وُصِف المصور البريطاني دون مكولين (1935)، بأنه "ضميرٌ يحمل كاميرا". وبالنسبة للبعض، يبدو الوصف دقيقًا طالما أنه يتعلق بشخصٍ يستفز، عبر ما يلتقطه من صورٍ في أماكن تتنازعها الصراعات والأزمات والحروب، ضمائر الآخرين. ويمكن القول إن هذا الاستفزاز، القائم أساسًا على صدم المتفرج، هو التيمة التي تُعنون ما التقطه مكولين من صورٍ على امتداد نحو ستة عقودٍ من الزمن، بالإضافة إلى أنه الهدف غير المعلن من معرضه الجديد، الذي يستضيفه "متحف تيت" في مدينة ليفربول البريطانية حتى التاسع من أيار/ مايو المقبل.
حضور الفاجعة في صور دون مكولين واضحٌ ومركزي، بالإضافة إلى أنه قوي ومؤثر ومحمل بالدلالات
يضم المعرض الذي افتُتح في منتصف أيلول/ سبتمبر الفائت، نحو 250 صورة، التقطها المصور الصحافي البريطاني أثناء تغطيته الحروب والنزاعات في دولٍ مختلفة، مثل قبرص ولبنان وفيتنام وسوريا وإيرلندا الشمالية، بالإضافة إلى الهند وبعض الدول الأفريقية، وذلك على مدار حوالي 60 عامًا، عايش خلالها صراعاتٍ ومجاعاتٍ وأوبئةٍ مختلفة، احتلت الجزء الأكبر مما وثقه عبر عدسته خلال تلك السنوات.
اقرأ/ي أيضًا: معرض هلا عز الدين.. محو المسافة بين اللوحة والمتفرج
تحيل الصور الموزعة على جدران المعرض إلى سؤالٍ سبق وأن طرحته الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش: "ما الذي نقدر نحن على إدراكه؟ هل بمقدورنا الوصول إلى المغزى الكامن في هذا الرعب غير المعروف لنا من قبل ووعيه تمامًا؟". ويحيل هذا السؤال بدوره إلى الطريقة التي يتعامل بها الإنسان، عادةً، مع الأحداث المفاجئة التي تبدو، بالنسبة إليه، فوق كل تصور، وأعلى من أي معرفة.
وترتبط هذه الأحداث، غالبًا، بـ"الفاجعة" التي درج مكولين على تقديمها كما عاينها هو بنفسه، باعتبارها أقرب إلى ضربة توقظ الوعي عند الفرد بشكلٍ غير مسبوق، بحيث يضعه، فجأة، أمام سيلٍ من الأسئلة التي يمكن اختزالها بسؤالٍ واحد: ماذا حدث؟ وهو سؤال يشير إلى ولادة زمنٍ جديد ومختلف، يلدُ بدوره إنسانًا جديدًا يشغله، دون وعيٍ منه، البحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ تولد من أخرى سبقتها، وتنتهي جميعها بالعودة إلى البداية، إلى ما حدث أولًا.. إلى الفاجعة.
هذا بالضبط ما يظهر في صورةٍ التقط فيها مكولين ردة فعل امرأة تركية، لحظة سماعها نبأ مقتل زوجها في الحرب الأهلية القبرصية، بالإضافة إلى صورة يظهر فيها مقاتلون لبنانيون يحتفلون بمقتل فتاة فلسطينية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عدا عن صورة لأمٍ فلسطينية تندب فوق أنقاض بيتها في مخيم صبرا، بعد المجزرة الشهيرة التي ارتُكبت فيه في ثمانينات القرن الفائت، وأخرى وثّق فيها المصور البريطاني تعابير وجه جندي أمريكي بعد معركة هيو خلال الحرب الفيتنامية.
اقرأ/ي أيضًا: فوتوغرافيا جوزيف كوديلكا.. خراب بيروت المضيء
حضور الفاجعة في صور دون مكولين واضحٌ ومركزي، بالإضافة إلى أنه قويٌ ومؤثر ومحمل بالدلالات لاعتباراتٍ مختلفة، تُجمع على أن المصور البريطاني إنما سعى، خلال سنوات عمله، إلى مطاردة الفاجعة والتقاطها، معتمدًا في ذلك على اللونين الأبيض والأسود، لسبب بسيط يفسره على النحو التالي: "عندما ترى صورة بالأسود ولأبيض، لا تبارح مخيلتك (...) أعرف جميع الألوان، لكن لسببٍ ما، أقول في نفسي عندما أتواجد في الغرفة المظلمة: من ينظر إلى هذه الصورة لن ينساها، لأنني سأضخ فيها كل ما أمكنني من قوة ووقع. هذا ما أريد أن يراه الآخرون في أعمالي. لا أقبل بأن أمنحكم جولة بالمجان لأن أحدهم يعاني وأنتم بمنأى عن المعاناة. عندما تنظرون إلى صوري، سوف تشعرون بالألم الذي يعتصرهم".
استفزاز ضمير المتفرج وصدمه هو التيمة التي عنونت الصور التي التقطها دون مكولين على مدار نحو ستة عقودٍ من الزمن
بجملةٍ أخرى، يمكن القول إن مكولين كان يتحرك انطلاقًا من إدراكه، في استعارة لواحدة من مقولات جون برجر، بأن مجريات العالم بلا رحمة، ويتعذر تفسيرها، بالإضافة إلى أن الحياة مليئة بظروفٍ وأحداثٍ تتكرر بشكلٍ مستمر، حتى تصير مألوفة بالرغم من غرابتها. هنا بالضبط، تتجسد المهمة التي رسمها المصور البريطاني لنفسه، وهي التقاط صورٍ ترسم خطًا فاصلًا يميز بين حدثٍ وآخر، أو كارثةٍ وأخرى، بهدف مواجهة المألوف، وتقديم كل حادثة/ كارثة، بغض النظر عن اختلاف طبيعتها، على أنها مصدر لفجائع جديدة، المألوف الوحيد فيها هو السماح بتكرارها في أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: