16-نوفمبر-2023
المسجد الأقصى باب العامود

إسرائيليون يرفعون العلم الإسرائيلي عند باب العامود، المدخل الرئيس للمسجد الأقصى (Getty)

بالتزامن مع عدوانها على قطاع غزَّة، تحاول سلطات الاحتلال فرض واقع جديد على المسجد الأقصى، يتيح لها إنجاز المزيد من خطوات التهويد في الفضاء المكاني والزماني للمسجد، والدفع نحو إنجاز الاحتلال أهدافه النهائية في السيطرة على المسجد الأقصى وتقويض نفوذ دائرة الأوقاف الإسلامية عليه وإنهاء الدور الأردني فيه.

كانت إحدى ذروات هذه الاِنتهاكات، والتي مثلت أحد أسباب عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، في أيام "عيد العرش" اليهودي الذي سبق العملية بستة أيام، وتضمنت طقوسُه اقتحامات واسعة للمسجد من قِبل حاخامات وقادة جمعيات استيطانية، وتأدية طقوس تلمودية وصلوات على أبواب المسجد مع حمل القرابين النباتية. وقد رافق ذلك اعتداء على المرابطين والمصلين، واستفرازهم بإقامة حلقات رقص على أبواب المسجد ورفع هتافات عنصرية، مع التضييق الخانق على سكَّان البلدة القديمة.

مستوطنون متطرفون
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى عند باب القطانين، في 5 أكتوبر (Getty)

ورغم تكرر هذهِ الانتهاكات بشكلٍ شبه يوميّ، إلا أنها في مواسم الأعياد تتضاعف وتيرتها وتتخذ أشكالًا أكثر حِدة وشراسة من قِبل المستوطنين وشرطة الاحتلال، تمهيدًا لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيًا، بحسب الناشط المقدسي عبد العفو بسَّام، من بلدة بيت حنينا شمال مدينة القدس.

وفي أعقاب عملية طوفان الأقصى، التي بلغت حصيلتها الرسمية 1200 قتيل إسرائيلي، فرضت سلطات الاحتلال تشديدات مضاعفة على بوابات الأقصى، ونشرت قواته في باحات المسجد، وأقامت طوقًا على مساحة كيلو متر حوله، كما منعت شرطة الاحتلال دخول المسجد إلا لمن تزيد سنّه على 65 عامًا.

كما شهدت مدينة القدس عامةً، والبلدة القديمة بشكلٍ خاص، عسكرة ملحوظة، إذ "تحوّلت القدس حرفيًا إلى ثكنة عسكرية"، بحسب بسَّام، وزاد عدد أفراد شرطة الاحتلال الإسرائيلي وحرس الحدود والقوات الخاصة، وزادت غطرسة تعامل جنود الاحتلال مع أهل المدينة بشكلٍ غيرِ مسبوق، "تعتدي شرطة الاحتلال على الشباب بالضرب لأتفه الأسباب، تجبرهم على رفع ملابسهم، وأحيانًا إنزال سراويلهم لتفتيشهم في الشوارع".
 
كما انتشرت الحواجز العسكرية في المدينة، حتَّى وصل عددها إلى 4-5 حواجز في مسافة لا تتجاوز 400 متر. يقول بسام: "بين بلدتي والمسجد الأقصى 10 دقائق لكن بمر على ثلاثة حواجز أو أكثر حتَّى أصل المسجد". أما زوَّار المسجد من مدن الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل فينتظرون مدَّة لا تقل عن أربع ساعات لعبور الحواجز قبل دخول مدينة القدس بسبب اكتظاظ السيارات ودقة التفتيش.

وكثيرًا ما تمنع سلطات الاحتلال من يقطنون في بلدات وأحياء تعتبر بؤر مواجهة ساخنة مع الاحتلال، مثل العيسوية، ومخيم شعفاط، وسلوان، وجبل المكبر، وصور باهر، من الوصول إلى البلدة القديمة في القدس، فضلاً عن منع ما يقول الاحتلال إنهم "مطلوبون" من النشطاء والمرابطين، ومطلوبون لملفات ضريبية، من تجاوز حواجز الشرطة عند جميع أبواب المسجد الأقصى.

وبحسب بسَّام، فإن القبضة الأمنية على مدينة القدس في الأسابيع الماضية غير مسبوقة في نوعها في مقدار العنف والاعتداءات، تفوق ما شهدته المدينة في هبَّات عديدة سابقًا مثل هبة النفق عام 1996، وهبة السكاكين في عامي 2015-2016، وهبّة البوابات الإلكترونية عام 2017، وهبّة باب الرحمة عام 2019، وهبّة القدس عام 2021. "في الأحداث السابقة كان العنف والتضييق لساعات محددة وأيام معدودة لكن هذهِ أول مرَّة يستمر التضييق على المسجد لأكثر من شهر".

مستوطن يضع الأعلام الإسرائيلية

يُرجِع عبد الله معروف، أستاذ دراسات بيت المقدس، ومسؤول الإعلام والعلاقات العامَّة في المسجد الأقصى سابقًا، سبب سياسة تضييق الاحتلال على المسجد الأقصى إلى الخوف من تداعيات حدوث مواجهات أو هتافات داخل باحاته قد تؤدي إلى توسيع نطاق المواجهات في مدينة القدس والضفة الغربية وبشكل محتمل في الداخل الفلسطيني المحتل، كما حصل عام 2021 في معركة "سيف القدس".

يؤشر هذا -بحسب معروف- إلى أن حكومة الاحتلال تعرف خطورة ما يجري في الأراضي الفلسطينية، وتفهم موقع المسجد ومكانته، ما حملها على إغلاقه في وجه زوَّاره، وفتحه فقط لكبار السن الذين تتجاوز أعمارهم الخمسين عامًا، وحتَّى هذهِ الفئة العمرية قد تُمنَع من دخول المسجد: "هذا الأمر رأيته بعيني، في يوم الجمعة الماضية مجموعة من كبار السن، يغطي الشيب رأسهم مُنعوا من دخول المسجد دون أي سبب"، يقول بسَّام.

وقد أعطت سلطات الاحتلال قواتها المتواجدة على أبواب المسجد الأقصى الصلاحية الكاملة في اِتخاذ القرار والتحكّم بحركة المصلين فيه، ويكون السماح بدخول المسجد أو المنع يخضع لمزاج الشرطي تمامًا "هو شيء مضحك وغريب في ذات الوقت، إذا الشرطي عجبه شكلك ممكن تدخل، وإذا لا بقلك روّح الأقصى مسكَّر". وهذهِ المرة الأولى التي تسير فيها الأمور بهذهِ الطريقة، بينما في وقتٍ سابق، كانت سلطات الاحتلال تُعمِّم قرارًا على قواتها بمنع فئة معينة من دخول المسجد، وعليه تفحص هويات المصلين وتتأكد من تنفيذ القرار عليهم.

كذلك، زادت القيود على موظفي المسجد الأقصى وحرَّاسه منذ السابع من أكتوبر الماضي، يقول أحد الحرَّاس، الذي -فضَّل عدم ذكر اسمه- في حديث لـ"ألترا صوت": "يوميًا  نتعرَّض للإذلال والتفتيش رغم إبرازنا ما يثبت أننا حرَّاس، وهم يعرفوننا تمامًا، ومع ذلك يجري إعاقة دخولنا إلى باحات المسجد، بل إن الحارس الذي يأتي مبكرًا قبل موعد التحاقه بوظيفته يمنع من الدخول حتى يأتي موعد مناوبته"، ويكون الضرب أو الاِعتقال مصير من يُصدِر أي إشارات أو عبارات الاِعتراض.

أدت هذهِ الإجراءات إلى إفراغ باحات المسجد الأقصى من أهله والمصلين إلا القلة من كبار السن للأسبوع السادس على التوالي، فحتَّى أيام الجمع السابقة، لم تتجاوز أعداد المصلين 5 آلاف مصلٍ، وكان يوم الجمعة الماضية 10 نوفمبر/ تشرين الثاني هو الأقل عددًا من جهة المصلين منذ بداية "طوفان الأقصى" بمجموع 4 آلاف مصلٍ، "وهي تقريبًا عبارة عن أربع صفوف من المصلين في المصلى القبلي"، بتقدير بسَّام، بينما تتجاوز أعداد المصلين في المسجد الأقصى يوم الجمعة في الأوقات الاعتيادية 50 ألف مصلٍ.

ويضطر مئات المصلين في ظل هذه التقييدات القاهرة إلى أداء الصلاة في الشوارع القريبة من أسوار البلدة القديمة، بما فيها وادي الجوز وشارع صلاح الدين، وكثيرًا ما تفرِّقهم سلطات الاحتلال بعد الصلاة مباشرة بقنابل الصوت والغاز المسيِّل للدموع والمياه العادمة.

تواصل الاقتحامات
بينما يُمنع المصلون من دخول مسجدهم، تواصل شرطة وقوات الاحتلال تأمين اقتحام المستوطنين الذين تقلصت أعدادهم بعد معركة "طوفان الأقصى"، حيث لم يتجاوز عدد المقتحمين في اليوم الواحد 300 مستوطن، بينما تجاوز عدد المشاركين في الاقتحامات التي جرت خلال ستة أيام من الأعياد اليهودية 5800 مستوطن، وهو عدد يفوق بكثير أعداد من اقتحموا الأقصى في الأعياد العام الماضي.

وبعد العملية بأيام أعلنت جماعات المعبد المتطرفة تنفيذ اقتحامات للمسجد الأقصى المبارك، مصحوبة بطقوسٍ دينية متمثِّلة بالنحيب والبكاء والدعاء طلبًا "للمعونة الإلهية" والنصر من الله لجيش الاحتلال، وذلك في المسجد الأقصى، المعروف لديهم باسم جبل الهيكل.

وقد أقيمت الطقوس تحت حراسة مشددة من شرطة الاحتلال، شارك فيها عدد من حاخامات المستوطنات على رأسهم كبير حاخامات ما يُسمَّى "اتحاد منظمات المعبد" الحاخام "يسرائيل أرئيل"، إلى جانب الحاخام الأحمر المتطرف "يهوذا غليك" الزعيم الروحي لمنظمات المعبد المتطرفة، إضافةً لعدد من جنود الاحتياط في جيش الاحتلال.

يُبيِّن عبد الله معروف، أن الجماعات المتطرفة التي تسيطر اليوم على حكومة الاحتلال، تستهدف مقدساتٍ إسلاميّة بعينها وتفرض مقدساتٍ يهوديّة في مكانها، كممارسة استعماريّة. يحصل ذلك بشكل متواصل ومتزايد الخطورة في المسجد الأقصى، الذي تسعى تلك الجماعات إلى تكثيف وجودها فيه مدفوعة بمعتقدات دينية متطرّفة، ضمن تيار يصفه معروف بأنه شديد الخطورة "لأنه يُصر على تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى وإن أدى ذلك إلى صدامٍ عالميٍ كبير يكون مقدمة لنزول المسيح" بحسب اعتقادهم.

كما أن استمرار اقتحام "جمعات المعبد" المتطرفة للمسجد الأقصى يدل -بحسب معروف- أنها أدركت خطورة ما حصل في السابع من أكتوبر، إضافة إلى شعورها بالعجز والنقص الذي يدفعها إلى إقامة طقوس دينيّة في قلب المسجد، بدعوى تسريع الخلاص وتحقيق النصر على "العرب" الفلسطينيين عبر مواصلة إبادتهم وتفريغ الأرض بشكل كامل منهم.

يتجلى ذلك في تهديدات أطلقتها منظمة "جبل الهيكل في أيدينا" اليهودية التي يرأسها المتطرِّف "توم نيساني"، بإغلاق المسجد الأقصى المبارك في وجه المسلمين حتى إطلاق سراح جميع أسرى الاحتلال في غزة ضمن عملية "طوفان الأقصى". وتنشط هذهِ الجماعة في اقتحامات المسجد الأقصى، وفرض الطقوس التوراتية فيه يوميًا؛ وتدعو إلى شطب دور الأوقاف الإسلامية ووضع المسجد الأقصى تحت الإدارة الصهيونية المباشرة.

من المسؤول عن حماية الأقصى؟

وفقًا للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لعام 1967، فإن المملكة الأردنية الهاشمية هي صاحبة الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس من حيث المحافظة على مكانتها ورعايتها وإعمارها. رغم ذلك، لم يصدر عن المملكة مؤخرًا أي إدانات لإغلاق المسجد الأقصى والانتهاكات الحاصلة فيه، رغم تأكيد كل من وزارة الخارجية ووزارة الأوقاف الأردنيتين إصدار عِدة بيانات وإدانات. في هذا الصدد.

لكن، وبالرجوع إلى البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية ووزارة الأوقاف، سواءً في موقع الوزارتين الرسمي وحساباتهما على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) و"فيسبوك"، يتبيَّن أن جميع البيانات الصادرة عنهما تنحصر في التأكيد على أهمية وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب على قِطاع غزة والتنديد بالجرائم الإسرائيلية فيها، دون الإشارة إلى الانتهاكات الجسيمة الحاصلة في المسجد الأقصى في أيٍ من المنشورات. 

إزاء ذلك، قمنا بالتواصل مع وزارة الخارجية التي طلبت على لسان ناطقها الإعلامي، سفيان القضاة، إرسال بريدٍ إلكترونيٍّ عبر موقع الوزارة للإجابة عن السؤال حول الموقف الأردني تجاه ما يحصل في المسجد الأقصى، غير أن الردّ لم يصل لغاية نشر هذا التقرير.

إن إغفال ما يجري في المسجد من تطورات تمهَّد للسيطرة عليه بشكلٍ كامل أمر خطير وغير مقبول -وفق معروف-، خاصَّة مع كثافة المنشورات التي توزّعها جماعات المعبد المتطرفة "تُبِشر" فيها بتدمير المسجد قريبًا، مع ربط ذلك بالحرب على غزَّة واستغلال المناخ العامّ الداعي لاستهداف الفلسطينيين وإلغائهم. "لا يمكن لأحد أن يغفل أهمية الدماء البريئة التي تسيل في غزة، في نفس الوقت، ينبغي ألَّا ينسينا هذا الأمر أن المعلم الأساسي الذي تدور حوله هذهِ المعركة كان منذ البداية هو المسجد الأقصى" يقول معروف.

المشاريع الصهيونية في المسجد الأقصى خلال الحرب على غزة

وكانت الإجراءات المشددة التي فرضتها سلطات الاحتلال على المسجد الأقصى قد توسَّعت لتمتد إلى المدينة بكاملها بضواحيها وبلداتها منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتحوَّلت البلدة القديمة في القدس إلى بلدة أشباح لا يرتادها إلا المستوطنين وقوات الاحتلال، بعد أن فُرضَت عليها تشديدات أمنية كبيرة أفرغت البلدة من روادها والوافدين إليها من أهل القدس والضفة والداخل الفلسطيني.

وصعّدت قوات الاحتلال من حملات اقتحام لبيوت الأسرى ومصادرة أموالهم ومركباتهم ومصاغ نسائهم، وهدم منازل بعض العائلات المقدسية بحجة البناء بدون ترخيص، ومداهمة المحلات التجارية وتخريب الممتلكات.

وقد أسفرت حملة المداهمات لقرى وبلدات وأحياء القدس عن اعتقال (410) منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر حتَّى نهاية الشهر ذاته، على خلفية تعبيرهم عن آرائهم على المنصَّات الرقمية، بعد اقتحام منازلهم وتفتيشها وتخريب محتوياتها، بحسب مركز معلومات وادي حلوة الحقوقي، ولا زالت الاعتقالات مستمرة خلال الشهر الجاري بشكلٍ يوميّ.

وأفاد المركز بأن المداهمات لمنازل المعتقلين يتخللها "ضرب الشبَّان وتفتيش وتخريب لكامل غرف ومحتويات المنزل"، إذ يتم "تفتيش دقيق للخزائن والكتب والملابس والطعام، والتفتيش الجسدي لأفراد العائلة، وتمزيق المصاحف".

يرى عبد العفو بسَّام أن هناك حربًا موازية أخرى يشنّها الاحتلال على الفلسطينيين في مدينة القدس منذ السابع من أكتوبر، من اشتباكات يومية مع الاحتلال مخلفة شهداء وجرحى ومعتقلين، وعمليات طعن تحدث على فترات، "لكن التغطية الإعلامية موجهة لغزَّة أكثر لفظاعة ما يحدث فيها"، الأمر الذي يُشعِر بسكون المدينة وخمول أهلها تجاه ما يحدث في قطاع غزَّة، وتخاذلهم عن نصرتها. يقول بسام "التقصير قائم، لكن نود أن يعرف العالم أننا في القدس والضفة تحت قبضة أجهزة السلطة الفلسطينية والاحتلال معًا".

يرجو بسَّام انتهاء الحرب الدموية على غزّة، والتي راح ضحيتها زهاء 12،000 شهيدة وشهيدة، نصفهم تقريبًا من الأطفال، لكنه في ذات الوقت يدرك بإحباط بالغ أن للحرب ما بعدها من صعوبات متزايدة على المدينة المحتلّة وتواصل فرض هويّة وسيطرة إسرائيلية على المسجد الأقصى. "تعودنا بعد كل أحداث بتصير، سطوة الاحتلال على القدس بتزيد بصورة أكبر"، وذلك باعتبار أن المدينة تخضع بشكلٍ كامل، وفي كافة مناحي الحياة لسلطة الاحتلال.