ"MBC"، ويُفترض أن يقدّم للمشاهد صورة درامية للحياة الاجتماعية داخل تنظيم الدولة الإسلامية، أنَّ هذا العمل هو محاولة أمينة لقراءة داعش من منظور البارادايم السينمائي- النازيّ الموصوف أعلاه. منظرو التنظيم يظهرون بوجوهٍ عابسةٍ ليس من ملامحها الصِدْق والإيمان. عناصره يتلقون الأوامر كما لو كانوا آليين، ويتحدثون مع بعضهم بعضًا، ومع أطفالهم أيضًا، باللغة العربيّة الفصيحة لا بلهجاتهم المحليّة، وبطريقةٍ مغرقةٍ بالتكلّف. أما "أمير الخليّة"، فيبدو منذ الحلقة الأولى كمتعاطٍ للمخدرات، وفي مشهدهِ الأوّل يظهر وقد أجهزَ، بلا أيِّ منطقٍ، على أحد جرحى خليته الذي كان يرفض "التشهّد"، ويتوسّله باللغة العربية الفصيحة أيضًا قائلًا: "لا أريدُ أن أموت!". وليس من الصعب الاستنتاج أنَّ المشهد يريد أن ينفي علاقات التضامن داخل التنظيم، مصوّرًا مقاتليه على أنهم مجرد أدوات؛ أحجار على رقعة الشطرنج، لا كمؤمنين تربطهم بقادتهم علاقات حميمية، ويتقاسمون فيما بينهم تصوّرًا طوباويًا للقيمة والمعنى، ويشاركونهم ذات المخيال الاجتماعيّ ونفس السرديّة السياسية.

ولكن هذا كلّه غير مهم. فأنا–على عكسِ العديدين- لا أشكّ أبدًا أنَّ منفذي المسلسل أصحاب رسالة يعتقدون أنّها هادفة، كما أنّي متأكدٌ من أنَّه سوف يجذب ملايين المشاهدين سواءً على شاشة التلفزيون أو على الإنترنت. كما أنّي على ثقةٍ أيضًا بأنَّ هذا العمل سوف يصبح أحد أحاديث الشارع العربيّ المتعطّش أصلًا لتبين الصورة الغامضة للتنظيم، وفكِّ الطلاسم التي أغرقتها بهم وسائل الإعلام حول جبروته وسلوكياته، التي غالبًا ما يتذكر منها ناقدوه جزّ الرؤوس و"جهاد النكاح". 

وجه داعشي من "غرابيب سود"

لا شكّ إذًا أن المسلسل هو شكل من أشكال البروباغاندا، التي قد يعتبرها العديدون مشروعةً في سبيل محاربة التطرّف، وصدّ الغزو الثقافيّ للجماعات التكفيرية للمجتمعات العربية. وقد يكون أيضًا رسالةً إلى "الخارج" تقنعه بجهودِ رُعاة الـ"mbc" في "مكافحة الإرهاب". وإنْ حاجج العديدون أن مثل هذا الجُهد ضروريّ، إلا أنّي أجادل بأنَّه قد يؤتي عَكْسَ ما هو مطلوب منه. صحيح أنَّ مثل هذا الجهد يساهم بتجريم تنظيم محدد مثل داعش، كما ساهمت السينما الغربيّة طوال العقود الماضية بتجريم النازيّة، ولكنه لن يساعد بشكلٍ جديّ في مكافحة التطرف، كما لم تُسهم جهود مكافحة النازية وشجب الفاشية بمنعِ صعود الشعبويّة اليمينيّة المتطرفة التي فوجئنا بها في السنوات القليلة الماضية.

يشبه "غرابيب سود" إذًا، أيّ منتجٍ سينمائيّ هوليوديّ كلاسيكيّ حول النازية

يشبه "غرابيب سود" إذًا، أيّ منتجٍ سينمائيّ هوليوديّ كلاسيكيّ حول النازية، الذي يندرج في الخِطاب العربي النُخبويّ الذي يستسهل اتهام الآخر بدلًا من الاعتراف. ولا تصبّ هذه المحاولات إلا في حالة الإنكارِ العامّة التي تعيشها الطبقات الوُسطى العربيّة، وشرائح الانتلجنسيا إزاء صعود موجات التطرّف الإسلاميّ الحديث. فالاعتقاد الشائع لدى النّاس أن داعش هي من صناعة جهاتٍ أجنبية، أو من صناعة الأنظمة العربية ذاتها، هو الوجه الآخر للنزعة التي لا ترغب بأن تصدّق بأنَّ أبناء هذه المجموعات، هم في أغلبيتهم الساحقة صورة من صور المجتمع العربيّ (فلماذا أصلًا نناقش المشكلة إنْ كان بإمكاننا إنكارها؟). وحتى وإنْ نبت العديد من قادتهم من قهر السجون، وحتى لو دُعمَ بعضهم من خلف الحدود، فإنَّ حواضنهم الاجتماعية هم ناسنا، وقواعدهم التاريخية هي بلادنا.

اقرأ/ي أيضًا: تعرف إلى كواليس مسلسلات رمضان 2017 في تونس

الدواعش إذًا هم أناسٌ عاديون، ربما كانوا جيراننا، وربما صادفناهم في صالات الألعاب، أو على القهاوي، أو حتى في البارات. وربما نافسنا أسماءهم المُستعارة في ألعاب الإنترنت، أو على البلاي ستيشن، قبل سنوات. نحن لا ندري حقًا. ولكن ما نعرفه بالتأكيد، أنهم في سنواتِ بحثهم عن هُويتهم الضائعة، وجدوا أجوبتهم لسببٍ ما، في السردية السياسية والثقافية والهوياتية اللاعقلانية التي قدّمتها المجموعات الإسلاميّة المتطرفة. من هنا بالضبط، يجب أن تبدأ أيّ دراما ترغب بقراءة الإرهاب الإسلاميّ الحديث.

اقرأ/ي أيضًا:

صراع العروش.. حين يضعك الإبداع في مأزق

أن تكون بابلو إسكوبار