يواجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أزمةً قياديةً لم يسبق وأن واجهها حسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، وذلك بسبب الأزمة الراهنة المتمثلة في توغل القوات الأوكرانية المباغت في منطقة كورسك الروسية، والإجلاء القسري لآلاف المدنيين.
وعلى الرغم من أنّ بوتين ليس غريبًا على الأزمات القيادية، وهو القادم من عمق المؤسسة الأمنية، وتقلّب في المسؤوليات القيادية لأكثر من عقدين من الزمن، إلّا أنّ التحدي الذي يواجهه حاليًا قد يكون أصعب الاختبارات التي مرّ بها، خاصّة أن توغل القوات الأوكرانية في عمق أراضيها يعدّ سابقةً منذ 80 سنةً.
وبحسب مقال "وول ستريت جورنال" الذي أعدته الكاتبة إيمي نايت، فإن بعض من سمّتهم "المدونين العسكريين المؤيدين للكرملين" بدؤوا يشككون في المؤسسة الدفاعية الروسية، في حين أن أحد القلائل المقربين من بوتين، وهو رجل الأعمال البارز، أوليغ ديريباسكا، انتقد الحرب علنًا.
يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختبارًا صعبًا قد يزعزع ثقة الروس في قيادته السياسية للبلاد
ممّا لا شك فيه أنّه كانت هناك علامات سخطٍ داخل فريق بوتين الأمني منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وبرز هذا السخط، جليًّا عندما فشل بوتين في السيطرة على، يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة فاغنر في حزيران/يونيو 2023.
وألقى سكرتير مجلس الأمن آنذاك، نيكولاي باتروشيف، خطابًا تحدث فيه عن بوتين بصيغة الماضي، مما أدى إلى انتشار شائعاتٍ عن وفاة الزعيم الروسي، وقد نال عقابه بعد ذلك عندما عزله بوتين من منصبه القيادي في مجلس الأمن، وجعله مستشار الرئيس في بناء السفن، وهي وظيفة "مهينة"، حسب "وول ستريت جورنال".
ومع ذلك، انضم إلى الأصوات المنتقدة هذا الشهر، أوليغ ديريباسكا، وهو أحد أغنى رجال الأعمال في روسيا، والذي قال إن الإنفاق الدفاعي للكرملين مبالغٌ فيه. ووصف ديريباسكا حرب أوكرانيا بأنها "مجنونة"، وحث على "وقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط".
ديريباسكا: الشجرة التي تغطّي الغابة
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي ينتقد فيها ديريباسكا الحرب، إذ كان قد كتب بعد وقتٍ قصير من الغزو على تليغرام: "نحن بحاجة إلى السلام في أسرع وقت ممكن".
وقد تسببت تعليقات ديريباسكا الأخيرة - التي رافقت غزو أوكرانيا لمنطقة كورسك - في إثارة ضجةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي الروسية، حسب الصحيفة الأميركية.
وفي هذا الصدد كتب الفيلسوف السياسي والناشط الروسي، ألكسندر دوغين، على تليغرام ردًّا على رجل الأعمال جاء فيه ما نصّه: "في السابق، كان موقف ديريباسكا من العملية العسكرية الخاصة غامضًا، ولكنه واضحٌ الآن، هذه طعنةٌ في ظهر شعبنا ومساعدةٌ لإرهابيي القوات المسلحة الأوكرانية الذين غزوا منطقة كورسك" وفق تعبيره.
ويرى المحللون، حسب "وول ستريت جورنال"، أن تصريحات ديريباسكا تعكس مزاج النخبة السياسية والاقتصادية في روسيا، لأنه لم يكن لينتقد بوتين علنًا بدون دعم.
وفي هذا الصدد أشارت الصحيفة إلى موقف باتروشيف - الذي يحظى بشعبية بين دوائر الأمن والاستخبارات الروسية - حيث أعرب، هو الآخر، عن قلقه من الهجمات الأوكرانية في مناطق كورسك وبيلغورود وبريانسك، وأشار إلى أن الأضرار الناجمة عن الهجمات كلفت أكثر من 7 مليارات روبل، ودعا إلى اتخاذ تدابير منهجية لحماية هذه المناطق.
ويثير توغل القوات الأوكرانية في كورسك الروسية تساؤلات ذات وطأة قوية على "الكبرياء الروسي". فهذه هي المرة الأولى منذ ثمانين عامًا التي تنجح فيها قوات أجنبية في التوغل داخل الأراضي الروسية، وبالتالي بات من المؤكد أنّ هذا الحدث سيترك أثرًا نفسيا طويل الأمد على الشعب الروسي ونخبته العسكرية قبل السياسية.
وليس من المحسوم بعد ما إذا كان بمقدور روسيا إنهاء التوغل الذي بدأ في السادس من آب/أغسطس وسط مخاوف روسية من أنّ استمراره، وتأييد الغرب له قد يمنح أوكرانيا زمام المبادرة، والمزيد من الدعم الغربي بأسلحةٍ هجومية ودفاعية نوعية من شأنها أن تغير قواعد اللعبة، وتقلب الطاولة على موسكو.
وفي خضمّ تداعيات هذه الخطوة يتزايد الحديث عن سيناريوهات اليوم التالي للتوغل الأوكراني في كورسك الروسية.
الاحتفاظ بميزة التوغل أطول فترة ممكنة:
ستحقق أوكرانيا اختراقًا كبيرًا في الحرب طالما تمكنت من الحفاظ على توغل قواتها في الأراضي الروسية، وتشير تصريحات المسؤولين الأوكرانيين إلى رغبة كييف في ذلك، من خلال حديثهم عن إقامة منطقة عازلة أو إدارات عسكرية أو إقامة حكمٍ عسكري في مناطق سيطرتها.
وفي هذا الصدد أعلنت كييف، الأربعاء الماضي، على لسان وزير داخليتها، إيغور كليمنكو، عن نيّتها في إقامة منطقةٍ عازلة على الأراضي التي تسيطر عليها قواتها في مقاطعة كورسك الروسية. كما أشار الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى أنه بحث في اجتماع مع مسؤولين أوكرانيين "إنشاء إدارات عسكرية، واحتمال فرض حكمٍ عسكري في المناطق التي تسيطر عليها قواته في مقاطعة كورسك الروسية".
وكان القائد العام للجيش الأوكراني، أولكسندر سيرسكي، قال في مكالمةٍ مع زيلنسكي إنّ "كل شيء يسير وفقًا للخطة"، وأنه "على الرغم من القتال الصعب والمكثف، تواصل القوات الأوكرانية تقدمها في مقاطعة كورسك"، وفق تعبيره.
وتنسجم التصريحات الأوكرانية مع تقديرات الخبراء العسكريين الغربيين، التي ترجح استمرار المعارك في مقاطعة كورسك لفترة طويلة نسبيًا، في مسعًى من جانب أوكرانيا لنقل الحرب إلى الأراضي الروسية لأطول وقت ممكن. ومما يؤكد ذلك أن الخطة الأوكرانية لمهاجمة كورسك وضعت بحيث لا يمكن تنفيذ الانسحاب إلى الأراضي الأوكرانية خلال فترة زمنية قصيرة جدًّا، وفقًا لخبراء عسكريين غربيين.
إلا أن سير الأمور يتوقف، حسب الخبراء الغربيين، على قدرة القوات الروسية في الرد، والشكل الذي ستتخذه المواجهات في الأيام أو الأسابيع المقبلة. يضاف إلى ذلك أنّ تكلفة استمرار سيطرة أوكرانيا على المناطق التي تحتلها في مقاطعة كورسك ستكون كبيرةً جدا، ومن غير الوارد على الإطلاق، حسب نفس الخبراء، أن تسعى القوات الأوكرانية إلى توسيع هجماتها في الداخل الروسي كهدفٍ استراتيجي.
3 احتمالات لتطور المواجهات
يتحدّث المحللون العسكريون عن ثلاثة احتمالات لتطور المواجهات في مقاطعة كورسك الروسية، يتمثل الاحتمال الأول في أن تتمكّن القوات الأوكرانية من مواصلة تقدمها. وهذا احتمالٌ ضعيف جدًّا، بالنظر لمحدودية موارد أوكرانيا العسكرية، والتدابير الروسية المضادة. فضلًا عن انطوائه على مخاطر كبيرة في أن تكون المعارك المستقبلية في كورسك دموية، خاصةً إذا اختارت أوكرانيا أن تتعامل مع هذا الأمر بما هو هدف. وحينها لا بدّ من إسنادٍ غربي غير مسبوقٍ، وهذا من شأنه أن يقود لمواجهةٍ بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، وهذا هو ما يعني في عرف الأدبيات العسكرية "الحرب العالمية الثالثة".
كشفت تصريحات المسؤولين الروس أنّ بوتين لا ينوي سحب جزءٍ من قوات من دونيتسك إلى كورسك
يدور الاحتمال الثاني حول فرضية المكوث لأطول فترة ممكنة، وهذا سيتطلب من الأوكرانيين وقف تقدمهم، والدفاع عن مناطق سيطرتهم الجديدة، وهذا احتمالٌ ممكن، وفي حال تواصله سيحسّن الموقف التفاوضي لأوكرانيا في أي مفاوضات مستقبلية مع روسيا. لكنّ كلفة هذا الخيار باهظةٌ هي الأخرى، وسيكون بالضرورة على حساب أولويات أخرى من قبيل تحرير الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا، بل "ربما يتحوّل هذا الخيار إلى فخٍّ لاستنزاف القدرات الأوكرانية"، حسب محللين.
أمّا الاحتمال الثالث فيتمثل في أن تتمكن روسيا، بفضل التعزيزات العسكرية الكبيرة، من احتواء الهجوم الأوكراني على كورسك، ودفع القوات الأوكرانية إلى خارج حدود البلاد، وهو احتمال راجحٌ بقوة، والشيء الوحيد غير المؤكد فيه، حسب المحللين، هو عامل الوقت فقط وسرعة القوات الروسية في الخروج من وضع الصدمة والارتباك.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ تصريحات المسؤولين الروس تكشف أنّ بوتين لا ينوي سحب جزءٍ من قوات من دونيتسك إلى كورسك، ويرى المحللون أنّ موسكو إذا استطاعت طرد القوات الأوكرانية من أراضيها وواصلت تقدمها في دونيتسك، "فإن النجاح التكتيكي لأوكرانيا يمكن أن يتحوّل إلى هزيمةٍ كبرى. وعلى العكس إذا خفّ الضغط عن دونيتسك، وتمكنت أوكرانيا من التقاط أنفاسها لتعزيز دفاعاتها، وضخ أسلحةٍ وعناصر بشرية جديدة، فإن مغامرة الهجوم على كورسك قد تحقق هدفًا".