مثل كل ليلة، أتناول البرد بالشوكة والسكين كي أجرب الطبقة المخملية، فأنا لم أرتد سوى بقايا القماش متنكرة بهيئة قميص أو كنزة، وإبرة الرقع نخزت جلدي، أما النمش الناعم فقد كان مالحًا حين سقطت نقطة باردة وسالت من أعلى رقبتي حتى أسفل ظهري كلما ألبستني دمعتها.
لست خائفًا ولا جائعًا لكنه البرد! ومن لا يعرف البرد؟
ربته أمي مثل أخ "أزعر" كل شبر برقعة، لكنه تخلل مسامات القطب التي حاكتها حين استعارت صنارة كي تحيك لنا كرة لبنة دحرجتها من لبن جاف وفردتها فوق خبز يابس، لو تقضمه لوصل فتات تكسره إلى حنجرة الصدى وشرق بنثرة ولم تنفع كل كؤوس اللكمات على ظهره، كي توفر رشفة شاي قد تنفثها كديناصور، وتحرق من حولك حين يتناولك الجميع بسخرياتهم ويضحك إخوتك خلسة ثم تعلو قهقهاتهم، حينما لا يستطيعون كتمها ويعتذرون حين يزدردون أول لقيمة، كي لا تحنق عليهم وتستبد بهم كحاكم عربي كونك الأخ اﻷكبر. والأكبر يحق له ما لا يحق لغيره، فتحتضنهم حتى يختنق فحيح القمر وهو ينزلق خلف الجبل هادئًا، يطوي ضوءه كقميص مهترئ، لا يسمن من رؤية ولا يغني من برد.
دثروني.. زملوني.. ألقوا علي مزيدًا من اﻷغطية الثقيلة، فما زالت أزقة المخيم مثل شرايين قلبي ضيقة، وعلى جسدي بقع زرقاء مثل كدمة قديمة باهتة لم تشف من صراخها، كحبر فوق ورق مسودة لم تفلح كل محاولاتنا كي نجعله نصًا منقحًا قابلًا للنشر، كما لم تفلح كل محاولات أمي برتق الهوة بين أجسادنا وبين الصقيع المنساب من بين قطب الكنزة التي استعارت صنارة جارتنا، كي تكمل حياكة خرافتها وكلما قصت رقعة وخاطتها، ثقب البرد جورب الصوت، وأطلت إصبع قدمي تستكشف باطن الحذاء كقرنيْ استشعار أطلا من حذاء لاكته الحصى، فهتكت نعله ولم يبق منه سوى قماش يغطي ما تيسر من قدم صغيرة، كلما خطت شعرت بملمس التراب الرطب.
دثروني... فأمي ما زالت تقص خرافتها وحيدة هناك، وما زلت هائمًا في اﻷرض.. زملوني.. ما زال المخيم دون غطاء وما زالت روحي تشعر بالبرد، أعيدوني حتى في صندوق خشبي، كذب من قال لكم إن الميت لا يشعر بالغربة؟
اقرأ/ي أيضًا: