فبراير الأسود هو المعادل السينمائي لمجموعة من القصص القصيرة التي كتبها ماركيز في التسعينيات حول الإمبرالية والرأسمالية في إطار من السخرية المريرة. إحدى القصص التي تتذكرها قسرًا وأنت تتفرج على الفيلم قصة الفتاة التي تمارس الدعارة، حتى تجمع مبلغًا من المال يكفي ثمنًا للبيت، هذا البيت الذي اعتقدت أن ممارسة الدعارة مع أحد الرجال البيض سيجعله لها، إلا أنها تفاجأ أن ممارستها معه وحده ليست ثمنًا كافيًا للبيت، وليفاجئها أن جسدها هو أحد مشاريع "المرأة العاملة" التي يتبناها في المنطقة؛ حيث وعد الرجل الأبيض الفتاة أنها لو مارست الدعارة مع 300 شاب سيكون البيت ملكًا لها.
أو تلك القصة التي "وعد" فيها أحد ملاك الأراضي رجل أعمال بليلة مع ابنته مقابل تعهد مكتوب بتنازله عن تهديده بالاستيلاء على أرضه. رجل الأعمال وهو يضاجع الفتاة اكتشف أن والدها ربط على خاصرتها صندوقًا حديدًا بقفل معلقًا عليه التعهد والقلم ورسالة رقيقة: "الإمضاء أولًا". تلك كانت الواقعية السحرية التي تبدأ فيها التفاصيل اللامعقولة ولا تنتهي.
خالد صالح في فيلم فبراير الأسود كان مارلون براندو في الأب الروحي دون أن يظهر معه في الكادر أي آل باتشينو
أما فبراير الأسود فهو يحكي عن أحد علماء الاجتماع الهامين في مصر، والذي يحب البلد رغم كثير من الأوضاع المأساوية التي من بينها أخوه وزوجته علماء الكيمياء اللذان يسقطان في بئر التجاهل الكبير في مصر. وللتحايل على الأوضاع يتجهان إلى صناعة " الطرشي" أو المخللات.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الخادمة".. جنس وعنف، وأشياء أخرى
العلم "كأحد الرموز السيميوطيقية" للوطن يستحوذ على كثير من المشاهد. من المشهد الأول الذي يبدأ بحفل نوبل بطله "زويل"، ثم أحد المشاهد التي تتراجع فيه "هيبة" الوطن حين اضطر خالد صالح وأخوه إلى اتخاذ وضعية الحيوان ذي الأربع مع ضرورة توجيه مؤخراتهم للشمس -كما نصحهم الطبيب- لكي تستقيم حيواناتهم المنوية وتصبح صالحة لإنجاب الأطفال. المؤخرات تحت العلم. فيا له من إسقاط!
العقدة هي الحماية التي يفتقدها كل المواطنين في مصر طالما أنهم ليسوا من "الطبقة الآمنة"، وهو المصطلح الذي نحته محمد أمين المؤلف، وظل علامة مسجلة في المجتمع المصري وهم "القضاة وموظفو الدولة الذين لهم علاقة مباشرة مع الشرطة أو الجيش أو الرئاسة أو أمن الدولة".
تتعرض الأسرة إلى حادث في إحدى المناطق الصحراوية وتتحرك فيه النجدة لإنقاذ أفراد الطبقات الآمنة من المستشارين ورجال الدولة وأسرهم، بينما تتكفل الكلاب بإنقاذ أسرة العالم خالد صالح وإيصالهم للبيت في مشهد فانتازي عظيم لمراد مصطفى مخرج فيلم بنتين من مصر وفيلم ثقافي.
تدرك الأسرة أن "الحماية" هي أصل كل شيء، وهي القادرة على نقلهم إلى الطبقة الآمنة في مصر فتبدأ التحركات على هذا الأساس: يفسخون خطبة ابنتهم من الشاب العادي ويسعون إلى خطبتها من القاضي. يترك القاضي عمله لأنه وقع في مواجهة مع الدولة واختار أن يكون شريفًا، فيفسخون خطبته ويتجهون إلى أحد العاملين بالرئاسة، ثم يفسخون خطبته لنفس السبب تقريبًا، وهكذا حتى يجربوا خيارات الهجرة، أو إلحاق أحد أبنائهم بلعب الكرة وغيرها.
الفيلم خرج إلى النور في أجواء كان فيها حراك سياسي ورئيس مدني في السلطة، واستحقاقات انتخابية خرج فيها المصريون إلى الشارع. استحقاقات حقيقية وليست مزيفة أو محسومة. في وقت كان فيه المصريون يستطيعون أن يسبوا الرئيس علنًا، وكان هناك برنامج ساخر يذاع كل جمعة يسخر من الرئيس المنتخب. وكان كل شيء يبدو جديدًا وقتها في مصر. بدت مصر وقتها وكأنها طفل يتعامل مع جهاز جديد لأول مرة ويضغط على أزارار التحكم دون قراءة كتيب الإرشادات.
خالد صالح كان العبقري الوحيد بمعنى أنه كان الصوت الأقوى في أي كادر. كان مارلون براندو في الأب الروحي دون أن يظهر معه في الكادر أي آل باتشينو. حاولت ألفت إمام كونها ممثلة مساعدة مخضرمة أن تؤثر بأدائها المتزن لكن خالد صالح لا ينافسه أحد.
اقرأ/ي أيضًا: الجفاء بين الكاميرا وبيروت القديمة
الفيلم تحدث بانفتاح اتسمت به مصر في 2013 عن القانون الذي لا ينفذ، وعن الطبقات الآمنة، وعن تجاهل العلماء، وعن المرحلة الانتقالية والثورة وخيارات الهجرة، وتصدير لاعبي الكرة كواجهات اجتماعية أهم من بقية أفراد المجتمع، وتحدث بسلاسة عن الغاية التي تبرر الوسيلة، وانتقد نظرية "تشخيص" مصر بصفتها فرد نحبه ونكرهه، وانتقد مفهوم الدولة القومية من الأساس ولكن لماذا تم تجاهله؟
فبراير الأسود من الأفلام المهمة التي تنبأت بالواقع المصري وهي نادرة في أرشيفنا السينمائي
ربما لطرحه الساخر أو لواقعيته الفانتازية التي لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد. فالواقعية الفانتازية هي أن يكون غير المعقول تفصيلة صغيرة داخل القصة الكبيرة المنطقية، وهي تختلف عن الواقعية السحرية التي عُرفت بها القارة الأمريكية التي يبدو فيها كل حدث "أمر غير معقول".
فبراير الأسود من الأفلام المهمة التي تنبأت بالواقع المصري وهي نادرة في أرشيفنا السينمائي وتُعرض اليوم على سبيل التسلية وتمضية الوقت وتذكر الراحل خالد صالح.
لكن الفيلم حقيقي ويتبنى لغة الشارع حتى وإن كان الغرض من مشاهدته في 2016 بعد تثبيت الحكم العسكري في مصر هو التسلية والبكاء على اللبن المسكوب، وبعد أن تبنت عدة حركات مصرية اسم الفيلم مع "لوجو" شهير لشاب عامل يقول ساخرًا: تنتظرنا أيام سوداء أو بالعامية المصرية "بقولكو أيام سودا".
اقرأ/ي أيضًا:
ألم وانتقام ودعوة للتصالح مع فيلم "دموع إبليس"
دليلك السينمائي لفهم أمريكا في عهد دونالد ترامب