تدور أحداث فيلم "البائع The Salesman" للمخرج الإيراني أصغر فرهادي حول الزوجين عماد ورنا اللذين يهويان التمثيل المسرحي، وأثناء الفترة انتظامهما على تأدية مسرحية "موت بائع متجول" الشهيرة للمسرحي الأمريكي آرثر ميلر، تتعرض رنا لمحاولة اعتداء جنسي، تدمرها نفسيًا، وتفقدها تمامًا الشعور بالأمان، مما يدفع زوجها عماد لمحاولة معرفة الجاني، والانتقام منه.
تنتقد مسرحية آرثر ميللر ما آل إليه الحلم الأمريكي على أرض الواقع، في منتصف القرن العشرين، من خلال قصة مندوب المبيعات المسن ويلي
أكتب هذه السطور بعد مشاهدتي الثانية للفيلم، فقد كنت شاهدته قبل أشهر قليلة، مباشرة بعد نيله أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وقد أعجبني جدًا حينها، ولكنني شعرت أن هنالك حلقة مفقودة في فهمي له، مردها -حسب ظني حينها- عدم مشاهدتي أو قراءتي لمسرحية آرثر ميلر "موت بائع متجول"، والتي نرى لها حضورًا طاغيًا في الفيلم، بداية من عنوانه "البائع"، ومرورًا بمشاهد عدة من المسرحية نرى أبطال الفيلم يؤدونها أمامنا، وما عزز هذا الشعور بعدم الفهم الكامل، عجزي بعد المشاهدة الأولى عن إمساك أي فكرة جوهرية، أستطيع أن أقول عنها أنها ما أراد المخرج أصغر فرهادي أن يقوله من خلال فيلمه، والسيناريو الذي كتبه بنفسه.
لذلك شاهدت فيلم "موت بائع متجول Death of a Salesman" الصادر سنة 1985 من إخراج الألماني Volker Schlöndorff، وبطولة Dustin Hoffman في واحد من أروع أدواره، ورغم أن هذا الفيلم تلفزيوني إلا أنه أهم أفلمة لمسرحية آرثر ميلر، لأنه هو بنفسه من قام بكتابة السيناريو، وهو أمر لم يقم به مع الأفلمة الصادرة سنة 1951، مما أفقدها جزءًا كبيرًا من قيمتها، رغم ترشحها لخمسة أوسكارات بالمناسبة. وبعد مشاهدتي لأفلمة المسرحية، عدت إلى فيلم "البائع" لأشاهده مرة ثانية بعين جديدة.
اقرأ/ي أيضًا: فرقة "مونتي بايثون" وكوميديا أفلام السبعينات التي لن تتكرر
تنتقد مسرحية آرثر ميللر ما آل إليه الحلم الأمريكي على أرض الواقع، في منتصف القرن العشرين، من خلال قصة مندوب المبيعات المسن ويلي، الذي يجد نفسه بعد 35 سنة من العمل، لم يحقق أحلام الثراء التي حلم بها شابًا، ولا حلم الرفاهية ببيت به حديقة وسيارة حديثة، وعوضًا عن ذلك يجد نفسه عاجزًا عن سداد فواتيره، بلا مصدر دخل ثابت، وابنان عاطلان عن العمل، يسكنون في بيت كئيب محاصر بالعمارات السكنية التي تشبه شققها علب السردين.
رؤية فيلم أصغر فرهادي من خلال مسرحية آرثر ميلر، ستجعلنا ندرك أن فيلم "البائع" ليس فيلمًا عن زوج ينتقم لزوجته، بل إن قصة الزوجين على محوريتها الرئيسية، واحتلالها لمعظم زمن الفيلم، ليست هي القصة التي صنع فرهادي فيلمه من أجلها، بل إن القصة الرئيسية في الحقيقة تعيش في هوامش الفيلم، ومحورها نقد ما آل إليه حال إيران والفرد الإيراني منذ إعلانها جمهورية إسلامية، بعد ثورة الخميني سنة 1979.
يفتتح الفيلم مشاهده بمشهد تعرض البناية السكنية التي يسكنها الزوجين عماد ورنا للتصدع، نتيجة لأعمال حفر مجاورة لها، فيهرع السكان للإخلاء تاركين أمتعتهم خلفهم، بينما يستمر الحفار بالحفر ببلادة دون توقف، معرضًا حياة الكثيرين للخطر، بما فيهم نفسه!
فيلم "Death of a Salesman" بطولة Dustin Hoffman أحد أهم مرات أفلمة مسرحية آرثر ميلر
وفي مشاهد أخرى: نرى امرأة ترفض أن يجلس عماد بجوارها في التاكسي، لتعرضها للتحرش من قبل في موقف مماثل؛ ونرى طلبة الفصل الذين يدرسهم عماد الأدب مستهترين بمادته، وعندما يعرض لهم فيلمًا إيرانيًا قديمًا لقصة مقررة في المنهج، تكون متابعة الفيلم آخر همهم؛ وعندما يتبرع عماد للمدرسة ببعض الكتب، ترفض الإدارة بعضها بحجة أنها غير مناسبة للأطفال؛ وفي المشهد الذي تمثل فيه إحدى الممثلات دور العاهرة في المسرحية، نراها تقول الجملة "لا أستطيع الخروج وأنا شبه عارية"، وهي ترتدي أمامنا حجابًا وجاكيت طويل بسبب الرقابة!
تظهر معظم المشاهد السابقة متتابعة بدون ترابط في بداية الفيلم، وسرعان ما سننساها كمشاهدين عند حدوث الحدث الرئيسي، واقعة الاعتداء على الزوجة رنا، تلك المشاهد الافتتاحية أشبه بطعوم صغيرة يرميها لنا فرهادي، ولن يلتقط ترابطها إلا المشاهدين النبيهين.
وحتى بعد إلقاء الطعم الكبير الذي سيستحوذ على انتباه جميع المشاهدين، سيستمر فرهادي بإلقاء طعومه الصغيرة، وإن كان بشكل أقل من افتتاحية الفيلم، مثل المشاهد التي تصور عدم ثقة الزوجين وجيرانهم في فاعلية الشرطة، والمحسوبية في إدارة المرور، التي ستمكن عماد من الحصول على معلومات مهمة، رغم أنها قد تجعله يؤذي مواطنًا آخرًا، هذه المشاهد التي تعيش على هامش القصة الرئيسية، هي حسب ظني التي تحمل رسالة الفيلم.
(تنبيه: القطع النصية الثلاث التالية تحمل حرقًا تامًا للفيلم، فتجاوزها إن لم تكن شاهدته، والشيء بالشيء يذكر، أنصحك أن تشاهد أفلمة مسرحية آرثر ميلر قبل مشاهدتك الأولى لفيلم فرهادي).
ما يعزز اعتقادي بهامشية قصة الزوجين في الفيلم، رغم احتلالها معظم زمنه، هو عنوان الفيلم "البائع"، والعنوان هنا من وجهة نظري لا يشير بالمقام الأول إلى عماد بحكم تجسيده شخصية البائع ويلي في المسرحية، بل تشير إلى شخصية المعتدي على الزوجة، إذ تتشابه شخصيته مع شخصية ويلي في المسرحية من عدة نقاط، فكلاهما يعمل بائعًا، ويتنقل ببضائعه بالسيارة، وكلاهما في الستينات من العمر، وخائن لزوجته التي تحبه حبًا لا يستحقه.
حرص فرهادي على "تشتيت" أعين الرقابة، ودس سهام نقده كبيض الفصح، تسبب في تشتيت الفيلم نفسه عن خط قصته الرئيسي
بل إن كلاهما متزوج منذ 35 سنة! فإذا كان ويلي ضحية الحلم الأمريكي ونتاجه، فإن بائع فرهادي المعتدي نتاج الحكم الإسلامي الإيراني الذي يدفع الناس للحياة المزدوجة والنفاق، فهو شخص مسن وقور، لا تشك لحظة عند رؤيته بأن وراء مظهره هذا شخص خائن لزوجته ومعتدٍ جنسيًا، كاد أن يقتل امرأة من أجل شهوته المكبوتة!
ولكن لا يمكننا أيضًا إنكار أن عماد هو تجلٍ آخر لويلي، ونتاج للنظام الإيراني أيضًا، الذي دفع مواطنيه إلى أحضان الفساد والمحسوبية، وتخليص حقهم بأيديهم أيضًا، أمر انتهى به إلى أن أصبح قاتلًا هو الآخر، عن طريق حرمان المعتدي المسن من أدويته، وتعريضه لضغط نفسي لا يستطيع قلبه المريض تحمله.
وإن كانت قصة الزوجين في الفيلم ليست إلا "تشتيتًا" كبيرًا، ليمرر فرهادي فيلمه الناقد على الرقابة الإيرانية، فإنه يستخدم تقنية "التشتيت" على مستويات أصغر من ذلك أيضًا لخلق التشويق، والتلاعب بأولائك المشاهدين الذين يعرفون مسرحية آرثر ميلر تحديدًا.
اقرأ/ي أيضًا: الإنسانية المأزومة بين ميلر وفرهادي
وأهم حيلة تشتيتية يقوم بها في هذا الاتجاه، جعله للممثلة التي تقوم بدور العاهرة في المسرحية، تتشابه مع العاهرة التي كانت تسكن الشقة قبل عماد ورنا، من حيث أنها مطلقة، وعندها طفل صغير، بل إن فرهادي يتمادى في محاولة الخداع والتشتتيت في أحد المشاهد، ويجعل ابن الممثلة يرسم على جدران الشقة رسمة مشابهة للرسمات التي تركها ابن الساكنة السابقة عليها، ليجعلنا نعتقد أن للممثلة دور فيما حدث لزوجة عماد، ويدفعنا للشك في طاقم التمثيل، وتوقع أن المعتدي واحد منهم.
يتعامل فرهادي مع اقتباسه لمسرحية آرثر ميلر في فيلمه بأسلوب "بيض الفصح Easter egg"، وهي أسلوب يستخدمه عادة صانعوا ألعاب الفيديو، بإخفاء رسائل سرية أو أشياء في ألعابهم، ولا يستطيع إلا اللاعب النبيه اكتشافها، ومع ذلك لا يؤثر عدم اكتشافها في تجربة الاستمتاع بالعمل ككل، ولكنه سيمثل مكافأة معنوية مفرحة.
أمثلة ذلك في الفيلم غير ما أوردناه في المقال، أنه جعل شخصية "باباك"، صديق عماد الذي سيساعده في العثور على شقة جديدة، يقوم بدور تشارلي في المسرحية، وهو جار ويلي الذي سيساعد ويلي دومًا عند وقوعه في المشاكل؛ وتتشابه شقة عماد ورنا مع بيت ويلي، من ناحية أنها منخفضة وسط العمارات العالية حولها؛ بل إن حتى تحليلنا للفيلم القائم على أنه نقد للنظام الإيراني، ليس إلا بيضة فصح كبيرة خبأها فرهادي في الفيلم بذكاء!
وهذا الأسلوب في الاقتباس، الذي يلاعب فيه المخرج مشاهديه، على روحه المنعشة لقلة استخدامه سينمائيّا، إلا أنه عيب الفيلم الرئيسي من وجهة نظري، فهو أسلوب يميل للسطحية، بل ويتسبب في تسطيح خط قصة الزوجين رغم ثرائه، نعم من الجميل رؤية هذه الحيل، لكن لا أرى أنها تستطيع وحدها حمل رسالة الفيلم على عاتقها، وإضفاء قيمة لها.
يتعامل فرهادي مع اقتباسه لمسرحية ميلر بأسلوب "بيض الفصح"، وهو أسلوب يستخدمه صانعوا ألعاب الفيديو، بإخفاء رسائل سرية في ألعابهم
إضافة إلى ذلك، فإن حتى شخصية "البائع" هنا لا تصلح لأن تكون نظيرة لويلي، وأن تتنقد الحياة الإيرانية من خلالها، لأنها تفتقد الخصوصية الإيرانية، فيمكن بسهولة اعتبارها حالة فردية، ورؤيتها في أي مجتمع؛ ومشاهد طلبة عماد المستهترين كذلك، ومشاهد هامشية دور الشرطة في رد الحقوق، فكلها ظواهر نراها حتى في دول العالم الأول، وليست مقصورة على إيران.
بعبارة أخرى إن حرص فرهادي على "تشتيت" أعين الرقابة، ودس سهام نقده كبيض الفصح، تسبب في تشتيت الفيلم نفسه عن خط قصته الرئيسي، وصحيح أنه نتج عنه فيلم جميل، بأساليب حكائية متقنة وممتعة، لكنه يفتقر القدرة على هز المشاهد، ويفتقد كثيرًا روح الخصوصية الإيرانية.
اقرأ/ي أيضًا: