ما هي الأحلام؟ وماذا تقدم لنا؟ سؤال قديم وجذاب قدم الكلمة المكتوبة بحد ذاتها. رأى فرويد الأحلام وسيلة يحقق بها الإنسان نائمًا ما لا يستطيع تحقيقه وهو يقظ. وعند فروم، كائنًا ما كان الدور الذي يقوم به الحالم أثناء حلمه، فإنه هو الذي يبتدع هذا الحلم. إنه حلمه هو، وهو الذي ابتدع حبكته ولا أحد سواه، وبالرغم من أن الأحلام لها صفات عجيبة، فهي لا تخضع لقوانين المنطق التي تحكم فكرنا أثناء اليقظة. كما أنها تجهل مقولتي الزمان والمكان جهلًا مطبقًا، ويتصف الحلم أيضًا بأنه يبعث في الذهن أحداثًا وأشخاصًا لم يسبق لها أن خطرت للحالم ببال منذ سنوات طويلة، ولم يكن له أن يتذكر وقائعها في حالة اليقظة أدنى تذكر.
وجد كارل يونغ في الأحلام طريقة تسهم في صنع العالم الخارجي
وجد كارل يونغ في الأحلام طريقة تسهم في صنع العالم الخارجي، فيما تستشف المستقبل البعيد وتسوق الإنسان سوقًا نحو تحقيقها.
اقرأ/ي أيضًا:إيتوري سكولا المنشغل بالآخرين
ولكن أحد أدق وأهم التفسيرات ارتباطًا بالأحلام، ودورها في الأعمال الفنية هو ما كتبه كارل يونغ أن "أحلامنا وكوابيسنا هي ذاتها أحلام الناس الذين عاشوا منذ آلاف السنين وكوابيسهم". لهذا فأنه ليس من النادر أن يشعر الأديب أو الفنان بأنه يكتشف أن عمله قد سبق وإن حلم به من قبل. لأن الأديب يخضع حين يكتب أعماله لإرادة أخرى تختلف عن إرادته الشعورية. هكذا صنع الإنسان الطائرة وطار بعد أن ظل "يحلم" بالطيران مئات القرون.
هل ننتهي من هذا إلى أن العمل الفني نتاج مميز، بل هو نتاج كلي للأحلام؟ وأن على الإنسان أن يستمر في الأحلام حتى لا يفسد الأمور؟ وأن الأحلام، هي أنسب الحالات للإبداع؟
دافع فلليني عن نظرية يونغ بتحمس شديد، كما هو الشأن في افتتاحية مذكراته، سنجد قطعة أدبية جميلة عنوانها "الأحلام هي الحقيقة الوحيدة". كما نجد فيها العناصر التوضيحية لبعض الأفلام التي أخرجها فلليني، والتي أراد فيها أن يثبت وجوده إزاء وجود الأحلام.
وإذا صدقنا ما يقوله يونغ، وما صنعه فلليني، نرى أن الأحلام كانت إلى ذلك الوقت، لا تستطيع أن تميز إن كانت هذه، ذكرياتي أنا أم ذكريات إنسان آخر، فُرضت عليّ، كما هي حال أكثر ما نتذكر. وأيضًا، حقيقة أن الأفكار تأتي في الأحلام، ولا نعرف كيف أو لماذا أتت، فأن الإبداع يظل متوقفًا على شيء لا نتحكم فيه، وإن هناك خوفًا دائمًا من أن يذهب، مثلما جاء، مكتنفًا بالغموض.
ومن بين جميع أفلام فلليني الوحيد الذي ناقش الأحلام، فيلم"ثمانية ونصف" (½8). يقول فلليني، إنني "حلمت مرة أنني كنت أُخرج فيلمًا، وكنت أصرخ، ولكن من غير تصويت، وكنت أصيح من غير أن يصدر عني شيء. كان الممثلون والتقنيون منتظرين تعليماتي". يعرف كل من شاهد الفيلم، أنه عبارة عن سيرة ذاتية لمخرج يدعى "جويدو"، يعاني من العجز المهني، والتي تهدد كل المبدعين، حيث يجتمع حول جويدو الممثلون والتقنيون في مكان واحد منتظرين إفصاحه عن سيناريو الفيلم، وتوزيع الأدوار.
يبدأ الفيلم بكابوس مريع. حيث يجد جويدو نفسه مختنقًا في إحدى السيارات وسط زحمة الطريق. ثم يطير في السماء، وهناك شخصان على الشاطئ أحدهما يمسك به بحبل مشدود في قدمه، والآخر يأمره في النزول، وينتهي الحلم. ولا يتوقف الفيلم هنا، بل ينتقل إلى تمثيل الأحلام على أن للعقل تاريخًا تطوريًا طويلًا يجره خلفه. إذ لا يمكن أن تكون الأحلام ناتجًا بلا تاريخ، فالأحلام ترجع إلى الماضي من خلال اللغة والموروثات الثقافية.
وهذا يبدو جليًا من خلال الحلم الثاني، الذي قدمه فلليني. حيث يحلم جويدو بجمع كل النساء في حياته الماضية والحاضرة، في وئام. وإن نساءه يحببنه إلى حد يمكن معه أن يرغبن في الاشتراك فيه، وأن يفهمن إن كل واحدة منهن تمثل مرحلة معينة من حياته، ومشاعر متباينة. ثم تحول الحلم مع نزول "جاكلين" من الأعلى وتمردها على جويدو. كان واضحًا أننا أمام تمثيل لقصة إبليس والله. ومن هنا يتحول الأمر إلى الرموز التي تحدث عنها يونغ في الأحلام، بوصفها مستودعًا للذكريات الموروثة من الماضي. هذا الماضي الذي يشمل تاريخ الإنسان الديني والأسطوري.
وفي الحلم الأخير، بعد مرور الوقت، نجح كل الممثلين والتقنيين في الضغط على جويدو للكشف لهم عن السيناريو. كان جويدو مندهشًا من الأحداث التي سيق إليها، فقفز إلى وسطهم وقتل نفسه. وبعد موت جويدو، تواصلت المقاربة مع إعلان نيتشه عن موت الإله، نحن من قتلنا الإله.
في الفيلم يبحث البطل عن نفسه، ويقرر أن يخرج فيلمًا، وبعد ما يقارب عشرين عامًا من الإخراج، يكتشف أنه لا يملك أي فكرة. وفي الأحلام، يجد جويدو نفسه هو الرب، وأن هذه الاحالة المتواصلة بينهما هي اللعبة الأثيرة في هذا الفيلم.
وينسج فلليني حول هذا الموضوع جميع مفارقاته عن مصير الإنسان. حيث ينتهي إلى اعتبار كل المجهودات لإدراك معنى الوجود، دائمًا ما تنتهي بالفشل. وإن الرب نفسه، لا يملك أي فكرة تشكل مفتاحًا لفهم وجودنا. لأن الله فنان خلاق، وفي نشاطه الإبداعي يتملكه العجر المهني، شأنه في ذلك شأن المبدعين. وعندما أدرك الإنسان موت المعنى، مات الإله.
في "ثمانية ونصف"، يبحث البطل عن نفسه، ويقرر أن يخرج فيلمًا، وبعد ما يقارب عشرين عامًا من الإخراج، يكتشف أنه لا يملك أي فكرة
من الصعب التحدث عن الفيلم بأكمله، فهناك بالإضافة إلى ما ذكرت، العلاقة بين جويدو ولويزا، وما كان بينهما، وما تبقى من تلك العلاقة. والمشكلة التي يعاني منها جويدو، وهو أنه محاط بالنساء، وأنه لا يجد في كل واحدة منهن امرأته، ومن جهة أخرى، تعتقد كل امرأة منهن أنه رجلها.
اقرأ/ي أيضًا: 5 من تحف السينما الإيطالية
في النهاية، أود أن أشير إلى أن مكان الحلم الأول، هو ما انتهى به المخرج. أما في ما يخص اختيار فلليني إلى "½8" عنوانًا للفيلم. أظن أن هذا العنوان يشير إلى عدد النساء الذين تقدمن للحصول على دور في الفيلم، ولا دخل لتجربة فلليني الإخراجية بذلك. في مذكراته يذكر فلليني أن هناك أسطورة تقول، إن "الزواج يصنع من الاثنين واحدًا. والأمر ليس كذلك، إذ أن الاثنين قد يصبحان اثنين ونصف واحد، أو ثلاثة، أو خمسة، أو أكثر".
اقرأ/ي أيضًا: